اسمحوا لي في البداية أن أعلن أن هذه المقالة تتكون من قسمين في شكل رسالتين: الأولى مخصصة والثانية لنا جميعًا.
اقرأ/ي أيضًا: اعتداءات ورقابة ومحاولات للسيطرة.. واقع صحفيي تونس
رسالة رقم 1:
شكرا لتلك الصديقة التي رأت منشورًا لي على فيسبوك أطلب فيه نسخة من مجلة Le débat وبالتحديد مقالة "les médias contre le journalisme" للزميل الصحفي الفرنسي Jean – Claude Guillebaut، فأرسلتها لي دون أي تردد. وبكل صدق شخص ليس له ما يخسره في هذه الحياة سوى قلمه، أتوجه بالحب العميق لصديق وزميل أستاذ كان قد أرسل لي المجلة كاملة وليس فقط المقالة التي طلبتها وأقول له: من شيم الكرام أن يعطوا كل شيء لديهم إذا طلبتهم في جزء منه. مودتي إليكما ودونكما لم أكن لأكتب هذه المقالة: آمنة شبعان وأمين بن مسعود.
رسالة رقم 2: الإعلام ضد الصحافة
أشترك معكم في الحيرة.. من أين سأبدأ؟ ولم أجد في الحقيقة سوى مدخل استحضار المقولات التي انتشرت قبيل سقوط الاتحاد السوفييتي وبعيده والمرتكزة إلى المركب الإضافي "موت كذا"، مثل "موت الأيديولوجيا"، و"نهاية الكاتب"، و"نهاية الأدب والسينما والمسرح" إلخ، ولكن المثير للاهتمام أكثر بالنسبة للمحيطين بمهنة الصحافة هو التركيب القائل بـ"موت الصحافة"، وذلك حسب تنبؤ السوسيولوجي الفرنسي إريك نوفو الذي خصص فصلًا جديدًا كاملًا بعنوان "الأيام الأخيرة للصحافة" في كتابه "سوسيولوجيا الصحافة" في نسخته الثالثة الصادرة سنة 2009.
خصّص السوسيولوجي الفرنسي إريك نوفو فصلًا كاملًا بعنوان "الأيام الأخيرة للصحافة" في كتابه "سوسيولوجيا الصحافة"
لكن ومن خلال المتابعة اليومية لواقع تطور الصحافة، يرى العديد من المتخصصين والمهنيين والباحثين في علوم الإعلام والاتصال والصحافة أن المسألة ليست بهذه القتامة برغم ثقل العقبات التي تمنع مرور المهنة الصحفية من حقبة إلى أخرى. ونستذكر في السياق مقولات للدكتور نصر الدين العياضي الأستاذ بجامعة الجزائر أو حتى تصريحات طلال سلمان رئيس تحرير صحيفة السفير اللبنانية التي توقفت عن طباعة أعدادها منذ مدة، إذ لم يتأثر سلمان بانقطاع واحدة من أعرق الصحف العربية عن الصدور حتى يتنبأ مثل غيره بموت الصحافة، لكنه ربط تراجع الصحافة بما أسماه "موت السياسة".
أزمة براديغم
إزاء نظرتين واحدة متشائمة وأخرى متفائلة، فإنه من المنطقي البحث عن طريق ثالثة لإيجاد تفسير للأزمة العميقة التي تعيشها الصحافة اليوم. وأقصد بالصحافة هنا هو كل الأشكال التي من الممكن العمل عليها لتقديم المعلومة لمستهلك الخبر، من برقية إلى تقرير إلى روبورتاج إلى تحقيق إلى استقصاء إلى رأي وغيرها من الأشكال، وفي كل المحامل، سواء السمعية والبصرية أو المكتوبة مطبوعة كانت أو إلكترونية. وأرى في هذه الطريق الثالثة معالم "أزمة براديغم" تلوح في خضم الأزمة. ودعوني في هذا الباب أفسر اعتقادي.
