مقال رأي
يتزامن عيد المرأة لهذه السنة مع النقاش المجتمعي الحاصل هذه الأيام بخصوص محتوى تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، وهي لجنة أنشأها رئيس الجمهورية في أوت/ آب 2017 وأوكل إليها مهمة إعداد تقرير عن الإصلاحات التشريعية الممكنة والمتعلقة بالحريات الفردية والمساواة وفقًا لدستور الجمهورية الثانية وبما يتماشى أيضًا مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، والتي قدّمت جملة من الاقتراحات نزلها البعض أيضًا في سياق أحد المطالب الرئيسية للثورة التونسية وهو الحرّية.
وقد انقسم بخصوص هذه الاقتراحات تقرييًا كل أطياف المجتمع التونسي من مختصّين وسياسيين وناشطين حقوقيين ومثقفين وفنانين، إلى مؤيد ورافض ولكل شق دعائمه وسنداته في ذلك.
بإسناد الرئاسة الشرفية للاتحاد النسائي الإسلامي، الذي تأسس سنة 1936، للأميرة عائشة، ابنة الباي، انخرطت السلطة في تونس في دعمها للحراك النسوي
هذا النقاش والجدل الحاصل الآن داخل المجتمع التونسي حول ما سمي بـ"تقرير بشرى بالحاج حميدة"، نسبة إلى رئيسة اللجنة وبقطع النظر عمّن يستغلّه لصالحه، فإنه يحيلنا على مسألة شبيهة في تاريخ تونس المعاصر وتعود إلى النصف الأول من القرن العشرين وتحديدًا إلى سنة 1930 عندما نشر المصلح التونسي الطاهر الحداد كتابه الشهير "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، والذي أعتبر جرأة استثنائية داخل مجتمع محافظ ويرزح في نفس الوقت تحت الاستعمار، وقد أسفر ذاك النقاش المجتمعي الذي وصل إلى حد تكفير الحداد والدعوة إلى عدم السير في جنازته وثمة من دعا من المتشددين إلى عدم دفنه في المقابر الإسلامية، عن تشكّل "حركة نسوية " أصيلة كانت تدافع عن الأفكار التحررية للحداد ومن قبله الشيخ عبد العزيز الثعالبي في كتابه "الفكر التحرري في الإسلام"، الذي أصدره سنة 1906 ويدعو فيه بشكل واضح إلى ضرورة تعليم المرأة واستشارتها عند الزواج، وأيضًا المؤرخ والمثقف حسن حسني عبد الوهاب كانت له مواقف مساندة للمرأة عبّر عنها في مقدمة كتابه "شهيرات تونسيات" الذي أصدره سنة 1917.
اقرأ/ي أيضًا: "كيد الرجال كيدين وكيد النساء 16".. عن الأمثلة الشعبية الساخرة من المرأة
هذا الاعتمال الفكري والثقافي أثمر في بدايته سنة 1936 عن تأسيس هيكل واضح وهو "الاتحاد النسائي الإسلامي"، وكانت تترأسه بشيرة بن مراد، ابنة الشيخ بن مراد الذي ناهض الحداد وشحن أطيافًا عديدة من المجتمع ضده وألّب عليه مؤسسة الزيتونة بشقيها الديني والتعليمي. وانخرطت في هذا الاتحاد سيدات المجتمع منهن سارّة بلخوجة ابنة علي بلخوجة، وهو من أشهر المدرسين بالجامع الأعظم، وتوحيدة بن الشيخ أول طبيبة تونسية ووسيلة بن عمار وراضية الحداد. وأسندت رئاسته الشرفية للأميرة عائشة ابنة الأمين باي.
وبهذه الرئاسة الشرفية انخرطت السلطة في دعمها ومساندتها للحراك النسوي وتبنى العديد من السياسيين حينها أفكار هذا الاتحاد ودافعوا عنه وعن أهمية حضوره داخل المجتمع خاصة وأن مطالبه الأساسية تتمثل في حق المرأة في التعليم وحقها في اختيار زوجها وحقها في الصحة الإنجابية وحقها في السفور إن أرادت ذلك.
بعد الحرب العالمية الثانية انبثق عن جمعية الشبان المسلمين فرع نسائي يدافع عن حرية المرأة وأدوارها في المجتمع وفي الحياة السياسية. كما تم تركيز العديد من النوادي المهتمة بقضايا المرأة لعل أشهرها نادي الفتاة الإسلامية. كما قام الحزب الدستوري المناهض للاستعمار الفرنسي بتسييس العديد من الوجوه النسائية وكان يعوّل على العديد منهن في الجهات.
إن هذه المناخات والسياقات المجتمعية والسياسية التي أصلت للحركة النسوية في تونس أدت مباشرة بعد الاستقلال إلى صدور مجلة الأحوال الشخصية، وذلك في 13 أوت/ آب 1956 والتي اعتبرت تتويجًا فريدًا لنصف قرن أو أكثر من النقاش والتفكير حول حقوق المرأة وأدوارها الرائدة داخل المجتمع، حيث بيّنت هذه المجلة القانونية أهم مطالب الحركة النسوية على غرار منع تعدد الزوجات، جعل الطلاق بيد المحكمة، منع إكراه الفتاة على الزواج، منع الزواج العرفي، سحب القوامة من الرجل.
مجلة الأحوال الشخصية كانت بقرار سياسي من الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ولم تكن بضغط قوي من الناشطين في الحركة النسوية أو مؤيديها
اقرأ/ي أيضًا: أهنئ كل اللواتي يحتفلن بعيد المرأة
لكن هذا التتويج كان بقرار سياسي من الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ولم يكن بضغط قوي من الناشطين في الحركة النسوية أو مؤيديها.
وهكذا نفهم أو هكذا أفهمنا التاريخ أن الحركة النسوية في تونس كانت السلطة هي سندها الأساسي بالرغم من أنّ لكل واحد منهما حساباته داخل المجتمع، فالسلطة السياسية وبعيدًا عن قناعات الأفراد من السياسيين فإنها تعتبر قضايا المرأة وخاصة تلك المتعلقة بالحريات والتي تتماس وتتقاطع مع الدين والأخلاق الشرقية، من أوراقها الأساسية في الملعب السياسي التونسي والعربي والدولي، وفترة حكم بن علي كانت مثالًا على هذا التبني اللامشروط لقضايا المرأة لكنه في حقيقة الامر تبنّ سياسي مليء بالزيف.
وفي الجهة المقابلة يدرك نشطاء الحركة النسوية هذه المسألة فيحاولون الاستفادة قدر الإمكان من هذه الحضوة وهذا التبني فيبدو المشهد منسجمًا وبديعًا لكن تسكنه هشاشة ما ويتجلى ذلك في ترجمة تلك الانتصارات القانونية والتشريعية في الواقع فنلاحظ أن قهر المرأة في مجتمع ذكوري بامتياز مازال حضوره قويًا ولافتًا وخاصة العنف المسلط ضد المرأة وعدم فسح المجال لها لتولي المناصب القيادية في الدولة.
فترة حكم بن علي كانت مثالًا على التبني اللامشروط لقضايا المرأة لكنه في حقيقة الأمر تبنّ سياسي مليء بالزيف
الآن ونحن في زمن الثورة وبعد غياب تلك "السلطة الداعمة" للحراك النسوي نلاحظ أن هناك خوفًا ما على المكاسب التي تحققت للمرأة على امتداد الحقب الفارطة، ومن ملامح هذا الخوف من العودة إلى الوراء النقاش الشديد الذي رافق قانون تجريم العنف ضدّ المرأة والذي صادق عليه مجلس نواب الشعب خلال السنة الفارطة وأيضًا الجدل الحاصل بخصوص بعض نقاط المقترحة من قبل لجنة الحريات الفردية والمساواة و المتعلقة بحرية المرأة.
فهل قدر "الحركة النسوية " في تونس أن تبحث لها عن أبوّة سياسية؟ أم حان الوقت لكي تتحرّر من هذه الروابط وأن تسند نفسها بنفسها من داخل فعلها؟ إذ يبدو أن حرب التأصيل للحركة النسوية طويلة الأمد في ظل مجتمع مازال مشدودًا بحبال الماضي ولا يريد لنفسه التحليق في سماء الحرية الواسع.
فقط التاريخ هو من سيجيب عن هذه الأسئلة.
اقرأ/ي أيضًا:
النساء في الانتخابات البلدية.. "ما هي إلا امرأة"؟
يسرا فراوس: يجب تحرير الجسد بتونس وهذا موقفنا من أحكام الشريعة الخاصة بالنساء