عندما نلفظ مصطلح "الكتابة بالصورة"، قد يتبادر للأذهان، ومنذ الوهلة الأولى، أننا إزاء شأن سينمائي أو فوتوغرافي لا غير، والحال أن هذا المصطلح يطرق جانبًا آخر من الإبداع، نادر الحضور والظهور وقليل الرواج رغم قدمه، وهو القصّ والسّرد باستعمال "لغة الفقاعات" المعروف باسم القصص المصورّة أو "الكوميكس".
هو واحد من مسارات الكتابة الإبداعية الذي عرف أوجه في القرن العشرين وتحديدًا بين 1930 و1978 مع "مغامرات تان تان"، و" سوبرمان"، و"راعي البقر لاكي لوك"، وأيضًا مع رواج "المانغا" اليابانية التي تعرف بـ"التانكوبون". لكن أغلب هذه القصص المصورة كانت تتوخى النفس المغامراتي مع ميلها لسيناريوهات الترفيه ولعلّ أشهرها "مغامرات زامبلا".
القصص المصوّرة أو "الكوميكس" هو نوع من الكتابة الإبداعية انتشر خاصة مع قصص الأطفال وتطوّر نحو الرواية المصوّرة المخصصة للكبار
اقرأ/ي أيضًا: "الرسم على الماء" أو "الإيبرو".. الإقصاء القسري لفنّ عظيم
وكان انتشار الكتابة المصوّرة قد مرّ عبر الصحف الورقية التي كانت تفرد صفحات بأكملها لمسلسلات ومغامرات تُنشر يوميًا وأسبوعيًا، وتعتبر الصحافة اليابانية والسويسرية والأمريكية والإيطالية رائدة في ترويج "لغة الفقاعات" التي تحولت إلى ثقافة مخصوصة في تلك المجتمعات سرعان ما تطورت إلى ما بات يعرف بـ"الرواية المصوّرة" الخاصة بالكبار (Graphic Nouvel). وهو نوع من الرواية راج بدوره عبر العالم مع رواج الأنترنت وخاصة عبر ما يعرف بـ"الويب كوميمس"، فأصبح لهذه الرواية المصورة قرّاء ومتابعين.
وقد طرقت صحيفة "الغارديان" هذا النوع من الرواية سنة 2018 تحت عنوان "الروايات المصورة.. توسيع الأفق الأدبي" بمناسبة ترشيح الرواية المصورة "صابرينا" لنيك درناسو ضمن القائمة الطويلة لجائزة "البوكر" الشهيرة. وطرحت سؤالًا عميقًا مازال صداه يتردد إلى الآن في الأوساط التي تشتغل في حقل الرواية المصورة وهو سؤال هوية هذا الفن الآخذ في الترسخ.
قصة مصوّرة تونسية من مدوّنة "سوبيا"
أمًا عربيًا، لم تعرف الرواية المصورة سوى تجارب مصرية ولبنانية تتسم ببعض العمق، إضافة لمحاولات مغاربية متفرقة تقوم أساسًا على رؤي بعض الكتّاب والمصوّرين بعيدًا عن السياقات التاريخية لهذا الفن.
فيما عرفت تونس هذا الفن الذي يجمع التصوير بالكتابة الأدبية منذ الاستعمار الفرنسي، ثم تأسست سنة 1996 تظاهرة دولية سنوية هي الصالون الدولي للشريط المصور بتازركة في ولاية نابل، وكان بمثابة الانطلاقة الحقيقة لعشاق الكتابة بالرسم وخاصة القصص المصوّرة (les Bandes dissineés)، لكن واجه هذا مآزق وتعثرات حالة دون تحقيق الأهداف التي من أجلها بُعث فضلًا عن إهماله من قبل وزارة الشؤون الثقافية.