يقول الصحفي جون كلود غيلبو إن الصحافة طوال القرن الماضي قد مرّت بأزمتين كبيرتين. الأولى هي أزمة تداخل المافيا والفساد المالي والإداري مع الصحافة، وذلك نتيجة لتطور جهاز الدولة والبيروقراطية وتداخل الطبقات الاجتماعية العليا مع أجهزة الدولة، لتصبح الصحافة في هذه الحالة أجهزة دعائية لحماية هذا التحالف أو ذاك التكتل أو لتوريط حزب أو رجل أعمال أو غيره.
أما الأزمة الثانية التي شهدتها الصحافة فهي تداخلها مع الأيديولوجي إما عبر السوسيولوجيا، إذ أن بعض المدارس في القرن العشرين كانت متأثرة بتيارات أيديولوجية عديدة داخل سياق الصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي، أو عبر الشروط الأدبية، أو عبر تناسي أشكال رئيسية للكتابة الصحفية أمام سطوة صحافة الرأي والتعليق خاصة أيام الحرب على الفيتنام، إذ من الصعب العثور على تحقيق ميداني في تلك الآونة بالقدر الذي كانت فيه صحافة الافتتاحيات هي الطاغية.
اعتبر الصحفي جون كلود غيلبو إن الصحافة طوال القرن الماضي قد مرّت بأزمتين كبيرتين، الأولى عبر تداخلها مع المافيا والفساد المالي والإداري أما الثانية فعبر تداخلها مع الأيديولوجيا
لقد تمكن غيلبو، من خلال متابعة ظاهرة غلبة مقالات الرأي على الإخبار والتحقيق في المشهد الصحفي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، من اكتشاف أولى علامات المرض القاتل للصحافة وهو أن تتحول وسيلة الإعلام إلى بوابة لتدفق نوع واحد من الكتابة الصحفية بقطع النظر عن طبيعة هذا النوع. إذ يتحول الإعلام إلى نقيض للصحافة بمجرد اختلال التوازن في دفقه الإعلامي، وليس لهذا القول أي علاقة بما نسميه نحن التقنيون بخط التحرير.
طبعًا لن نترك كلام غيلبو هكذا معلقًا في الهواء، إذ يمكن أن نذكر بعض الأمثلة هنا، كأن نقول مثلاً أن البرامج التلفزيونية اليوم أصبحت متجهة أكثر نحو ما نسميه "التسلية" في المقاربة الوظيفية للإعلام أي إخبار، وتثقيف، وترفيه، ولا تخلو هذه التسلية من أخطار جمة قد تحرف وظيفة الإعلام الرئيسية وهي الإخبار ليصبح التلفزيون صدى لكوميديا تعيد إنتاج الواقع في شكل هزل قد يضخم تفاصيلًا ويتغافل عن كبريات الأمور. وأحيل، في هذا الإطار، إلى مقالة منشورة بعنوان "المغرب العربي: الإعلام لا يزال في انتظار الثورة"، وأحيل أيضًا إلى ورقة علمية للأستاذة اللبنانية لمى كحال نشرت في مجلة مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان "الإعلام المتلفز في لبنان: ملامح الثقافة التي تبثها الفضائيات اللبنانية".
لا تخلو التسلية من أخطار جمة قد تحرف وظيفة الإعلام الرئيسية وهي الإخبار ليصبح التلفزيون صدى لكوميديا تعيد إنتاج الواقع في شكل هزل قد يضخم تفاصيلًا ويتغافل عن كبريات الأمور
اقرأ/ أيضًا: الإعلام التونسي.. خريف الأزمة يتلو ربيع التعددية
لقد أصبحت وسائل الإعلام وفق هذه الأمثلة محاملًا لعناصر أخرى بعيدة كل البعد عن العمل الصحفي. فالإشهار أصبح متداخلًا بوضوح في المادة الإعلامية المقدمة، سواء في الحصص التلفزية أو في الدراما، وأصبح المحتوى الإعلامي المقدم مناقضًا وبوضوح لمنظومات التقدم الإنسانية مثل منظومة حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، كما تكرس بعض البرامج التمييز على أساس الجهة أو العنصر أو اللغة أو الدين. وأحيل، في هذا السياق، إلى التقارير التي تصدرها الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي والبصري بتونس، وقد لا يكفي هذا المجال لتعداد ملخصات التقارير التي تثبت ما نحن بصدد قوله.
