بعد انقضاء النصف الأول من شهر رمضان، تبدأ ربات البيوت في الاستعداد ليوم العيد وتحضير الحلويات الخاصة به، وتلوح بوادر هذه الاستعدادات في الأسواق الأسبوعية والمساحات التجارية الكبرى والمحلات والشوارع والبيوت، فكل شيء يوحي بتحضيرات خاصة تختلف عن بقية أيام شهر رمضان.
فـ"صحن الحلو" هو عادة تونسية أصيلة توضع على الطاولة في المنازل أيام عيد الفطر مقدمًا إلى الزائرين والمهنّئين، في حين تحافظ أسر كثيرة، خاصة في الجهات الداخلية والأرياف، على عادة تبادل حلويات العيد التي تقطع كيلومترات عديدة وأحيانًا محيطات وبحارًا لتصل إلى أصحابها.
شاهد/ي أيضًا: فيديو: هل تشترون حلويات العيد أم تعدونها في البيت؟
إعداد حلويات العيد.. عادة تونسية راسخة
تأثرت عادة إعداد حلويات العيد بمستجدات الحياة العصرية ومتغيراتها إلا أنها حافظت على جوهرها، إذ تتفنن السيدات في تحضير الحلويات في ليالي رمضان إلى وقت متأخر فيما تخيّر بعضهن الشراء من محلات تكتظّ بالزبائن في الأيام الأخيرة من الشهر المعظّم.
"صحن الحلو" هو عادة تونسية أصيلة يوضع على الطاولة في المنازل أيام عيد الفطر مقدمًا إلى الزائرين والمهنّئين
وتقبل ربات البيوت على اقتناء المواد الأساسية للحلويات من دقيق وسكر مطحون وزبدة ومكسرات وزيت لصنع أصناف من الحلويات تختلف من جهة إلى أخرى وحسب القدرة الشرائية للأسر وأحيانًا حسب الرغبة.
تقلب الحاجة "ربح" السميد وزيت الزيتون في قصعة من الخشب وتضيف الماء شيئًا فشيئًا، في هذا المنزل اعتادت هي وبناتها وأخواتها على تحضير مقروض العيد في آخر أيام شهر رمضان استعدادًا ليوم العيد. تجتمع النسوة على الطاولة وتقسمن بينهن الأدوار، يطرحن العجينة على الطاولة المستديرة في شكل خط مستقيم ويحدثن نتوء داخله يضعن فيه معجون التمر والقرفة. ثم يغلق العجين ويُطبع عليه بالـ"القاروض" (آلة يدوية من الخشب أو البلاستيك)، تُقطع حدود كل حبة بالسكين ثم تُقلى في الزيت الساخن، ومنه إلى "القطر" الذي يضفي لونه الذهبي للشكل لمعانًا وللذوق حلاوة، لتملأ رائحة "المقروض" كامل أرجاء البيت وتنتشر في الشارع.
وعلى مدى أيام متتالية وصولًا إلى ليلة العيد، تجتمع النسوة لتحضير "البشكوتو"، و"الغريبة" و"اليويو" و"الزوزة" و"الصابلي"، وهي أصناف شعبية للحلويات الأكثر تداولًا لدى الأسر التونسية والأقل تكلفة.
حلويات الكعك ورقة في الفرن (رجاء غرسة/ألترا تونس)
وتحضّر التونسيات في هذه المناسبة ثلاثة أنواع من "الغريبة"، وهي غريبة الحمص وغريبة الدرع وغريبة الفارينة (الدقيق)، تخلط فيها مقادير من الحمص المطحون أو الدرع أو الدقيق بالزيت أو الزبدة المُذابة ثم تشكل بالقمع أو آلة الغريبة (من الفولاذ المقاوم للصدأ –ستانلستيل- أو بلاستيك) قبل أن ترسل في أطباق مستطيلة الى فرن مخبزة قريبة. ويقضي أفراد الأسرة، وتحديدًا الأطفال البالغين غالبًا، ليلة تحضير "الغريبة" أو "البشكوتو" ذهابًا وايابًا بين البيت والفرن يجرون الأطباق حتى ساعات الفجر الأولى.
"هذه عاداتنا ورثناها عن أمهاتنا وجداتنا وأنا اليوم أُوصي بها بناتي وحفيداتي"، تواصل هذه السبعينية صنع المقروض دون أن تغفل على ما تصنع البقية، توجههنّ: "يجب تغطية التمر بالعجين كي لا تحترق حبة المقروض في الزيت وتنفتح عند القلي".
نعيمة (ربة بيت): تحدد رغبة أطفالي الأصناف التي أحضّرها من حلويات للعيد، لاصطحاب بعضها عند زيارة الأهل والباقي لاستهلاك الأسرة
تستعين نعيمة أيضًا بقريبتها التي تجيد صنع الحلويات التقليدية، وتقول لـ"ألترا تونس": "أفضل تحضير الحلويات في المنزل لأنها أفضل وصحية وتكلفتها أقل. وتحدد رغبة أطفالي الأصناف التي أحضّرها للعيد لاصطحاب بعضها عند زيارة الأهل والباقي لاستهلاك الأسرة". أما هاجر، فهي فتاة تمتهن صناعة الحلويات التقليدية في منزلها وتستقبل طلبيات الزبائن من "كعك ورقة"، و"كعابر لوز"، و"صمصة" و"غريبة" وأغلبها تعتمد على المكسرات مكونًا رئيسيًا، وهو ما يفسّر ارتفاع سعرها مقارنة ببقية الأصناف من الحلويات.
ويمثل صنع الحلويات طيلة النصف الثاني من رمضان مورد رزق إضافي بالنسبة لها، وأغلب الطلبيات التي تتلقاها هي غالبًا من أجل إرسالها للأبناء والأقارب في الخارج. إذ تزدحم، في هذه المناسبة، مكاتب البريد بالطرود البريدية والعلب التي تختلف أحجامها ووجهاتها وأصناف الحلويات فيها.
مطاعم تتحوّل إلى محلات لبيع الحلويات
تمنع متطلبات العمل نساء كثيرات من أن تقمن بتحضير الحلويات للعيد فيفضّلن اقتناءها جاهزة من المحلات أو ممن يصنعنها في منازلهنّ. لذلك تتحول مطاعم ومحلات الأكلات السريعة في الأحياء الشعبية وبعض أنهج العاصمة تونس إلى محلات لبيع الحلويات في آخر أيام شهر رمضان.
تمنع متطلبات العمل نساء كثيرات من أن تقمن بتحضير الحلويات للعيد فيفضّلن اقتناءها جاهزة من المحلات أو ممن يصنعنها في منازلهنّ
اقرأ/ي أيضًا: غزوة "الكنافة" في تونس!
في الشارع المؤدي من "ساحة برشلونة" إلى "باب الفلة" بالعاصمة، حلّت الحلويات محلّ البيض المسلوق و"الشباتي"، وقد رُصّفت المواد المعروضة بإتقان وتناسق في الأشكال والألوان وكأنه محل حلواني. قبل الإفطار، وقفت سيارة بيضاء أمام المحل وانطلق سائقها في تفريغ بعض الحمولة، وهي كراتين كبيرة أسرع صاحب المحل في إدخالها. ثم واصلت السيارة سيرها قبل أن تتوقف أمام المحل الثاني ثم الثالث والرابع، تزودها جميعًا بالبضاعة بنفس الطريقة.
هي محلات متقاربة في شارع كثير الحركة ومزدحم. قبل الإفطار، يتوقف أحدهم أحياًنا ليطلب بعض الحلويات من أحد هذه المحلات بكمية قليلة غالبًا من أجل السهرة، ولكن بعد الإفطار، يصبح المرور عبر هذا الشارع عسيرًا مع انتشار صفوف طويلة من الزبائن لشراء حلويات العيد بكميات كبيرة.
"هنا الأسعار مناسبة، أستغل فرصة وجودي لشراء ملابس العيد لأطفالي لأشتري أيضًا حاجتي من الحلويات للعيد. أنا أعمل وليس لدي وقت ولا جهد لصنعها في المنزل"، تقول شريفة التي تقتني حلويات العيد من هذا المحل منذ خمس سنوات لـ"الترا تونس".
تتحول مطاعم ومحلات الأكلات السريعة في الأحياء الشعبية وبعض أنهج العاصمة تونس إلى محلات لبيع الحلويات في آخر أيام شهر رمضان
ولم تكن رحلة البحث عن محلات بيع الحلويات شاقة بل هي متوفرة ولا يخلو منها شارع أو حيّ، تتشابه الواجهات البلورية لمحلات العرض والبضاعة المعروضة هي نفسها تقريبًا.
في أحد الأحياء الشعبية في أطراف العاصمة، يوحي محل وقفنا أمامه أن عملية صنع الحلويات تتم داخله بمعاينة انتشار الأطباق بالداخل، لكن سامي صاحب المحل قال لنا إن هذه الأطباق تأتي جاهزة من المصانع.
إلى حدود ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان، لم يسجل هذا المحل إقبالًا يذكر ما عدا بعض من يشتهون تذوق أصناف معروضة يقتنون منها كميات قليلة. ولم تتغير واجهة هذا المحل كثيرًا منذ النصف الثاني من شهر رمضان. يضيف صاحب المحل أن الإقبال على اقتناء حلويات العيد يكون خلال الأسبوع الأخير من رمضان ويبلغ ذروته يومين قبل العيد.
معارض افتراضية لتسويق البضاعة
تغزو، قبيل أيام العيد، صور الحلويات وصفحات صنّاعها مواقع التواصل الاجتماعي في بضاعة متنوعة بين الأصيل والمبتكر. إيناس سعيد وجدت في صناعة الحلويات في منزلها مورد رزق لها، وصار لها زبائنها بفضل صفحة لها على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، هو بمثابة متجر افتراضي تعرض عبره بضاعتها وتتواصل مع الحرفاء.
تقول إيناس لـ"ألترا تونس" أنها خضعت إلى دورات تدريبية في اختصاصات عدة في الحلويات قبل أن تبدأ مشروعها الذي اختارت أن يكون في المنزل لتتمكن من رعاية أطفالها الثلاثة.
إيناس بصدد إعداد حلويات "الصمصة"
وليست إيناس الوحيدة التي اختارت ان تجعل من مطبخها مشغلًا لصنع الحلويات ومن صفحة خاصة على "فيسبوك" متجرًا افتراضيًا لها، إذ تعترضك عشرات الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تسوق لهذه المنتجات ناشرة صورًا تجذب إليها الحرفاء. وتقبل السيدات العاملات على طلب حاجتهم من حلويات العيد عبر مواقع التواصل الاجتماعي لأنها تجنبهم عناء التنقل إلى المحلات لاختيار البضاعة بل هي تقدم خدمة التوصيل إلى المنازل.
وبغضّ النظر عن الصّنف والمصدر وما طرأ من ابتكارات، لا يزال "صحن الحلو"، الذي يقدم للضيف أو يُرسل إلى جار أو قريب، محافظًا على حضوره أيام عيد الفطر في منزل العائلة التونسية.
اقرأ/ي أيضًا: