26-سبتمبر-2024
ائتلاف صمود

لم يكن منتظرًا من دخول البلاد إلى الزمن الانتخابي أن يُحدِث هذه الهزّة في المشهد السياسي المحاصر بسياسة تجريف الحقوق والحريات (صورة أرشيفية/ ياسين القايدي/ الأناضول)

مقال رأي 

 

"استعادة الديمقراطية أم إنقاذ الدولة؟" لم يكن هذا السؤال ليُطرح بهذه الصيغة في عشرية الانتقال. فقد كان هناك حديث من قبل القوى المحسوبة على الثورة عن استهداف الديمقراطية وضرورة الدفاع عن استمرار مسار بنائها رغم تعثره. مثلما كان هناك حديث في الجهة المقابلة المحسوبة على القديم والثورة المضادة عن أولوية الدفاع عن الدولة ومكتسباتها المدنية ومنع "أسلمتها" و"أخونتها" باسم الديمقراطية والانتخابات الحرة والنزيهة.  

ورغم حدة التوتر بين الجهتين فإن هناك تسليمًا ضمنيًا بأن صراعهما قبل الثورة تحول إلى منافسة تحت سقف الدولة بعد أن أكسبتها الثورة الشرعية المنشودة. وكان هذا عاملًا مهمًا من بين عوامل أخرى ساهمت في تواصل تجربة الانتقال لعشر سنوات، فالإجماع حول فكرة الدولة وضرورتها وإن اختُلف فيما يلحقها من صفات (عادلة، اجتماعية…)، كان أساسيًا في استمرار التجربة.

 

  • بداية الاختلاف حول الدولة

ما بين 2011 و2019 لم يكن هناك في عشرية الانتقال تلازم بين الخوف على الديمقراطية والخوف على الدولة، وإنما تقابل العنوانان وتواجها في سياق الصراع السياسي، وتحديدًا عندما أصبح الاختلاف حول شرط الديمقراطية الأساسي اختلافًا على الديمقراطيّة نفسها (الانقلاب ولا النهضة). عاشت الحياة السياسيّة في المنتصف الأول لسنة 2021 رغم أنّ الأسلمة لم تكن ممكنة لأنها لم تظهر هدفًا معلنًا في برناج الجهة "المتهمة" بها. 

ولم يكن مزاج السياسة ولا سياقاتها المحتدمة يسمحان به، وفي مقدّمتها "المجتمع المدني" الذي كان أميل إلى القديم بعد انتخابات 2011 التأسيسيّة بحجة الدفاع عما سمّي "النمط المجتمعي التونسي" في علاقة بالدولة الموروثة عن عهود الاستبداد بالثورة. ولا كانت الإطاحة بالديمقراطية ممكنة من قبل القوى التي تضررت انتخابيًا رغم بلوغ التجاذب ذروته مع الاغتيالين السياسيين في 2013.  

في أقل من سنة بعد صعود قيس سعيّد إلى رئاسة الجمهورية سنة 2019 بدأ في نقض ما تعهد به بالانزياح عن السياق القانوني والدستوري للحياة السياسية وكشف تدريجيًا عن تصور للدولة لم يكن خارج فكرة "البناء القاعدي"

وانتهى الصراع الدامي إلى صيغة الحوار الوطني. وقد كان الهدف الرئيسي من الحوار الوطني، إيقاف عملية التأسيس واستعاضت عنها بانتقال ديمقراطي. وبهذا المعنى كان الحوار الوطني السياق الملائم لتوافق جزئي. وقد عبّر عن توازن بين الجهتين السياسيتين المتصارعتين. وتمثّل حالة التوازن شرطًا لتسوية تاريخية على قاعدة الديمقراطية. 

غير أنّ دخول قيس سعيّد على المشهد غيّر من جوهر العلاقة بين جهتي الصراع. فقد اعتبر صعوده إلى رئاسة الجمهورية رجحانًا في كفتي الصراع لفائدة "الصف الثوري" (عبارة فقدت معناها اليوم). وقيل يومها إنّ الانتخابات الرئاسية في 2019 كانت طقس العبور المطلوب للانتقال إلى الديمقراطية. وكانت احتفالات الجموع الغفيرة بشارع الثورة، عقب الإعلان عن النتيجة، شاهدًا على هذا المزاج السياسي العام الغالب، ولكنه لم يكن ليُخفي ما يقابله من مزاج آخر فيه من القلق والخيبة ما فيه. 

