13-أغسطس-2019

مدينة السحر والسمر في تونس العاصمة (Getty)

 

"نرجعلك من ضحكة العمر يا نسمة حلق الواد كاينك عروسة البحر وأنا السندباد، في قلبي غناية تعشّق أنا وممّو العين نرميلك بوسة يا عروسة بالسرقة على العباد"، كلمات تغنى بها لطفي بوشناق عن حلق الوادي أو "صقلية الصغيرة" كما يحلو لسكّانها مناداتها.

تُعتبر مدينة حلق الوادي وجهة نموذجية في العاصمة للاصطياف أو لأكل السمك و"البريك" ولكنها أصبحت مصدر تذمّر وتشكي الكثير من مرتاديها

هي مدينة السحر والسمر والملجأ الأقرب لسكان الضواحي للاستمتاع بنسيمها. فكلّ سكّان الأحواز يعتبرونها وجهة نموذجيّة إما للاصطياف أو لأكل السمك و"البريك"، مدينة لا تهدأ الحركة فيها وتظل مستيقظة إلى حدود الساعات الأولى من الفجر.

لكن رغم مكانتها الرمزيّة لدى التونسيين، إلّا أنّ حلق الوادي أصبحت اليوم مصدر تذمّر وتشكّي الكثير من مرتاديها. فكيف تحوّل سحر هذه المدينة إلى فوضى؟ ولماذا يلازم الناس زيارتها رغم ما طرأ عليها من تغييرات؟

رحلة "تي جي آم" إلى المدينة الساحرة

"محلاها أيام تشبه المنام من كل أجناس غني مع فقير، نبدا المنام من TGM والدنيا قلب كبير"، هكذا تقول الأغنية إذ لا يمكن الحديث عن حلق الوادي دون الحديث عن الرحلة التي تنطلق من محطة تونس البحرية.

رحلة رغم قصرها إلا أنها تحمل في ثنياها الكثير من السحر، عشر دقائق كفيلة بأن توصلك وجهتك وعشر دقائق كفيلة بأن تسبح خلالها في عالم الأحلام، فمن منّا لم يلقي لأحلامه العنان وهو متكئ على نافذة قطار الضاحية الشمالية؟ من منّا لم يزدد حماسه مع صوت صرير العجلات على السكّة الحديديّة وهزّات العربات؟ قطار حمل الكثير من قصص العشق وغبطة الأطفال وجموح مراهقين اختاروا بابه مقعدًا لإثبات شجاعتهم.

لا يمكن الحديث عن حلق الوادي دون الحديث عن الرحلة التي تنطلق من محطة تونس البحرية (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

اقرأ/ي أيضًا: أي مستقبل للمدينة العتيقة بسوسة؟

فور وصولك هذه المدينة البحريّة، تستشعر أصالتها وعراقتها من خلال طابعها المعماري الخاص والذي يشهد عليه أهمّ المعالم الأثرية في تونس. نتحدث عن "كراكة حلق الوادي"، وهو برج كان سجنًا في عهد البايات الحسينيين، يحتضن اليوم المهرجات الثقافية للمدينة بالإضافة إلى مقام الولي الصالح "سيدي الشريف" الذي يعتبر وجهة مناسبة لهواة الآثار.

و"صقليّة الصغيرة" تُعتبر رمزًا للتعايش السلمي حيث اجتمعت فيها عديد الملل والأديان، وتجاور فيها المسجد بالكنيسة وبالمعبد اليهودي ونعم الجميع بحياة آمنة على امتداد عقود من الزمن.

من لم يأكل "بريك" حلق الوادي؟

على بعد بضع خطوات من "الكراكة"، تمتدّ سلسلة من المطاعم سواء الشعبية أو المصنّفة حيث يجد الكل ضالته من أكل لذيذ حسب امكانياته المادية. هو شارع "روزفيلت" الذي ينطلق من ساحة النصر ويتواصل على امتداد البصر بالمطاعم والمقاهي والحانات.

