"يا ورد مين يشتريك وللحبيب يهديك.. يهدي إليك الأمل الهوى والقبل.. يا ورد".
أغنية من أشهر أغاني الموسيقار المصري الراحل محمد عبد الوهاب والتي تصف الورد وما يمثله من رمزية ودلالة عن الحب. أغنية أتذكرها كلّما مررت من أمام بائعي الورد بالقرب من منزلي. هناك أين لاحظت كساد تجارة هؤلاء. فكل صباح أتعمد المرور بالقرب منهم لأرمق رونق تلك الورود. ولكن كثيرًا ما شاهدت بائعي الورد وهم يتلفون الأزهار وقد ذبلت دون بيعها. ولم أكن أتساءل عن ربحهم أو ما قد يخسرونه جراء عدم الإقبال. ولم يكن تشغلني ثقافة الورد في مجتمع عربي استهلاكي همه الخبز قبل الورد.
اقرأ/ي أيضًا: بائع الورد الصغير.. طفل يبيع الحب ويشتري "الموت"
ولكن كثيرًا ما شغلني خيال غريب نوعًا ما. فلطالما كنت أحسد زوجة بائع الورد. فقد تخيلت أنه قد ينسى الخبز يومًا، ولكن لا ينسى باقة الورد وهو عائد للبيت. وتخيلت كل ورود الجوري التي ترمقها زوجته ما إن تصحو من النوم على طاولة السرير، أو تلك الورد التي في مطبخها وهي تعد فطور الصباح، وحتى شكل شرفات غرفها التي صورتها جنة ورد. وتخيلت أنّ بائع الورد إذا نسي أمرًا غير مجاب لزوجته قد تشفع له جميع الورود التي أهداها لها على مختلف أشكالها وألوانها. ولكن يقولون أنّ "بائع الورد سيفرح إذا أهداه أحد وردة، فامتلاك الأشياء لا يعني امتلاك بهجتها". فماذا عن زوجة بائع الورد؟
أحد باعة الورد لـ"الترا تونس": في حياتي أهديت زوجتي وردة واحدة وذلك قبل أن أصبح بائع ورد
كنت في محلّ بائع الورد في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس أنتظر دوري لشراء باقة ورود أهديها لصديقتي بمناسبة عيد ميلادها. كان يعد باقة لأحد الحرفاء، يختار له منها أشكالًا وألوانًا مختلفة. يسأل الحريف ما هي مناسبة الورد؟ وانشغلت بالنظر إلى الورود واختيار البعض منها لتشكيل باقة صغيرة إلى صديقتي. ولكن كنت منتبهة أكثر للحوار بين البائع والحريف. يقول البائع "لكل مناسبة وردها الخاص". يجيب الحريف "زوجة صديقي أنجبت". بائع الورد "إذا سأكثر من الورد الأحمر، فهو أغلب ما تفضله المرأة وتحبّذه".
يزوّق باقة ورد شكلت من الورد الجوري والأبيض وبعض أوراق الريحان، ليقول إن هذه الألوان مفضلة لدى أغلب النساء. والورود أكثر الأشياء التي ترسم البسمة وتبعث الراحة والتفاؤل. لوهلة عدت بذهني إلى كل ما تخيلته عن زوجة بائع الورد وجنة الورود التي تعيش فيها.
تخيلت أنّ بائع الورد إذا نسي أمرًا غير مجاب لزوجته قد تشفع له جميع الورود التي أهداها لها على مختلف أشكالها وألوانها (مريم الناصري/ الترا تونس)
ما إن رحل الحريف حتى سألت بائع الورد "كلامك جميل وزوجتك محظوظة فهي أكثر النساء تهدى ورودًا". كنت أريد إجابة عن كل ما تخيّلته عن زوجة بائع الورد. لكنّه قال "أهديتها في حياتي وردة واحدة وذلك قبل أن أصبح بائع ورد، ولكن الورد للبيع وليس للاستهلاك العائلي وزوجتي ليست بحاجة للورد. فنحن نعيش من بيع الورد فقط وهو كسب للرزق لا غير".
