11-مارس-2018

مسيرة احتجاجية مطالبة بالمساواة في الميراث (الأناضول)

مات أبي. لم يترك لنا ثروة أتقاسمها أنا وإخوتي وأخواتي الأحد عشر. بيت قرّرنا دون جدال أن يكون لوالدتي وأخواتي اللّواتي لا يعملن. مبلغ في البنك تقاسمناه وفق القانون المستند إلى أحكام الشرع. وكثير من الكتب.

يوم أخذت نصيبي من المبلغ الّذي تركه والدي، وهو نصف ما حصل عليه كلّ واحد من إخوتي الرجال، قمت بتحويله مباشرة إلى حساب والدتي بالبريد التونسي. وكذا فعل باقي إخوتي وأخواتي. وانتهى الأمر.

لم أشغل بالي بالموضوع كثيرًا ولن أفعل. في قرارة نفسي ربّما، يسعدني أنّ أبي الّذي قضّى عمره في تنشئة الأجيال، قد ترجّل دون أن يترك لنا ثروة نضيّع وقتًا كثيرًا في احتساب قسمتها أو نختلف حولها. كان رجلًا يقدّس العلم ويكفينا أنّه حرص على تعليمنا تعليمًا جيّدًا.

كان أبي يقول إنّ ثروة المرء كلّ ثروته ما يصنعه في حياته وما يتركه من أثر. ووفاء لذكرى والدي، سأحرص إن منحتني السّماء طفلًا أن أربّيه على أن يجعل من مروره في الدّنيا فعل خلق للثروة. ثروة في الفنّ أو العلم أو الأدب. لن يكون هناك إرث أو وصيّة أتركها لابني أو ابنتي غير: الحياة هي كلّ الثروة.

كان هذا ردّي على سؤال صديقة اتّصلت بي قبل أيام لتسألني: "عرفت من "فيسبوك" أنّك تساندين حملة "المساواة حقّ موش مزيّة"، فهل حصلت على نصيبك من إرث أبيك بالتساوي؟".

نعم. لقد منحنا الموت جميعًا نفس القدر من الوجع.

هناك الوجع الآخر.. ذلك الذي يكون مجرّد التلفّظ به إساءة إلى الدّين ومروقًا عنه: "للذكر مثل حظ الأنثيين"

لكنّ الوجع يأتي في بيوت تونسية عديدة جماعة لا فردًا. يأتي على هيئة أخ يستولي على نصيب أخته، وآخر يرغمها على التنازل، وثالث لا يكلّف نفسه حتّى عناء "إعلامها" بنيّته الاستحواذ على نصيبها. يمكن للمرأة هنا أن تتحامل على وجعها وتلجأ إلى القضاء. لكن في الأرياف والمجتمعات الأكثر محافظة في بعض الولايات، يغدو الاحتكام إلى القضاء ضدّ أخ أو قريب عيبًا وفضيحة.

ثمّ هناك الوجع الآخر، ذلك الذي يكون مجرّد التلفّظ به إساءة إلى الدّين ومروقًا عنه. "للذكر مثل حظّ الأنثيين".

وجع يولد مع البنت ويكبر معها في البيت والمدرسة والشارع. أنت "ناقصة عقلًا ودينًا". أنت "لن ترثي الأرض كي لا تذهب إلى رجل غريب عن العائلة". أنت "ستحصلين على النصف لأنك ستتزوّجين يومًا ويكون زوجك قوّامًا عليك". "أخوك مسؤول عن بيت وعائلة أمّا أنت فما لك إلا بيت زوجك".

عبارات بحجم شتائم سمعتها ملايين النساء ومازلن. إهانات توارثتها الأجيال باسم "قال ربّي، قال الرسول". تهان المرأة بأن تعامل كأنّها نصف إنسان له نصف الميراث. ثمّ يهلّل الشيخ والأب والأمّ والعمّ والخالة لانتهاء عملية تقسيم الميراث بما يرضي الله ورسوله.

النساء التونسيات، في المدرسة والجامعة والعمل، جميعهنّ يخلقن ثروة. يصنعن حاضرًا ويشاركن في بناء المستقبل جنبًا إلى جنب مع الرّجل. لكنّهن مازلن يحصلن على أجر أدنى من أجر زملائهنّ الرجال، ومازلن يرثن نصف ما يرثه ذكور العائلة.

يزني التونسي المسلم ويشرب الخمرة ويتعاطى المخدّرات ويتعامل بالرشوة، وتبقى نفسه مطمئنّة إلى أنّ الله سيهديه وأنّ الله غفور رحيم. لكن متى ذكرت أمامه موضوع المساواة في الميراث تستيقظ فيه الحميّة الدينية فيجيبك بـ"أستغفر الله العظيم" طويلة طول شارع "الحبيب بورقيبة" قبل أن يلتفت على شماله متمتمًا: "تحاربوا في شرع ربّي".

اقرأ/ي أيضًا: المساواة في الإرث.. استحقاق للمرأة التونسية أم حقٌّ يُراد به باطل؟

رجال فصّلوا الآيات والأحاديث فخاطوا منها لباسًا دنيويًا على مقاسهم ووفق أهوائهم

لا نحارب "شرع ربّي" بل ندعو إلى إصلاحه. أحكام قائمة على تفسيرات ذكورية انحرفت عن النصوص الدينية التأسيسية فشوّهت مقاصد الدّين نفسه. أحكام "اجتهد" في تفسيرها ووضعها رجال وتناقلها رجال وفق إيديولوجيا أبوية همّها كلّ همّها إخضاع المرأة وتعنيفها مادّيًا ومعنويًًّا.

رجال التزموا بحرفية النصّ القرآني والنبوي ولم يروموا كشف أهداف الآيات القرآنية وغاياتها النبيلة خاصّة تلك المتعلّقة بحقوق النساء. رجال أجبروا طيلة قرون بناتهنّ ونساءهنّ على ملازمة البيت، فمنعوا عنهنّ الدرس والعمل وحرموهنّ نور الشمس. رجال فصّلوا الآيات والأحاديث فخاطوا منها لباسًا دنيويًا على مقاسهم ووفق أهوائهم. بل زادوا فمنحوا أنفسهم كلّ متع الآخرة وحرموا منها النساء..

طيلة قرون، ظلّت الحياة شبه ممنوعة على النساء في المملكة العربية السعودية باسم "الشرع". وبكبسة زرّ، بدأت الحريات تتوالى واحدة تلو الأخرى. صار "الشرّع" يناقض نفسه بتبريرات مضحكة يقدّمها نفس الشيوخ والأئمّة الّذين استماتوا سابقًا في تحريم كلّ شيء.

نحن لا نكبس أزرارًا لنحصل على حقوقنا. بل ننزل إلى الشارع ونفتكّها بالقانون.

ما فعلناه في تونس سابقًا مع "مجلّة الأحوال الشخصية" ونفعله اليوم عبر المطالبة بالمساواة الكاملة ليس حربًا على "أحكام الشريعة الإسلامية" بل إصلاحًا لفكر ديني لم يتمّ تشريك النساء فيه. هو دعوة إلى قراءة نسوية للنصوص الدينية، ومواصلة لمسيرة المواطنة الحقيقية.

مسيرة لها من المخاض وجع البدايات وعظمة الولادة. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

موقف هادئ من المساواة في الميراث بين الجنسين

إلغاء منشور يمنع زواج التونسية بغير المسلم.. هل انتهى الجدل فعلًا؟