22-يوليو-2018

المحكمة الإدارية أكدت أن توريث الوظائف في القطاع العام مخالف للدستور (getty)

في زمن التوجّس من توريث منصب رئيس الجمهورية، الوظيفة الأولى في الدولة، إلى ابن الرئيس، على غرار ما كان عليه التوجس طيلة سنوات سابقًا، كرّست حاليًا بالفعل بعض مؤسسات الدولة فكرة توريث الوظائف لأبناء العاملين بها. فمن منّا لم يصادف في حياته ابن أحد الموظفين وقد التحق بنفس وظيفة الأب سواء خلال مزاولته العمل أو بعد إحالته على التقاعد؟ ومن منّا لم يطرح أسئلة حول الفساد في الانتدابات وانعدام شفافية المناظرات؟ فمن منا لم يتساءل عن تلك الصدفة التي جعلت من أبناء الموظفين ينجحون في بعض المناظرات دونًا عن سواهم؟

من منّا لم يصادف في حياته ابن أحد الموظفين العموميين وقد التحق بنفس وظيفة الأب سواء خلال مزاولته العمل أو بعد إحالته على التقاعد؟

ولكنّ الأغلب من يطرح هذه الأسئلة يعرف أن إجاباتها واضحة لا غبار عليها، خاصة وأنّ أغلب الوظائف في القطاع العام تحكمها المحسوبية والمحاباة. ولكن بات اليوم توريث الوظائف للأبناء مطلبًا علنيًا في عدة قطاعات، مطلب يقدّمه بعض الموظفين العموميين لتجنيب أبنائهم حتى عناء المشاركة في المناظرة، ليكون الأمر أشبه بتوريث كرسي فخم من أثاث البيت للابن الأكبر.

توريث الوظائف مخالف للدستور

برز بوضوح الجدل حول توريث بعض الوظائف العمومية سنة 2016، وذلك عندما طالب أعوان الصناديق الاجتماعية بتوريث وظائفهم لأبنائه، وهو المطلب الذي تبنته النقابة الأساسيّة للمصالح المركزيّة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وأقد أصدرت بيانًا عبّرت فيه عن "التبنّي المطلق للتحرّك السلمي للأعوان بخصوص مطالبتهم بحقهم في تشغيل أبنائهم بالصندوق وذلك تطبيقًا للفصل الرابع من الاتفاق القطاعي المبرم بين الطرف الإداري والطرف النقابي المؤرخ في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2011".

اقرأ/ي أيضًا: أشرف عوّادي: وراء كل تبجّح بالفساد نقابي والقضاء يرفض أن يستقلّ (حوار - 2/2)

وقد طلبت رئاسة الحكومة بتاريخ 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 استشارة المحكمة الإدارية حول موضوع تخصيص أبناء العاملين بالدواوين والمؤسسات العمومية بنسبة من الانتدابات بتلك المؤسسات. وحسمت المحكمة الجدل في جانفي/يناير 2017 بتأكيد وجوب أن تتمّ الانتدابات عن طريق المناظرة وفق المبادئ الدستورية المتعلقة بالمساواة وعدم التمييز، وبذلك رفضت المحكمة الإدارية الاعتراف بمطلب الأطراف الاجتماعية لتمييز أبناء العاملين في الانتداب.

المحكمة الإدارية رفضت توريث الوظائف في القطاع العمومي وأكدت أن هذا المطلب يخالف المبادئ الدستورية المتعلقة بالمساواة وعدم التمييز

ولكن رغم ذلك، طفت مؤخرًا مطالب جديدة قادها هذه المرة أعوان البريد التونسي اللذين استنكروا النتائج الأولية للمناظرة الخارجية لانتداب أعوان النوافذ والتوزيع، معتبرين أنه تم حرمان أبنائهم من الانتداب. ووجّه هؤلاء الأعوان لومهم لنقابتهم وأيضًا للإدارة العامة لعدم تطبيق سياسة التوريث المتّبعة في مؤسسات عمومية أخرى على غرار "الستاغ" (الشركة التونسية للكهرباء والغاز) و"الصوناد" (الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه) والصناديق الاجتماعية. وندّد الأعوان بالخصوص لعدم انتداب أبنائهم على غرار ما كان يحصل في عهد مديرين عامين سابقين للديوان الوطني للبريد داعين النقابة إلى وضع هذه المسألة كـ"أولوية".

ويشير، محمد (40 سنة) وهو عون بريد لـ"الترا تونس"، في هذا الإطار، إنه لا يرى مانعًا في توريث عون البريد وظيفته إلى أحد أبنائه على غرار ما يحصل في بعض القطاعات الأخرى قائلًا "إن كان الأمر مخالفًا لمبدأ المساواة فوجب إلغائه إذًا من جميع القطاعات".