بالإضافة إلى هذا التناقض بين الإعلام والصحافة، فإن الزمن المسمى اتصاليًا بـ"المجتمع الجماهيري الفردي، La société individuelle de masse" حسب تعبير الباحث الفرنسي دومينيك فولتون، يعد آلية جديدة لابتلاع المفهوم الكلاسيكي للصحافة والإعلام وإنشاء مفهوم جديد لهما مرتكزًا على التكنولوجيات الحديثة للاتصال، وخاصة الـ"سوشيال ميديا". وقد لا يسمح المجال هنا أيضًا لتفسير ظاهرة تهديد التكنولوجيات الحديثة للتلفزيون والصحيفة لكن الفكرة بإيجاز هي أن هذه التكنولوجيات المتصلة بالإنترنت تتمدد كل يوم على حساب الميديا الكلاسيكية لتفتك بها.
التكنولوجيات المتصلة بالإنترنت تتمدد كل يوم على حساب الميديا الكلاسيكية
ملامح أولى
إزاء هذا الواقع الجديد إذًا، فإن الحديث عن ولادة براديغم جديد للصحافة يكون موفّقًا في تجديد العمل الإخباري والنقلي والتحقيقي والاستقصائي، وهو يعد الأمر المنطقي الأقرب بالنسبة للصحفي المحترف أولًا وبالنسبة لمصلحة مستهلك الأخبار ثانًيا. ولئن كان الحديث عن ولادة لهذا النموذج الفكري الجديد المسمى براديغم صحفي فإن الواقع الآن ينادي بضرورة هذا البراديغم.
وفي السياق، وإن أمكن لي أن أفتح أفقًا على مقالات قادمة، فإني أتوقع بلورة مقدمة في أسلوب جديد في الكتابة الصحفية، يكون متجاوبًا مع إكراهات الصحافة الجديدة في الاقتراب أكثر من القارئ وموضوع العمل معًا، عبر اللغة الذاتية التي تسمح بتدخل الصحفي في نقل الحدث أو المعلومة مستعملًا آلية السرد المباشر والمرتكز إلى الضمير "أنا" أي أنا الصحفي وهذا ما تراه عيني. وطبعًا لا يخلو هذا الأسلوب من إتقان لغة الرواية.
من المتوقّع تبلور أسلوب جديد في الكتابة الصحفية يكون متجاوبًا مع إكراهات الصحافة الجديدة في الاقتراب أكثر من القارئ وموضوع العمل معًا عبر اللغة الذاتية و السرد المباشر
ليس هذا الأسلوب بدوره في معزل عن إعادة رؤية غرفة الأخبار التي وجب إعادة ترتيبها في نظري بشكل يكون معه مفهوم رئيس التحرير مفهومًا جديدًا ومغايرًا ومختلفًا عن الواقع اليوم. إذ من الملاحظ أن رئيس التحرير في أغلب وسائل الإعلام اليوم أصبح أقرب إلى الإدارة العامة منه إلى الإدارة التحريرية، وكأن رئيس التحرير بات صاحب سهم ضمن أسهم المعلنين في القناة. ثم أنّ العادة التي يسميها المهنيون اجتماع تحرير، أصبحت عبئًا على الصحفي أكثر من كونها مفتاحًا لتوجيهه وفق المطلوب باحتراف ومهنية ونزاهة، إذ لا ينفع اجتماع التحرير اليوم سوى لتذكير الصحفي بأنه أضعف حلقة في سلسلة إنتاج المادة التي تغمرنا اليوم، ولا نعرف إلى الآن كيف نقيّمها وماذا نسميها.
اقرأ/ي أيضًا:
مبادرة تشريعية لـ"تنظيم الفضاء الإلكتروني".. شبح الرقابة من جديد؟