أخذت حاجتي، وخرجت دون أن أقول له إنك كنت تقنع الزبون بأن الورد سر سعادة النساء وأنهن يفضلن اللون الأحمر والأبيض. كنت أريد القول إنك قد خيبت خيالي الذي جعلني أرى زوجة بائع الورد تعيش في حقل ورود بالبيت. لكن قلت ربما هو مختلف عن الآخرين.
وللزهور والورود لغة تعبيريّة خاصّة عندما يغيب الكلام ويصعب التّعبير بين العشاق خاصة، ليختصر الورد أجمل الكلمات وأصدقها، فينثر عطره داخل أعماقنا جميع تناقضات المشاعر الإنسانية من معاني الحب والأمل والتفاؤل والبهجة والشوق والحزن والدموع والانتظار. فوردة واحدة كافية بأن تقول الكثير من الكلمات والأحاسيس بأجمل وأرقى أسلوب، ولكل وردة ولونها لغتها الخاصة بها وحدها ومناسبتها التي تحاكي مزاجنا وحالتنا النفسية وشخصيتنا. ولا أحد منا لا يحب الورد.
اقرأ/ي أيضًا: عائشة.. تونسيّة تقاوم مرارة الواقع بـ"حلاوة" إزالة الشعر
ولكن يقولون إنّ ثقافة الورد لا توجد في ذهن الرجل الشرقي، وإن شراءه يقتصر أحيانًا على مناسبات رأس السنة وعيد الحب أو أعياد الميلاد. ولكني كنت أريد أن أعرف هل فعلًا يؤمن بائع الورد الذي يتفتح الورد بين أصابعه بكل معانيه، أم أنه يراه مكسبًا ماديًا فقط.
يقولون إنّ ثقافة الورد لا توجد في ذهن الرجل الشرقي، وإن شراءه يقتصر أحيانًا على مناسبات رأس السنة وعيد الحب أو أعياد الميلاد
في محل آخر لبيع الورود لم أكن يومها أريد شراء الورد، كنت أنظر فقط لتلك الأزهار والورود وكيف صففها. يقاطع بائع الورد لحظة تأملي لوروده، وهذا ما كنت أريده. "تفضلي سيدتي كيف أساعدك وما هي المناسبة". "لا مناسبة ولكنني أريد شراء الأزهار لي". طبعًا "تنجم تفرح بروحك".
يختار لي وردًا أحمر وآخر "أوركيدي" أبيض، مع بعض أزهار القرنفل الأصفر وأوراق الريحان. باقة جميلة، يقول البائع. ويضيف "جميل أن نشتري الورد دون مناسبات، وجميل أن نهديه حتى لأنفسنا، لكن لا إقبال على الورود إلا في المناسبات رغم أنّ الوردة بدينار". يصمت قليلًا، وأقاطع صمته بسؤال أثقل ذهني وخيالي. "هل تهدي الورد إلى زوجتك؟".
يرمقني بابتسامة اندهاش من السؤال. ثم يجيب "لا أذكر أنني أهديت وردة إلى زوجتي مذ عرفتها". سألته كيف تنصح الأزواج والعاشقين بقيمة الورود ووقع إهدائها على نفسية الزوجات أو الحبيبات وأنت لم تهد وردة إلى زوجتك. "أنا فقط أبيعه ولا أهديه لأحد حتى لزوجتي، وما نقوله للزبائن هو فقط "ماعون خدمة" ". هكذا يجيبني مسرعًا وكأنه يريد الهروب من أسئلتي التي استغربها.
أرحل من هناك ضاحكة من خيالي وما كنت أحسد عليه زوجات بائعي الورد. وأيقنت أنني كنت مخطئة، وأن بائع الورد هو رجل شرقي في نهاية الأمر، وأن الورد فقط لأكل الخبز. أو يبدو أن تبادل الهدايا بين الزوجين اختلفت أشكاله وتعددت صوره حتى بين بائع الورد وزوجته. واختفت معها قيمة الهدية المعنوية لتحتل مكانها القيمة المادية للهدية. واختلفت الأذواق ليبقى الذهب على عرش الهدايا المحبذة لدى المرأة حتى وإن كانت زوجة بائع ورد. ويبدو أن القول "إنًا نحبّ الورد لكنّا نحبّ الخبز أكثر، ونحب عطر الورد لكنّ السنابل منه أطهر". سيبقى سيد ما قيل في الورد.
اقرأ/ي أيضًا: