10-يوليو-2018

سيدي محرز "حامي تونس العتيقة" وأشهر أوليائها الصالحين (يسرى الشيخاوي/الترا تونس)

في أحضان سلطان المدينة وأنت تعبر أزقّة المدينة العتيقة، أزقّة ملتوية كالأفعى وناعمة الملمس حجارتها، تخترق رائحة "السواك" و"اللوبان" جيوب أنفك، ويحملك عبق المكان إلى سنوات خلت حيث كانت النسوة لا تتخلّين عن هاذين المكوّنين.

تنوء "الأسواق" تحت عبء الأفواج البشرية المتدفّقة عليها لاقتناء مستلزمات الأعراس التي تعرف ذروتها في فصل الصيف، وتضوع رائحة البخور مؤذنة ببلوغ مقام "سيدي محرز" سلطان المدينة.

حين تتجاوز عتبة الباب الخشبي لمقام سيدي محرز، ينتابك شعور إيماني يطغى عليه الخشوع المشوب براحة نفسية وكأنّك تستجير بالظل عن الرمضاء

بعد أن تجول ببصرك بين المنتوجات التقليدية المحمّلة بقصص الجدات والحكايات الضاربة في القدم، ينال التعب من قدميك التي انزلقت مرات ومرات وكدت ترتطم بقاع الأسواق، وتتوق روحك إلى نصيب من الراحة. ذات القدمين اللتين أنهكهما التعب تهب فيهما الحماسة وتعرجان بك إلى مقام "سيدي محرز"، المنتصب في قلب مدينة تونس العتيقة بالقرب من ساحة "باب سويقة".

اقرأ/ي أيضًا: "قفة العروس" في سوسة.. سلة الاحتفالية والجمال والتحصين من الشرور

وأنت محمّل بلوازم الأفراح لا يمكنك أن تعود أدراجك دون أن تلج هذا المزار سواء لسبر أغوار المعلم التاريخي وإسكات صوت الفضول أو التبرّك براقديه أو الارتواء من العطش زمن القيظ. وبمجرّد أن تتجاوز عتبة الباب الخشبي الكبير، ينتابك شعور إيماني يطغى عليه الخشوع المشوب براحة نفسية وكأنّك تستجير بالظل عن الرمضاء.

مدخل مقام سيدي محرز في تونس العتيقة (يسرى الشيخاوي/الترا تونس)

رائحة البخور المنبعثة من آخر غرفة في المقام حيث يرقد الولي الصالح "سيدي محرز"، تحمل في خيوطها الهلامية فيضًا من الذكريات وتضفي على المكان هالة من الحنين. وأنت تطارد خيوط البخور، تقع عيناك على لافتة علّقت بالباب كتب عليها "ممنوع الدخول بلباس عار"، إجابة لمن يتساءل عن السبب الذي يدفع السياح إلى إلقاء الأوشحة على رؤوسهن، في حضرة "سيدي محرز".

اقرأ/ي أيضًا: أبواب تونس العتيقة.. حكايات التاريخ والحضارة

تعبر بهو المقام فتطالعك البئر المباركة، تشرب من القدح الفخاري على وقع ابتسامة امرأة تتسلم منك بعض المليمات أنّى رويت ظمأك وبإمكانك أن تملأ قارورة من الماء المبارك إن أردت. وأنت تراقب الإناء الفخاري يلامس شفاه الزوار، تتذكّر أن الصبيان يوم ختانهم والفتيات ليلة زفافهن يقصدون البئر المباركة، ويلقون بمائها على أيديهم ووجوههم ليحقّقوا السلام والسكينة.

تلمح على يمينك غرفة مغلقة وأخرى انبلج بابها لكنك لا تستطيع أن تميل نحوهما وكأنّ مغناطيسًا يشدّك نحو الغرفة المقابلة وقد فتح بابها على مصراعيه، تقترب أكثر فتجد امرأة جالسة على أريكة قدّت من خشب داكن اللون، تناغم تام بين الأريكة والمشرفة على غرفة الضريح حتّى بدت كأنها لا تفارقها.

البئر المباركة لمقام سيدي محرز مقصد دائم للزوّار (يسرى الشيخاوي/الترا تونس)

لا تنفكّ المرأة تنثر بسماتها ذات اليمين وذات الشمال وهي تداعب مسبحتها بأناملها، ويغمرك شعور روحاني، يدفع بك إلى الوقوف عند ضريح "سيدي محرز"، ومن المحتمل أن تتلو الفاتحة على روحه.

تنتصب في نفس المزار أيضًا أضرحة "للا خديجة" ابنة "سيدي محرز"، و"سيدي خلف" والده، و"سيدي الشريف" حلّاقه، وفيه يقيم روّاد الطريقة الشاذلية طقوسًا أسبوعية. ورغم أنّ المكان يعجّ بالزوّار من تونسيين وأجانب، افترشوا "أكلمة" (سجاد أرضي) في مقرّ الضريح إلا أنّ داخلك يمتلئ بهدوء رهيب ينبعث من ثنايا المكان.

تنتصب في مزار "سيدي محرز" أيضًا أضرحة "للا خديجة" ابنته و"سيدي خلف" والده و"سيدي الشريف" حلّاقه فيما يقيم روّاد الطريقة الشاذلية طقوسًا كل أسبوع

تغمرك السكينة، وتحاول أن ترسم في ذهنك صورة للولي الصالح "سيدي محرز"، سلطان المدينة الذي ظل خالدًا في الذاكرة الشعبية والمخيال الجمعي. ويأسرك الجمال المعماري والعمق الروحاني لمقام الولي الذي كان قبلة المظلومين وناصر المستضعفين مثلما ترويه عديد الحكايات، وتشرئبّ عنقك إلى القبّة العظيمة التي تعلو الضريح وتتوه بين تفاصيل نقوشها

الطابع المعماري العثماني لمقام سيدي محرز (يسرى الشيخاوي/الترا تونس)

ويلقي الطابع المعماري العثماني بظلاله على الأقواس التي توشّح المحل والألواح الرخامية التي تغطيّ الجدران. يتكئ الزوار على الجدران التي يكسوها الخزف الملوّن وقد نزعوا أحذيتهم ويضعون مقتنياتهم حذوهم وربما يغرق بعضهم في النوم فيما يجول الآخرون ببصرهم بين الزخارف. فمن يدخل دار سلطان المدينة، يروى من الظمأ، ويأمن من حّر الشمس، وتهيم روحه بين سحر المعمار وعمق التصوف.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جولة في "الجلاز".. ذاكرة الوطن للنسيان

متحف قلالة.. نافذة على الحياة في جربة