مخططات توريث الوظائف في القطاع العمومي

كشفت منظمة "أنا يقظ"، في الأثناء وفي تحقيق استقصائي نشرته في أكتوبر/تشرين الثاني 2016، أنه بالتحري في هوية الأشخاص المنتدبين والمرسمين بطريقة غير قانونية في مصحّة العمران (مؤسسة عمومية تابعة لصندوق الضمان الاجتماعي)، تمّ العثور على أسماء تربطها صلة قرابة ببعض الشخصيات النافذة، من بينها ابنة أخ الأمين العام السابق للاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي وزوجة ابن وزير الشؤون الاجتماعية السابق عمار الينباعي. وبينت المنظمة أنّ التحركات النقابية لفرض التوريث والمحسوبية في الوظيفة العمومية ليست بالمستجدة ولم تكن في عهد حسين العباسي فقط.

محمد (عون بريد) لـ"الترا تونس": إن كان توريث الوظائف في القطاع العمومي يخالف مبدأ المساواة فوجب إلغائه إذًا من جميع القطاعات

في نفس السياق، أشار ت "أنا يقظ" في تحقيق استقصائي آخر نشرته في ماي/آيار 2017، أنّ "سيناريو المحسوبية وتضارب المصالح والارتشاء وغياب الشفافية والعدالة والمساواة في الالتحاق بالوظيفة العمومية في طريقه إلى التكرار مرة أخرى في مصحّات الضمان الاجتماعي". ونشرت المنظمة محضر جلسة حصلت عليه من بعض المبلغين، ممضى من قبل وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي والأمين العام المساعد بالاتحاد العام التونسي للشغل سمير الشفي، والكاتب العام للنقابة العامة للضمان الاجتماعي بلقاسم الجمني يكشف "إصرار سلطة الاشراف على اللّجوء إلى آلية الانتداب المباشر بالنسبة لأعوان السلك الطبي والسلك الموازي له والشبه الطبي بمصحات الضمان الاجتماعي عوض لاعتماد على المناظرات العمومية للانتداب" كما تقول المنظمة.

اقرأ/ي أيضًا: "أنا يقظ": مجمع يشارك فيه النائب لطفي علي غنم 23 مليون دينار من نقل الفسفاط

وقد تضمن هذا الاتفاق تقديم مقترح لتعديل للأمر عدد 567 لسنة 1997 المؤرخ في 31 مارس 1997 والمتعلق بضبط شروط وصيغ الانتداب المباشر بالمنشآت العمومية والمؤسسات العمومية التي لا تكتسي صبغة إدارية، لـ"تجاوز الإشكاليات التي يطرحها هذا الأمر بتحديد مدّة الانتداب المباشر بسنة غير قابلة للتجديد".

وقد تقدّمت منظمة أنا يقظ سنة 2016 بقضية إلى المحكمة الإدارية ضد كل من الصندوق الوطني للتأمين على المرض والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومركز البحوث والدراسات في مجال الضمان الاجتماعي، لإلغاء الفصل الرابع المضمّن صلب الاتفاقية المبرمة مع الطرف النقابي بتاريخ 03 أكتوبر/تشرين الثاني 2011 وذلك لمخالفته الصريحة لإجراءات الانتداب في الوظيفة العمومية التي تعطي الأولوية المطلقة في الانتداب لأبناء الأعوان.

ابراهيم الميساوي رئيس الجمعية التونسية لمكافحة الفساد: المؤسسات العمومية باتت وكأنّها مؤسسات عائلية فأحيانًا تجد ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في نفس القطاع أو في نفس المؤسسة

وقد اعتبرت المحكمة هذا الإجراء "غير شرعي" في قرار استشاري عدد 636/2014 ورد فيه أنه "لا يمكن في غياب نصّ قانوني صريح تخصيص نسبة من الانتدابات الخارجية لسدّ الشغورات في المؤسسات والمنشآت العمومية، كما أنّه لا يمكن في كلّ الحالات أن يستند تخصيص نسبة من الانتدابات إلى طبيعة الشريحة الاجتماعية المستهدفة في معزل عن معيار كفاءة المزمع انتدابهم التي يتمّ تقديرها بشهائدهم أو خبرتهم أو تدريبهم عند الاقتضاء". وقد بيّنت المحكمة الإدارية أن قاعدة التناظر في الانتداب كرسها دستور 2014 في فصله الواحد والعشرين الذي يقول نصّه ''المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء امام القانون من غير تمييز''.

في هذا السياق، يقول إبراهيم الميساوي رئيس الجمعية التونسية لمكافحة الفساد لـ "الترا تونس" إن جمعيته لاطالما تحدّثت عن الفساد في الإدارات، وفي الانتدابات في الوظيفة العمومية التي تقوم أساسًا على المحسوبية والرشوة والمحاباة وفق تعبيره، مشيرًا في حديثه معنا لتدخّل النقابات في عمليات الانتدابات. وأضاف قائلًا "المؤسسات العمومية باتت وكأنّها مؤسسات عائلية، فأحيانًا تجد ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في نفس القطاع أو حتى نفس المؤسسة ونفس المكتب لتستفحل بذلك ظاهرة توريث المناصب في الإدارات العمومية".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفساد في الصفقات العمومية.. سرطان ينخر الإدارة في انتظار استئصاله

"أنا يقظ" تكشف شبهة فساد ومحاباة بين ولاية جندوبة ومقاول مدلّس