في أقل من سنة بدأ قيس سعيّد في نقض ما تعهد به بالانزياح عن السياق القانوني والدستوري للحياة السياسية، وكشف تدريجيًا عن تصور للدولة لم يكن خارج فكرة "البناء القاعدي". وهي فكرة من مخلفات النزعات الفوضوية. وانحدرت معه إلى الشعبويّة العاميّة. ويُفسَّر تأثيرها ما كان في أزمة الكورونا التي فاقمت من أزمة البلاد المركًبة إلى جانب سياسة الترذيل والتعطيل وما رافقها من شعور متعاظم بأنّ هذا الوضع لم يعد قابلًا للاستمرار.

 

  • دولة أخرى 

من منظور الفلسفة الكليّة الدولة لا تسقط، وإنّما الذي يسقط هو النظام. وتعتبر هذه الفلسفة الدولة فكرة خارجة عن إرادة الجماعة السياسيّة ومتعالية عن وعيها. فهي تعبير روحها وتاريخها المشترك. 

والدولة، من هذا المنظور، ليست هي المؤسسات. بل هي الفكرة والسياق السوسيوـثقافي اللذان انبثقت عنهما المؤسسات. وبهذا المعنى تكون لحظة "إسقاط" الدولة، في الآن نفسه، لحظة التفكير في بنائها. وهذا قريب مما عشناه في السنوات الثلاثة الأخيرة. ونعيشه هذه الأيّام. 

بعد 3 سنوات من السلطة المطلقة كانت المحصّلة كارثيّة على كل الأصعدة، فلم تكن هناك ملامح دنيا لمشروع فعلي جديد سوى ما يردّده رأس الدولة من كلام عن الحاجة إلى مقاربات جديدة في معالجة المشاكل

لم تكن النتيجة السياسية لهذا التصور سوى هدم لا يتوقف للدولة الموروثة. وتُوِّجَ هذا الانزياح القانوني والدستوري والإرباك المستمر لعمل مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية بانقلاب على الدستور. ومعه انطلقت عمليّة هدم نسقي طال جلّ ما بنته العشريّة من مؤسسات.  

ويمكن أن نذهب إلى أنّ مشروع هدم الدولة بدأ مع السنة البرلمانيّة الأولى من مجلس النواب المنبثق عن انتخابات 2019. وقد انطلق الهدم في مسارين متوازيين (يمثلهما سعيّد والدستوري) استهدفا الأساس القانوني والإطار المرجعي للتجربة. وهو الدستور، والمؤسسة الأصليّة في النظام السياسي متمثّلة في البرلمان. وجسدت سياسة الترذيل والتعطيل تقاطع المسارين وتكاملهما وما لقياه من إسناد مما عرف بالقوى الوظيفيّة. واكتملت الصورة في التقاطع على سحب الثقة من رئيس البرلمان. 

لئن بدأت تظهر تدريجيًا الملامح الشمولية للدولة الجديدة بعد تجريف الحريات واستهداف القضاء وملاحقة قيادات الحركة الديمقراطية، فقد اكتملت صورتها المخيفة مع دخول البلاد في ديناميكية الانتخابات وما رافقها من عبث بالقانون

كانت كلّ الظروف مهيّأة لقيس سعيّد و"مشروعه"، ولكن بعد ثلاث سنوات من السلطة المطلقة التي يحصرها الأمر 117 في الحاكم الفرد كانت المحصّلة كارثيّة على كل الأصعدة، فلم تكن هناك ملامح دنيا لمشروع فعلي جديد سوى ما يردّده رأس الدولة من كلام عن الحاجة إلى مقاربات جديدة في معالجة المشاكل. ويقف عند الأقوال. وفي غياب فعل البناء لم يكن ممكنًا غير فعل الهدم الذي طال المؤسسات.   

وأبان هدم المؤسسات التي بناها الانتقال ومحاولة وضع مؤسسات بديلة عن أطر فارغة لا تكاد تغادر الدرجة الصفر للفعل. ولولا الإدارة وجهد المبادرة الخاصة في مجالات المال والأعمال وجانب من النشاط الفلاحي والتجارة الموازية لتعطلت حياة الناس.  

ولئن بدأت تظهر تدريجيًا الملامح الشمولية للدولة الجديدة بعد تجريف الحريات واستهداف القضاء وضرب مبدأ الفصل بين السلطات وملاحقة قيادات الحركة الديمقراطية، فقد اكتملت صورتها المخيفة مع دخول البلاد في ديناميكيّة الانتخابات وما رافقها من عبث بالقانون وما بقي من مؤسسات قضائيّة لم يطلها الهدم النسقي. 

