الترا تونس - فريق التحرير
"كنت نحلم باش نجيب بيبي (طفل) مجبتش لأني معشتش كي العباد" بهذه الصرخة تحدثت بسمة البلعي عن معاناتها في جلسة استماع علنية لضحايا الاستبداد نظمتها هيئة الحقيقة والكرامة قبل نحو سنتين. باتت بسمة بلعي بشهادتها التي أثرت في نفوس التونسيين أيقونة لنضال الآلاف من نساء تونس اللائي واجهن نظام المخلوع بن علي ما عرَضهن للسجون وانتهاك حقوقهن وتعذبيهنّ والمعاناة طيلة عقود.
قدمت بسمة بلعي شهادتها في جلسة استماع علنية تحدثت خلالها عن معاناتها زمن الاستبداد والانتهاكات التي تعرضت لها
وكان ملف بسمة البلعي من بين الملفات التي أحالتها هيئة الحقيقة والكرامة على الدوائر القضائية المتخصصة، وقد انعقدت أول جلسة قضائية نهاية سبتمبر/أيلول 2018، وقد واكبتها بسمة مقعدة على كرسي متحرّك، وهي التي تعيش أوضاعًا صحيّة صعبة في الفترة الأخيرة، ولكن لازالت عاقدة العزم على المضي في كشف الحقيقة ومحاسبة جلاديها من أجل إنصافها وتحقيق عدالة لا طالما انتظرتها.
اقرأ/ي أيضًا: فيصل بركات... قتلوه تعذيبًا ثم قالوا "حادث مرور"!
بسمة بلعي.. سجن وتعذيب في فرقة الأبحاث بنابل
ولدت بسمة البلعي في 15 ديسمبر/ كانون الأول 1964 بمنزل بوزلفة من ولاية نابل في عائلة تعتبر من العائلات محدودة الدخل وهو ما اضطرّها للانقطاع المبكر عن الدراسة منذ السنة السادسة ابتدائي من أجل المساهمة في إعالة عائلتها.
لم تعتزل بسمة، رغم أوضاعها الصعبة، حقها في ممارسة مواطنتها وحقوقها، حيث نشطت في الأعمال الخيرية والاجتماعية ثم انخرطت بعمر 17 سنة في صفوف حركة النهضة، ليقع إيقافها للمرة الأولى في خريف 1987، إذ تمت مداهمة منزل والديها واقتيادها إلى مركز الشرطة بمنزل بوزلفة. تقول بسمة في شهادتها العلنية إنها وجدت في هذا المركز ثلاث فتيات تلميذات تظهر عليهن آثار التعذيب، وهن الفتيات اللائي رافقنها لاحقًا نحو مركز الحرس بنابل، الذي خضعت فيه بسمة لتحقيقات طيلة 3 أيام وعلى مدى ساعات طويلة، وتعرضت للضرب والركل والإهانة باستعمال الكلام البذيء، ولكن وقع إطلاق سراحها في وقت لاحق.
بسمة بلعي تتحدث عن معاناتها في مركز الإيقاف
تواصلت، في الأثناء، متاعب بسمة مع الأمن، إذ نشطت في الحملة الانتخابية لحركة النهضة سنة 1989، وهي انتخابات تصفها بسمة أنها مصيدة للإسلاميين، حيث استغلها نظام بن علي لمعرفة العناصر الإسلامية الناشطة ليقع لاحقًا استهدافها فيما باتت تُعرف بسنوات الجمر بداية التسعينيات. بدأت الاعتقالات بداية من سنة 1990، وهو ما جعل بسمة تضطر للهروب لبيت أحد أقاربها في تونس العاصمة التي أقامت فيها لمدة سنة، تعرضت عائلتها خلالها للمضايقات والتنكيل.
تعرضت بسمة بلعي للإيقاف لأوّل مرة سنة 1987 وهو ما جعلها عرضة للضرب والركل والإهانة باستعمال الكلام البذيء
وفي أواخر سنة 1991 تمت مداهمة منزل العائلة والاعتداء بالعنف على أفراده واقتياد شقيقتها الصغرى نجوى لتدلهم على مكان اختفائها، لتضطر بسمة لتسليم نفسها للأمن من أجل إطلاق سراح شقيقتها. تقول بسمة في شهادتها عن تفاصيل يوم اعتقالها أنها وجدت أختها رفقة أمنيين بلباس مدني بمنطقة "باب الفلة" بالعاصمة، وهو ما جعلها تقتفي أثار أختها في سوق المنطقة ونادت على أختها، وحينها سلمت نفسها للأمنيين مطالبة بإطلاق سراح أختها الصغيرة ولكن دون جدوى.
اقرأ/ي أيضًا: عبد الواحد العبيدلي يقتل مرتين.. ويبقى حيًا دون مضمون وفاة!
