مقال رأي
فكرة التسوية والتوافق عبارتان غير مريحتين في السياق السياسي التونسي، ولا سيما في سياق الحدث الثوري في 2011. لكن تجربة الانتقال وما عرفته من تعثر وما انتهت إليه مع الانقلاب من ويلات يعيد إلى الصدارة أهمية الفكرة وأساسها بناء مشترك وطني من أجل تأسيس الحرية والمواطنة الكريمة.
وكانت فكرة اللقاء بين الثعالبيين (الإسلاميين) والبورقيبيين (بقايا الدساترة ومشتقات النظام القديم) عند الفيلسوف أبي يعرب المرزوقي شرطًا لاستقرار الدولة ونجاح الديمقراطيّة وتحقق التنمية. وهي الفكرة التي تطلّ عقب كلّ أزمة وفي ذلك إشارة إلى أنّها مكون من مكونات "السياسة العميقة".
مع عودة شخصيات وطنيّة إلى سباق الانتخابات الرئاسية بعد حكم المحكمة الإدارية التاريخي تعود فكرة التسوية بين الدساترة والإسلاميين ويعود البحث في شروطها وجدواها في إنقاذ الدولة والنظر في أسباب انحدار تجربة الانتقال الديمقراطي
ومع عودة شخصيات وطنيّة إلى سباق الانتخابات الرئاسيّة بعد حكم المحكمة الإدارية التاريخي تعود فكرة التسوية ويعود البحث في شروطها وجدواها في إنقاذ الدولة المقدّم منهجيًّا على إنقاذ الديمقراطية والنظر في أسباب انحدار تجربة الانتقال الديمقراطي وانهيارها.
-
بداية الانحدار
أشرنا في أكثر من مناسبة، قبل انتخابات 2019، إلى أنّ من أسباب صمود الانتقال الديمقراطي لأكثر من عشر سنوات ثلاثة أسباب أساسيّة:
- الإجماع على فكرة الدولة، رغم الاختلاف حول مفهومها ووظيفتها.
- مؤسسة أمنيّة وعسكريّة خارج رهانات السياسة والسوق.
- لقاء أدنى بين القوّتين السياسيّتين الأبرز (النهضة/النداء) في الوسط وضمور الأطراف من الجهتين. غير أنّه مع انتخابات 2019 ونتائجها السياسيّة بدأت هذه الأسباب الثلاثة بالانتقاض تدريجيًّا:
- اختلاف حول فكرة الدولة من خلال ما بدا يظهر في خطاب الرئيس قيس سعيّد من تصور للدولة، ومن خلال ما بدا يتضح من أدائه في علاقة بالدولة والنظام السياسي المنبثق عن دستور الثورة.
- تحرش من قبل رأس السلطة التنفيذية بالمؤسستين الأمنيّة والعسكريّة ومحاولة جرّهما إلى منطقة التجاذب السياسي المحتدّة.
- ضعف الوسط: من خلال تفكك نهائي للنداء وتشظّيه إلى زمر حزبية بأدوار سياسيّة متخارجة مناهضة للديمقراطية ومسارها، وتراجع لحركة النهضة فقدت بموجبه ثلثي قاعدتها الانتخابية. إلى جانب بروز الأطراف والخطاب القصووي بصعود ائتلاف الكرامة والدستوري الحر.
كان للانحدار أسبابه العميقة في المجال السياسي الجديد الذي فتحته الثورة.. ويظهر ذلك جليًّا في منعطفات الانتقال. ولعلّ أوّل ما يستخلص من هذه المنعطفات هو أنّ تاريخ الانتقال في وجه من وجوهه هو تاريخ محاولات الانقلاب عليه
واكتمل تطوّر المشهد سياسيًّا بظهور ثلاثي سياسي (الشعبويّة، الفاشيّة، الوظيفيّة) ولقاؤه سياسيًا وموضوعيًا على استهداف شروط الانتقال وأسباب تواصله من خلال "سياسة الترذيل والتعطيل" التي توّجت بانقلاب 25 جويلية/يوليو وقد كان تنفيذًا حرفيًا لوثيقة مارس/آذار 2021 التي كشفت عنها "ميدل إيست آي". وقد نفتها رئاسة الجمهورية بشدّة، وعبّرت عن صدمتها من مثل هذه السيناريوهات المستحيلة. وهي عندها أمر لا مفكّر فيه ولا يخطر إلا ببال مرضى النفوس من حبيسي "فكرة المؤامرة".
كان للانحدار أسبابه العميقة في المجال السياسي الجديد الذي فتحته الثورة. ويظهر ذلك جليًّا في منعطفات الانتقال. ولعلّ أوّل ما يستخلص من هذه المنعطفات العديدة والحادّة هو أنّ تاريخ الانتقال في بلادنا في وجه من وجوهه هو تاريخ محاولات الانقلاب عليه. وكان أهم المنعطفات في مسار بناء الديمقراطيّة ما عرف بـ"الحوار الوطني" الذي أوقف عمليّة التأسيس ومرحلتها السياسية وفتح مرحلة الانتقال الديمقراطي بشروط القديم العائد بقيادة الباجي قايد السبسي آخر زعامة ممكنة منحدرة من التأسيس الأول في 1959.
-
دولة أخرى
بعد ثلاث سنوات من الانقلاب وحصيلته الكارثيّة على كلّ الأصعدة بدأت عديد الأسئلة تطرح أمام جانب من الطبقة السياسيّة. وكان أهمها السؤال عن طبيعة الدولة التي يريد قيس سعيّد إرساءها.
لم يكن هذا سؤال قائمًا عند أنصار الانتقال الديمقراطي فقد كانت أولويّة المسألة الديمقراطيّة عندهم تجعلهم لا يفصلون بين الانقلاب واستهداف الدولة. لذلك كان أول ما برز في خطابهم وفي حراكهم المواطنيّ أنّ الانقلاب أخرج الدولة عن كل شرعيّة، وقد كانت الثورة أنهت هذا المشكل الموروث عن الاستبداد بعهديه البورقيبي والنوفمبري بأن فتحت المجال العام أمام أوسع الفئات من خلال الانتخابات الحرة والمساهمة المواطنيّة في إرساء مؤسسات الدولة الديمقراطيّة.
كان من مخاطر سياسة الترذيل والتعطيل التي قادتها الشعبويّة من داخل مؤسسات الدولة بشراكة معلنة مع الفاشية والقوى الوظيفيّة أنّها مهّدت للشعبويّة الانقلاب على دستور الثورة ومسار الانتقال المتعثّر، لكن الأخطر أنّ الاستهداف طال الدولة باتجاه تغيير طبيعتها، فسعيّد يؤسس لدولة أخرى لا علاقة لها بتجارب الدولة في تونس الحديثة ولا سيما تجربة دولة الاستقلال بداية 1956.
فالاستهداف الشامل للحريات وتجريف المؤسسات بما في ذلك مؤسسات المجتمع المدني يعطي صورة عن طبيعة الدولة الجديدة والنظام السياسي المراد إنشاؤه.
كان من مخاطر سياسة الترذيل والتعطيل التي قادتها الشعبويّة من داخل مؤسسات الدولة بشراكة معلنة مع الفاشية والقوى الوظيفيّة أنّها مهّدت للشعبويّة الانقلاب على دستور الثورة ومسار الانتقال المتعثّر
ولم يكن هذا منفصلًا عن اتجاه مُطّرد من "منظومة الانقلاب" أو من أحد مراكز القوى فيها إلى الانفصال التدريجي عن محور تونس التقليدي والتشوف إلى محور جديد في سياق اضطراب محاور مؤذن بفوضى استراتيجيّة في وضع دولي زاده طوفان الأقصى ارتباكًا.
ذهب في ظنّ القوى الحداثية من حرّاس "النمط المجتمعي التونسي" أنّ الانقلاب 25 جويلية/يوليو في حقيقته انقلاب على حركة النهضة. اعتبرت أنّ الحراك المقاوم للانقلاب لا يخدم إلاّ حركة النهضة رغم أنّ قيادات الحراك المواطني جمعت بين اليسار والإسلاميين والعروبيين والدساترة. وهذا التقدير نابع من استقطاب إيديولوجي غطّى على شروط الديمقراطيّة الفعليّة. فانتقل العداء المستحكم للنهضة والرغبة في إقصائها إلى مناهضة للديمقراطيّة في ذاتها. وفي هذا السياق كانت الحفاوة بسعيّد وانقلابه وهو الذي اعتبر قريبًا من النهضة ومرجعيتها ويقف فكريًا وسياسيًّا على يمينها.
والنتيجة السياسية لكل هذا أن الإسلاميين مع شخصيات يسارية وطنية ورموز عروبية مواطنيّة هم المدافعون عما بقي من الدولة البورقيبيّة. وأمّا اليسار الوظيفي فقد انتهى بعد "تفكير عميق" إلى دعم المترشح قيس سعيّد في الانتخابات الرئيسية مثلما دعم الأستاذ الباجي قايد السبسي في انتخابات 2014 الانتخابيّة. وهو اليسار الذي وقف في وجه العمليّة التأسيسية في 2011 واتجاهها إلى إخراج الدولة البورقيبية من جهويّتها لتكتسب الصفة الوطنيّة لأول مرة في تاريخها.
-
فرصة قد لا تتكرّر
تمثّل الانتخابات الرئاسية في 6 أكتوبر/تشرين الأول القادم منعطفًا تاريخيًّا في تجربة الدولة في تونس وفرصة لاستعادة الديمقراطيّة. وقد أحدثت فترة جمع التزكيات ديناميكية غير متوقّعة فاجأت السلطة وفاجأت أكثر أصحاب التوجه الغالب في صفوف المعارضة الديمقراطية بمقاطعة الانتخابات واعتبارها المشاركة مجرد تزكية غبية للانقلاب ومنحه شرعية لم يكن يحلم بها.