 

  • انتباه متأخّر

لم يكن منتظرًا من دخول البلاد إلى ما يصطلح عليه بالزمن الانتخابي أن يُحدِث هذه الهزّة في المشهد السياسي المحاصر بسياسة تجريف الحقوق والحريات والأزمة المالية الاقتصادية المتفاقمة. 

ولم يكن متوقعًا حجم الهشاشة التي عليها سلطة الانقلاب من خلال خوفها من المنافسة الانتخابيّة الذي تحوّل إلى رعب رافق سعيها المحموم إلى إلغاء كل أسباب الاختيار الحر والانتخابات الديمقراطيّة. فتخطّت كلّ حدود العبث المعهود. فلم تقبل هيئة الانتخابات بحكم المحكمة الإدارية القاضي بإعادة بعض المترشحين ممّن استُبعدوا من الهيئة إلى السباق الانتخابي. وهو حكم نهائي لا يقبل الطعن. فالمحكمة الإداريّة هي الجهة الوحيدة المخولة دستوريًّا للحكم في النزاع الانتخابي.

لم يكن متوقعًا حجم الهشاشة التي عليها السلطة من خلال خوفها من المنافسة الانتخابيّة الذي تحوّل إلى رعب رافق سعيها المحموم إلى إلغاء كل أسباب الاختيار الحر والانتخابات الديمقراطيّة

ومع ذلك لم تتوقّف محاولات تجاوزها بتحويل مهمة حسم النزاعات الانتخابيّة إلى القضاء العدلي الواقع تحت سيطرة السلطة التنفيذيّة. وتتواصل هذه المحاولة هذه الأيّام عن طريق مشروع قانون يعرض على مجلس النواب المعروف بمجلس الـ8.8%. وقد ترسخت هذه النسبة حتى بعد أن غيرتها هيئة الانتخابات بالترفيع فيها قليلًا.

هذه التجاوزات لم تكن بالأمر الطارئ على المشهد السياسي، ولم تكن السبب المباشر في تحريك قوى ظلّت صامتة طوال السنوات الثلاثة الماضية. ذلك أنّ من لم يحرّكه حدث الانقلاب على الدستور والديمقراطية لن تحركه أحداث مشتقة منه ونتيجة له. 

وخلاصة التوترات المصاحبة للانتخابات وسياقات الاستعداد لها أنّ الانتخابات عند الرئيس المنتهية ولايته ليست منافسة بين برامج يتاح للمواطنين أن يختاروا من خلالها الشخصيّة المناسبة لقيادة البلاد وإخراجها من أزمتها المركّبة.

خلاصة التوترات المصاحبة للانتخابات وسياقات الاستعداد لها أنّها بالنسبة للرئيس ليست منافسة بين برامج يتاح للمواطنين أن يختاروا من خلالها الشخصيّة المناسبة لقيادة البلاد وإنما هي عنده مناسبة لتجديد "البيعة"

الانتخابات عنده مناسبة لتجديد ما اعتبره في السابق بيعةً وتأكيد الولاء لرؤية يعتقد في أنّها ستخلصنا وتخلّص الإنسانيّة الغارقة في مقارباتها التقليديّة وفكرها المفوّت. ونبه اعتباره الانتخابات الرئاسية مسألة بقاء أو فناء المعارضة إلى معالم دولة شموليّة لا تشبه ما عرفته تونس في تاريخها الحديث. 

وأكّد العبث المتواصل بالقوانين والاستماتة في منع كل منافسة انتخابية نزيهة وشفافة هذه الصورة. وقاد هذا الانتباه إلى أنّ المستهدف ليس الديمقراطيّة فحسب وإنّما الدولة. وبدت هذه الاستفاقة متأخّرة. 

تعرف المعارضة السياسية حالة ضعف وتشتت لا يخفيان، قد يغطي عليها توازن الضعف مع السلطة المتهالكة والعاجزة إلا عن الاستمرار في هدم ما بقي من الدولة. ولم يقف الاختلاف بين مكونات المعارضة عند التقدير السياسي وإنّما تخطّاه إلى الموقف من الديمقراطيّة نفسها. والانتباه إلى خطورة هذا اليوم ولم يكن لأسباب ذاتية سياسية ومبدئية خالصة، إذ كان للعامل الخارجي دوره البارز في الدفع إلى مهمة ملء الفراغ كي لا يملأ بما لا يمكن لجمه والتحكم به. 