ولا يمكن لزائر هذا الشارع ألا يمر بمحل العم محسن الذي يعتبر "ملك البريك" في حلق الوادي على امتداد خمسين عامًا، محل على بساطته إلا أنه يحمل الكثير من الذكريات في عيون العاملين به والذين تلتمس فيهم حسن الضيافة منذ أن تطأ قدمك المحل.

 العم محسن "ملك البريك" في حلق الوادي (إيمان السكوحي/ألترا تونس)

 

يتحدث العمّ محسن لـ"ألترا تونس" عن مدينة مولده قائلًا: يا حسرة على حلق الوادي فقد كان يحيط بها البحر من واجهاتها الأربع وكانت تعج بالنوادي البحريّة وكل من يدخلها يستشعر الدفء والأمان والسلام لما تضمّه من جنسيّات مختلفة كالإيطاليين والأسبان والفرنسيين".

 وقادنا محدّثنا إلى محلّ مجاور يحتوي في واجهته صورًا قديمة لتأكيد المعمار المميّز لهذه المدينة مسترجعًا بعض الصور التي بقيت عالقة في ذهنه حيث قال إنّ أكثر العائلات في حلق الوادي، وخاصّة اليهوديّة منها، كانت تملك "كميرس" وهي مشاريع منزليّة صغيرة تعرضها على أبواب بيوتها على حدّ تعبيره. وأضاف صاحب محل "Chez mohsen" أنّ أكلة البريك أخذت عن اليهود وأنه بدأ مشروعه متأثّرًا ببعض جيرانه اليهود.

العم محسن (صاحب محل لبيع البريك): يؤلمني حال المدينة اليوم فقد أصبحت مكتظّة وأصبح يلاحظ فيها عديد المظاهر التي لا تليق بمقام "بلاد الحوت" وخاصّة منها الأوساخ المنتشرة في كل مكان

وختم العم محسن حديثه قائلًا: "يؤلمني حال المدينة اليوم فقد أصبحت مكتظّة بالمقارنة مع السنوات الفارطة لذلك أصبح يلاحظ فيها عديد المظاهر التي لا تليق بمقام "بلاد الحوت" وخاصّة منها الأوساخ المنتشرة في كل مكان". وأكد أنه رغم محاولات البلديّة الالتزام بتنظيف المكان إلّا أنّها لا تستطيع ذلك دون مساعدة من أهالي المنطقة ودون وعي من المواطن بضرورة الالتزام بالقواعد الأساسيّة للنظافة، وفق قوله.

اقرأ/ي أيضًا: "باندية" المآوي العشوائية.. وجه من وجوه استغلال الناس

هل يختفي سحر المدينة أمام حالة الفوضى؟

مع اقتراب موعد الغروب، تشتدّ الحركية على شاطئ حلق الوادي وتلاحظ ذلك من خلال حركة المرور الخانقة في شارعها الرئيسيّ. ولكن تعم الفوضى المكان، إذ تخال أنّ جميع سكان البلاد التونسيّة ضربوا موعدًا لهم في إحدى أركان هذه المدينة. فالشاطئ ممتلئ والمقاهي لا تملك مقعدًا شاغرًا والمآوي تغصّ بالسيارات حتى أصبحت الأرصفة موقفًا لمن لم يجد أين يركن سيارته. والصخب يملأ الفضاء: سنفونيّة عنوانها أصوات المصطفين ممتزج بأنغام طربيّة وشرقيّة وغربية تنبعث من المقاهي ولحنها الرئيسي "أمان عيشك اشري من عندي" (رجاء اشتر منّي) الشعار الرسمي للباعة المتجولين.