وقع اقتياد بسمة رفقة أختها من تونس العاصمة إلى مقر فرقة الأبحاث والتفتيش بنابل، في رحلة تعرضت فيها الفتاتان للتحرش الجنسي والتهديد بالاغتصاب من قبل الأمنيين الثلاثة. وفي مقر الفرقة، الذي كان مشهورًا بقيام إطاراته وأعوانه بتعذيب واغتصاب النساء، وقع استعمال الأخت الصغرى كأداة ضغط على بسمة بلعي التي أجبروها على التوقيع على محضر دون استنطاقها. وكانت تسمع بسمة صياح أختها التي تعرضت للتعذيب طيلة 10 أيام قبل إطلاق سراحها حافية القادمين ودون غطاء رأس في الشارع لوحدها، وهي لا تملك حتى بعض الملاليم للعودة للمنزل.
بسمة بلعيد تتحدث عن تحرش الأمنيين
"يا ليتني توفّيت ولم أرى ما رأيته في نابل"، هكذا تلخص بسمة إقامتها في مقر فرقة الأبحاث بنابل لمدة تجاوزت الشهرين، إذ تعرضت خلالها للتعذيب والتحرش الجنسي، كما وقع تهديدها بالاغتصاب وإجبارها على تنظيف المراحيض وغسل الأدباش الخاصة بالأعوان والأغطية المخصصة للموقوفين المغطاة بالدماء. وكان يتم مكافحتها مع أشخاص عراة، وأشارت أنها عاينت قيام الأمن بتعرية النساء، كما ولدتهن أمهاتهنّ، وذلك للضغط على أزواجهن لتقديم اعترافات.
وقد كانت بسمة خلال فترة إيقافها في مقر فرقة الأبحاث شاهدة على تعذيب الشهيدين فيصل بركات ورشيد الشماخي أمامها إلى حد الموت، إذ أجبرها الأعوان حينها على غسل "الزاورة" (الغطاء الصوفي) الذي تم استعمال لتغطية جثة الشماخي عند إخراجها من مقر الفرقة الشهيرة بسمعتها الدموية خلال سنوات الجمر.
عائلة تدمّرت و"الله يهلكك يا بن علي"
لم تتعرض فقط الشقيقة الصغرى لبسمة للإيقاف والتعذيب، إذ تواصلت متاعب العائلة بإلقاء القبض بين الفينة والأخرى على شقيقها حبيب إلى أن حوكم عليه بالسجن لمدة 4 سنوات. وكانت الأم المسكينة والأخت الكبرى تنتقلان من سجن لآخر بلغ 14 سجنًا، وظل الأخ الآخر يعول العائلة، فيما لم تكن يجرأ أي فرد للقرب من أجل طلب يد شقيقات بسمة من شدّة المضايقات الأمنية. تدمّرت العائلة البسيطة والفقيرة.
لم تتعرض فقط الشقيقة الصغرى لبسمة للإيقاف والتعذيب إذ تواصلت متاعب العائلة بإلقاء القبض بين الفينة والأخرى على شقيقها حبيب إلى أن حوكم عليه بالسجن لمدة 4 سنوات
أما الأب الذي كان يبكي حال ابنته الموقوفة، فلحقه بدوره بطش الأمن. إذ قام والد بسمة بعد بقائها لمدة طويلة بالإيقاف بتوجيه مراسلة لوكيل الجمهورية لمعرفة مصير ابنته، ليقع استدعاءه لاحقًا في مقر فرقة الأبحاث والتفتيش بنابل وتم تعذيبه أمام ابنته. تقول بسمة إن الأمنيين كانوا يضعون الإبر على يد والدها وقاموا بتنزيق ملابسه، وكانت هي تصرخ من أجل إيقاف تعذيبه ولكن لم ينفع توسلها.
اُحيلت بسمة على المحكمة الابتدائية بقرمبالية بعد إيقاف دام شهرين، وحُكم عليها بالاعتماد على الاعترافات التي أمضت عليها تحت التعذيب بالسجن مدة 7 أشهر من أجل الانتماء لحزب غير معترف به وعقد اجتماع محجر وتوزيع مناشير، ولكن أمضت بسمة شهرًا ونصف فقط في السجن.
اقرأ/ي أيضًا: قلع أظافر ورصاصة في الرأس.. عن قصة مقتل نبيل بركاتي
وبعد يوم واحد من عودة بسمة لمنزل العائلة، توفى والدها التي كانت تمني نفسه أن تحضنه. تروي بسمة تفاصيل أخر حديث بينها وبين والدها، وكان ذلك في أول ليلة تقضيها في المنزل بعد شهور من المعاناة، تقول إن والدها طلب منها أن تبيت إلى جانبه ولكنها قالت له إن الأيام لازالت قادمة. لم تكن تعلم أن والدها سيفارقها للأبد في صبيحة اليوم الموالي.