 

  • ملء الفراغ 

عرف المشهد السياسي في الأسابيع الأخيرة، وتحت تأثير ترشح شخصيات وازنة وشجاعة وما رافقه من ديناميكيّة غير متوقعة، ظهور أصوات سياسيّة من هنا وهناك وأهمها صوت "الشبكة التونسية للحقوق والحريات". وتقود الشبكة تظاهرات ميدانيّة تطالب بالحقوق والحريات ولا تخفي معارضتها لنظام قيس سعيّد الذي تجاهلها بعد انقلابه دون أن تفصح عن موقف سياسي من الرهان الانتخابي. 

وهي في حقيقة الأمر تقف سياسيّا على الأرضيّة التي أقامها الحراك المواطني في مواجهة الانقلاب، وتحت سقف عنوان استعادة الديمقراطية. وهو عنوان جبهة الخلاص الوطني التي دعت على مدى السنتين الماضيتين مرارًا إلى التقاء المعارضة الديمقراطيّة للدفاع عن الديمقراطية والدولة المدنية ومكتسباتها المهددة بالانقلاب. 

تبديل هيئة الدولة وما سبقه من تجريف للحريات واستهداف لما بقي من مؤسسات كان سببًا أقوى في تقريب الشقة ولو قليلًا بين مكونات المعارضة من استهداف الديمقراطية، وبدا وكأنّه السبب الحاسم الذي دفع للتشكل من جديد، فكانت شبكة الحقوق والحريات

والجبهة اليوم تكاد تكون في حكم التجربة السياسيّة ضعيفة الأثر إن لم تكن منتهية. وكأنّها تترك للشبكة فضاءها وأرضيّتها وسقفها السياسي. فالمسألة موضوعيّة ولا تتعلّق بتسليم مهام، لأنّ من يلتحق بمناهضة الانقلاب يجد نفسه ضرورة تحت سقف استعادة الديمقراطيّة. والأمر نفسه بالنسبة للجهة المؤسسة فهي نفسها لا يمكن أن تغادر أرضيّة هي من بناها، بقطع النظر عما بقي من حضورها السياسي وقدرتها على الفعل. ومن تابع بانتباه هذه المسألة يلاحظ أثرها الميداني. 

في التحرّك الأخير في شارع الثورة ظهر التباين في الشعار السياسي بين الجهتين، ففي حين يشدد أنصار الجبهة على "إسقاط الانقلاب" يؤكّد أنصار الشبكة وهم الأغلبيّة في ذاك التحرّك على "إسقاط النظام". 

ولا يشير شعار "إسقاط النظام" إلى جذريّة بقدر ما يشير إلى التمايز عن عنوان الجبهة وموقفها، وهذا ملاحظ في بيان الشبكة التأسيسي فقد تجنّب ذكر عبارة الانقلاب وسكت عن الأمر 117 الذي يمثّل أساس الحكم الفردي المطلق الحالي والتهديد الأخطر للدولة الموروثة. 

يبدو أنّ خطأ الانقلاب القاتل هو الاتجاه نحو تبديل هيئة الدولة، وقد يكون هذا التوجه السبب الأساسي في الاختلاف داخل مركّب الانقلاب. وقد يكون هذا الاختلاف وراء فرض انتخابات لا يريدها من يؤمن بسلطة الفرد المطلقة، ويستنجد بها من يفصل بين الانقلاب ورأسه. فقد يزاح رأس الانقلاب ويبقى الانقلاب. 

تبديل هيئة الدولة وما سبقه من تجريف للحريات وتكميم للأفواه واستهداف لما بقي من مؤسسات كان سببًا أقوى في تقريب الشقة ولو قليلًا بين مكونات المعارضة من استهداف الديمقراطيّة.  وبدا وكأنّه السبب الحاسم الذي دفع إلى التشكل من جديد، فكانت شبكة الحقوق والحريات وقد تتبعها تشكيلات أخرى. وفي ذلك رغبة (تبدو شروطها المحليّة ضعيفة) تجاوز وضعيّة حرجة قائمة على توازن ضعف بين فريق في السلطة لم تعد قادرًا على الحكم ومعارضة متفقة على كلّ إلا على مشترك سياسي يجمعها لإنقاذ الدولة واستعادة الديمقراطيّة.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"