"لم تعد حلق الوادي مكانًا ملائمًا للاستمتاع مع العائلة فأينما تحل تسمع كلامًا بذيئًا صادرًا من أطفال صغار يجعلك تصاب بالإحراج أمام زوجك وأبنائك" هكذا تذمّرت وفاء بن لطيف من الأجواء العامّة. وأضافت الزائرة للمدينة في حديثها لـ"ألترا تونس" أن الاكتظاظ وعدم الاحترام والتلوّث السمعي البصري الحسي هو ما يطغى على الأجواء على حدّ تعبيرها.

وفاء بن لطيفة (زائرة للمدينة): لم تعد حلق الوادي مكانًا ملائمًا للاستمتاع مع العائلة فأينما تحل تسمع كلامًا بذيئًا صادرًا من أطفال صغار يجعلك تصاب بالإحراج أمام زوجك وأبنائك

وأكّدت أنّ مستوى الخدمات بات كارثيًا سواء في المطاعم والمقاهي "فكأس شاي قد يتطلّب منك ساعة من الانتظار والمطعم المصنّف أصبح كالمطعم الشعبي". واسترجعت محدّثتنا ذكريات أيام خطوبتها الأولى حيث قالت إنّ حلق الوادي يشهد على قصّة حبها مع زوجها منذ أربعة عشرة سنة وأنّها تفتقد "دوليشة" (جولة) على الشاطئ على وقع صوت أم كلثوم.

لم تعد حلق الوادي مكانًا ملائمًا للاستمتاع مع العائلة (فريديرك سلطان/Getty)

 

ويشاطرها الرأي شريف اللوزي الذي أكّد أن حلق الوادي الأمس تختلف عن اليوم حيث أنّ ركوب الرتل يعتبر حدثًا مهمًا على حدّ تعبيره. وأضاف أنّ هذه المدينة رغم أنها رمز تاريخي لـ "Bon lieux" (المناطق الراقية) ومدينة السلام التي جمعت عديد الأديان إلا أنّك اليوم تتجوّل بكل حذر خوفًا من السرقة والعربدة في الطرقات على حدّ قوله.

وأشار محدّثنا إلى ظاهرة احتلال المقاهي للأرصفة وحجز أماكن السيارات أمام المطاعم بالكراسي خاتمًا حديثه بالقول: "رغم أن هذا المكان فقد "Charme" (سحره) إلّا أنني لا أستطيع ألا أزوره مرة في السنة على الأقل".

كريم العلوي (من سكان الضاحية الشمالية):  بلدية حلق الوادي مسؤولة على الفوضى فهي من تؤجر الأرصفة لأصحاب المقاهي وتتغاضى عن سوق "جماعة فرانسا" ومقصّرة في تنظيف المدينة

كريم العلوي، من أبناء الضاحية الشماليّة، أمضى طفولته وشبابه بين شواطئ حلق الوادي وأسواقها، تحدث بدوره لـ"ألترا تونس" بهذه التفاصيل: "ولد السطمبالي، أمارينا، بريك عند محسن، هي أسماء نحتت ذكريات طفولتي. فهذا المكان كان ملجئ لي ولأصدقائي، ويؤلمني كثيرًا أن أراه اليوم على هذه الحال وأتمنى أن تعود أيام زمان". ويؤكد محدثنا أن بلدية المدينة مسؤولة على هذه الفوضى فهي من تؤجر الأرصفة لأصحاب المقاهي وتتغاضى عن سوق "جماعة فرانسا" ومقصّرة في تنظيف المدينة، وفق قوله.

مدينة حلق الوادي كغيرها من المدن الساحليّة تحمل سحرًا استثنائيًا يحتاج مجهودات مضاعفة من القائمين عليه، غير أنّ كلّ المحاولات تكون غير كافية في غياب الوعي من سكّانها وزائريها من أجل المحافظة عليها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مع بورقيبة وبن علي والطرابلسية...هل فقد "السفساري" هويّته الأصلية؟

تجارة المخطوطات العبرية.. تاريخ يهود تونس المهرّب