يوجد جيل جديد في تونس من كتاب ورسامي القصص المصورة يعتمد على قدراته الفردية وعلى مواهبه ويستغل الأنترنت من أجل إيصال أعماله وكتاباته إلى العالم رغم إهمال وزارة الشؤون الثقافية
لكن بعد الثورة، تغير المشهد تمامًا ببروز جيل تونسي من المبدعين وكتّاب "لغة الفقاعات" الذين أذكوا جمر هذا الفن الذي كاد أن يخبو، ليحصدوا الجوائز العربية والأوروبية، وقد اتكأ هذه الجيل الجديد على قدراته الفردية وعلى مواهبه وإحساسه العالي بالحرية مستغلًا الأنترنت من أجل إيصال أعماله وكتاباته إلى العالم.
حاول "ألترا تونس" الغوص في عالم القصص المصورة أو "لغة الفقاعات" والرواية المصورة للكبار في تونس باتصاله بناشطين في هذا الفن الإبداعي هما عبير القاسمي وسيف الدين الناشي.
عبير القاسمي: كتّاب الرواية المصورة في تونس هم شخصيّات سيزيفية
عبير القاسمي هي من ممارسي "لغة الفقاعات" في تونس، تنشط ضمن المجموعة المستقلة للقصة المصورة "المخبر 619"، ويحيل العدد إلى الأرقام الأولى للرمز التجاري والصناعي للإنتاجات التونسية.
أكدت، في بداية حديثها لـ"ألترا تونس"، أن الكتابة المصوّرة أو المرسومة تعيش ظروفًا صعبة للغاية معتبرة أن الكتّاب التونسيين للرواية المصوّرة "هم شخصيات سيزيفية لا تكل عن النحت في صخر هذا الفن العالمي الذي له عشاقه ومريدوه من التونسيين وذلك بإرادة قوية تدفع نحو التأسيس والترسيخ وإثبات الوجود".
يشكو روّاد أدب القصص أو الروايات المصوّرة في تونس من التهميش الثقافي والإعلامي
وتحدثت عن تجاهل الجهات الرسمية وغير الرسمية المعنية بالإنتاج الثقافي في تونس مثل دور النشر والتوزيع والمطابع والجمعيات والشركات الثقافية لهذا النوع من الكتابة، معتبرة أن الرواية المرسومة تقتات أساسًا من الهامش الثقافي التونسي في مستوى الطباعة والتوزيع والترويج الإعلامي، وفق تعبيرها.
عبير القاسمي: الرواية المرسومة في تونس تقتات من الهامش الثقافي في مستوى الطباعة والتوزيع والترويج الإعلامي
اقرأ/ي أيضًا: معرض المصّور زكرياء الشائبي.. في غفلة من الحياة تستبدّ الحركة بالفوتوغرافيا
وأشارت القاسمي أنها تعوّل مع مجموعة أخرى من الفنانين المبدعين في القصة والرواية المصورة على تظاهرة "صالون تازركة"، معتبرة إياها أمل الأجيال القادمة التي بدأت تلتف حول هذا النوع من الكتابة. وأوضحت أن الدورة 23 لصالون تازركة لسنة 2019 ستزيد من مساحة الورشات المخصصة للموهوبين، مشيرة إلى أن "المخبر 619" سيصدر العدد العاشر من مجلته الورقية خلال شهر أوت/أغسطس القادم بالألوان تزامنًا مع "صالون تازركة".
وختمت حديثها لـ"ألترا تونس" أن المبدعين التونسيين في مجال الرواية المصوّرة يلقون التقدير والتبجيل في المحافل الدولية في حين أن الساحة الثقافية والإعلامية في تونس "لا تعلم أحيانًا بذلك وإن علمت تبخل علينا بالتنويه والاستحسان" وفق قولها.