وكانت قد كتبت بسمة رسالة من السجن إلى والدها تعتذر فيها عن معاناته بسببها، ولكن لم تصل هذه الرسالة إلًا يوم جنازة والدها، في مفارقة تراجيدية جعلت بسمة تشعر بتأنيب الضمير. ثم لم تمرّ فترة حتى فقدت والدتها أيضًا إثر جلطة دماغية متحسّرة على حال العائلة المنكوبة.
كتبت بسمة رسالة من السجن إلى والدها تعتذر فيها عن معاناته بسببها ولكن لم تصل هذه الرسالة إلًا يوم جنازة والدها
باتت بسمة فتاة يتيمة، وكانت تخضع للمراقبة الإدارية لمدة تجاوزت العشر سنوات رغم أن الحكم الصادر ضدها لم يتضمن هذه العقوبة. وقد وقع إيقافها مجددًا سنة 1995 لمدة نصف يوم تعرضت فيه للاستجواب والضرب على رأسها والإهانة ما أدى لإصابتها بنوبة هستيرية حادة ثم أطلق سراحها، ليقع نقلها للمستشفى في حالة انهيار عصبي حاد وفقدت النطق لمدة 14 يومًا. لم تعد بسمة قادرة على المقاومة، وهي التي تعرضت منذ خروجها من السجن لشتى أنواع المضايقات والهرسلة من حرمان من استبدال بطاقة التعريف واستخراج جواز سفر وأيضًا حرمان من العمل.
تقول بسمة في شهادتها التاريخية: "بقيت لا أحلم مثل كل فتاة، لم أحلم إلا بالسفساري حينما تطلب مني أمي كل يوم الذهاب لمركز الشرطة للإمضاء في الصباح والظهيرة والمساء، كنت أتعرض للمراقبة في الليل. كيف تريدونني أن أكون؟ بكيت كثيرًا تعرضت لمتاعب وتعرضت عائلتي لمتاعب بسببي، لكن الحسرة على أبي لا يمكن وصفها".
بسمة بلعي: بقيت منحلمش كي كل طفلة
تضيف بسمة: "لمن يقولون أنه كان يوجد أمان في عهد بن علي، هل حقًا كنا في أمان؟ ما وقع لي ولأختي وللنساء وللبلاد كلها يؤكد أننا لم نكن في أمان"، وتحدثت عن زوال حلمها بالإنجاب "فقد انتهى زمن الحلم" كما قالت. وتوجهت بسمة قائلة في تلك الشهادة التي لازالت عالقة في أذهان عديد التونسيين" الله يهلك بن علي.. بن علي دمر الناس وقضى على البنات.. بن علي حطم أجيال وراء أجيال".
لائحة المتهمين في قضية بسمة.. على أمل محاسبتهم
باتت بسمة بلعي بشهادتها في جلسة الاستماع العلنية أيقونة لمعاناة النساء ضحايا آلة الاستبداد، فقامت هيئة الحقيقة والكرامة بإحالة ملفها على الدائرة القضائية المتخصصة بنابل التي تنظر أيضًا في ملفي الشهيدين فيصل بركات ورشيد الشماخي.
وتضم لائحة المتهمين في قضية بسمة البلعي 12 متهمًا هم كل من الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ووزير الداخلية زمن وقائع القضية عبد الله القلال، ورئيس فرقة الأبحاث والتفتيش بنابل عبد الفتاح الأديب، إضافة إلى الأمنيين عبد الكريم الزمالي، وكريم النصري، ومحمد كبوس، والكيلاني الجازي، وتوفيق لسيق، وشكري الهواري، وأحمد الجنحاني، ومحسن نورالدين، وناجي العايدي.
باتت بسمة بلعي بشهادتها في جلسة الاستماع العلنية أيقونة لمعاناة النساء الضحايا من آلة الاستبداد فقامت هيئة الحقيقة والكرامة بإحالة ملفها على القضاء
واكبت بسمة بلعي يوم 28 سبتمبر/أيلول 2018 الجلسة الأولى لقضيتها وهي مقعدة، فجسدها يعاني من مخلفات التعذيب وسنوات القهر. وبعد تأخير الجلسة لأسباب لوجيستية، قدمت بسمة، بعد ذلك التاريخ بأسبوع وتحديدًا يوم 5 أكتوبر/تشرين الأول 2018، شهادة تاريخية أمام أعضاء الدائرة القضائية. فبسمة لازالت تأمل في تحقيق العدالة ورد الاعتبار لها وإنصافها وذلك بمحاسبة الجلادين الذين قالت في شهادتها العلنية، قبل سنتين، إنها لازالت تراهم يرتعون اليوم بكل حريّة رغم كل جرائمهم الوحشية.
بسمة بلعيد على كرسي متحرك في أول جلسة لقضيتها أمام الدائرة المتخصصة في نابل
اقرأ/ي أيضًا:
كمال المطماطي.. الوفاة تحت التعذيب والجثة تبحث عن قبر
الأمل الأخير للمحاسبة.. ماذا تعرف عن قضاء العدالة الانتقالية؟