مثّل قرار المحكمة الإداريّة بإنصاف مجموعة من المترشحين حدثًا سياسيًا وحقوقيًا كبيرًا فتح أبواب السياسة التي أغلقها الانقلاب على مصراعيها
واليوم ومع حكم المحكمة الإداريّة البات والنهائي ببطلان قرار الهيئة باستبعاد 3 ملفات من مرشحي المعارضة الديمقراطيّة، تتأكّد أهميّة المشاركة، بل هي المدخل الوحيد تقريبًا للخروج من سياق الانقلاب المدمّر للدولة والسياسة والأحزاب وكلّ معاني الحياة في البلد. ومثّل قرار المحكمة الإداريّة بإنصاف عماد الدايمي ومنذر الزنايدي وعبد اللطيف المكي حدثًا سياسيًا وحقوقيًا كبيرًا فتح أبواب السياسيّة التي أغلقها الانقلاب على مصراعيها. دون أن ينسي كل هذا واقع المعارضة الديمقراطيّة وحالة الانقسام التي تشق الطبقة السياسية.
يقف اليوم في الرهان الانتخابي قبل انطلاقه 6 مترشّحين يمثّل كلّ واحد منهم حساسيّة سياسيّة داخل المشهد السياسي، لكن من منطلق صراع المحاور، فيمكن جعل المترشحين تحت محوري صراع: المحور الإيراني الروسي والمحور الغربي الأطلسي.
مع ما في كلّ محور من تفصيلات تخضع إلى هوية مكوناته ودور كل مكون ضمن الاستراتيجية العامة للمحور. من ذلك علاقة الولايات المتحدة وفرنسا في الحلف الأطلسي وتكامل أو تعارض سياستهما في تونس. وهي علاقة متأثرة بدورها بتحولات صراع المحاور في العالم. وهي تحولات استراتيجيّة متسارعة لا تقبل بالاعتماد على ما كان يعتبر "ثوابت " في سياسات بعض المحاور.
حالت ملابسات الانتقال وتوتراته دون تسوية عمليّة على قاعدة الديمقراطيّة ونظامها. وها قد اكتملت دورة السياسة وعدنا إلى نقطة البداية. وهي تسوية ليست خاصة بالدساترة والإسلاميين، وإنّما بكلّ القوى السياسيّة
وعلى ضوء هذا، لا شيء يمنع من أن تكون جملة "فرنسا تملك كلّ أوراق السياسة في تونس" جملة أمريكيّة. لا ينفي هذا أنّ القوى التي تتقاسم النفوذ على مجالاتنا الواقعة تحت هيمنتها تحترم "مجالات الاختصاص" رغم ما يحدث من تحولات في المحاور نفسها.
مثل هذه الإثارات لا تشكك البتة في وطنيّة من ذكرنا من مرشحي المعارضة الديمقراطيّة. ولكن هو تسليم بوضع بلادنا الهش ضمن صراع الهيمنة المحتدم وبحقيقة ما بين أيديهم من قوة وقرار وإرادة سياسيّة ووعيهم بالتوازنات الدوليّة. كلّ ذلك يجب أن يكون حاضرًا في سياق محاولتهم استعادة المسار الديمقراطي.
وفي هذا المعنى يُعتبر توصّل الرباعي الدائمي الزنايدي المكي وزمال إلى اتفاق أدنى قبل الدور الأول مهمًا. وإنّ انقسام المعارضة الديمقراطيّة وعجزها في هذه الفرصة عن بناء المشترك الأدنى من أسباب ضعفها أمام محاور الصراع التي تكاد تقتحم علينا بيوت نومنا. والأربعة يمكن تصنيفهم سياسيًّا ضمن العائلتين السياسيّتين الكبريين: الدساترة والإسلاميين.
يُعتبر توصّل الرباعي الدائمي الزنايدي المكي وزمال إلى اتفاق أدنى قبل الدور الأول مهمًا ويمكن الاتفاق على مرشح واحد من بينهم ويكون ذلك ضمن ميثاق سياسي وخطة مرحليّة تعمل على تنظيم مكونات المشهد السياسي
وقد حالت ملابسات الانتقال وتوتراته دون تسوية عمليّة على قاعدة الديمقراطيّة ونظامها. وها قد اكتملت دورة السياسة وعدنا إلى نقطة البداية. وهي تسوية ليست خاصة بالدساترة والإسلاميين، وإنّما بكلّ القوى السياسيّة، غير أنّهما لوزنهما التاريخي والفعلي يتحملان المسؤوليّة الأولى على مصير الدولة والسياسية في بلادنا.
ويمكن الاتفاق بين هذه الشخصيات على مرشح واحد بينها ويكون ذلك ضمن ميثاق سياسي وخطة مرحليّة تعمل على تنظيم مكونات المشهد السياسي وضخّ ما أمكن من شروط الموقف السيادي فيه، وتنظر في مستقبل الدولة والديمقراطيّة في تونس.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"