سيف الدين الناشي: جيلنا مسكون بأحلام ومشاريع كبرى
سيف الدين الناشي هو الآخر من أعمدة الجيل الجديد لـ"الكوميكس" في تونس، متحصل على شهادة جامعية في علم النفس، وقد بدأ مشواره الإبداعي في الكتابة المصورة انطلاقًا من "الصالون الدولي للأشرطة المصورة بتازركة" حينما كان تلميذًا ثم طالبًا. أسّس مدونة ساخرة سنة 2009 حُجبت سنة 2010، ليعود بعد الثورة وتحديدًا سنة 2013 مؤسسًا مع بعض الكتّاب والرسامين مجموعة "المخبر 619" التي عولت على قدراتها الذاتية لتصدر أول مجلة للرسوم المصورة للكبار في تونس.
تأكيد أن فن القصص المصورة أو "الكوميكس" في تونس لم يفارق بعد مرحلة التأسيس والتثبيت
يقول الناشي في حديثه لـ"ألترا تونس" إن "الكوميكس" هو إبداع كغيره من الإبداعات له قواعده وأساليبه ومدارسه، لكنه يقدّر أن هذا الفن لم يفارق في تونس مرحلة التأسيس والتثبيت رغم المحاولات التي انطلقت من تازركة منذ أكثر من عقدين من الزمن. ويرى أن المسألة لا تعدو أن تكون سوى مغامرة ذاتية فهي نوع من "الهبال" وفق تعبيره، معتبرًا أن "الظروف السيئة للرواية المرسومة في تونس شكلت لديه ولدى باقي المجموعة الناشطة قيمًا تضامنية خاصة إذ كنّا كمن يداري على الشمع" وفق قوله.
وأكد الناشي أن تأسيس مدوّنة "سوبيا" صحبة كاتب السيناريو أيمن مبارك سنة 2015 جاء بدافع توسيع التجربة التونسية وليس فراقًا عن مجموعة "المخبر 619" وفق قوله. وقال إن "سوبيا" هي تسمية للحيوان البحري "الحبّار" المعروف في اللهجة التونسية بـ"السوبيا"، مبينًا أن المدونة أنتجت عدة قصص لاقت رواجًا كبيرًا مثل "الفكارن"، و"الدّور"، و"توحش" و"بوميكس موري".
سيف الدين الناشي: الجيل الجديد من الفاعلين في عالم الروايات المصورة مسكون بأحلام ومشاريع كبرى جزء منها هو الانتصار للجيل السابق
وبيّن أن الجيل الجديد من الفاعلين في عالم الروايات المصورة "مسكون بأحلام ومشاريع كبرى جزء منها هو الانتصار للجيل السابق ومن أهم أسمائه محمود الربيعي والشاذلي بالخامسة الحبيب بوحوال، وهو الجيل الذي لم يسعفه الحظ والظروف السياسية والثقافية".
وختم سيف الدين الناشي حديثه لـ"ألترا تونس" أن أحلام جيله "دفعتهم إلى اختراق الحدود والبحث في أفق ثقافات أخرى وعلى سماءات واسعة للتحليق من أجل إثبات الذات وتبيان المقدرة التونسية في هذا المجال"، مشيرًا، في هذا الجانب، إلى المشاركات المتميزة في تظاهرات في مصر ولبنان والمغرب ونيلهم لجائزتين مهمتين في المسابقات العربية هما جائزة "كيرو كوميكس" في مصر وجائزة محمود كحيل في لبنان.
بالنهاية، تعدّ القصص المصورة أو الرواية المصوّرة للكبار أو "لغة الفقاعات" من مسالك الأدب مثلها مثل القصة والرواية والمسرح، وبالتالي وجب، من باب الضرورة، إيلائها العناية اللازمة في الحياة الثقافية التونسية عبر التعجيل بفسح المجال لها في مسالك التوزيع. كما وجب تأطير المواهب المتصلة بالرواية المصورة، على النحو الواجب المحمول على الإعلام الثقافي من أجل مزيد الاهتمام بهذا الفنّ الإبداعي والتواصل مع كتّابه.
اقرأ/ي أيضًا:
الأدب الرعوي وأغاني الرعاة.. سيرة "أنبياء" رسالتهم حب الحياة
رواية "مأزق تشايكوفسكي" لشوقي برنوصي: تأمّلات في الذات والمجتمع