قد تقودك الصدفة أحيانًا إلى أماكن تعبق برائحة التاريخ، أماكن شاهدة على حقبات زمنية ولت، لكن الجدران ظلت على عهدها وحملت بين تفاصيلها بعضًا من تاريخها.
"كوري خير الدين".. من اسطبل إلى فضاء ثقافي خاص
وأنت تعبر إلى نهج "التريبونال" بالمدينة العتيقة، تعترضك لافتة كتب عليها كوري خير الدين"، ستعتقد في الوهلة الأولى أن الأمر يتعلق بإعادة تهيئة اسطبل خير الدين باشا الذي صنف معلمًا أثريًا سنة 1992.
تغريك اللافتة التي كتب عليها أن المعلم الأثري شيد ما بين سنتي 1860 و1870 ميلادي بالدخول إلى المكان لاكتشافه، ولن يخطر ببالك أن الاسطبل الذي كانت ترتع فيه الخيول قبالة قصر خير الدين باشا قد تحول إلى فضاء ثقافي.
المعلم الأثري شيد ما بين سنتي 1860 و1870 (يسرى الشيخاوي/الترا تونس)
اقرأ/ي أيضًا: قصور منوبة البديعة: عزلتها الجمهورية الأولى.. فهل تنصفها الجمهورية الثانية؟
بعد تجاوز باب خارجي لا يخلو من سمات أبواب المدينة العتيقة، تعبر بهوًا صغيرًا لتجد نفسك داخل قاعة عرض علقت على جدارها صورة خير الدين باشا ممتطيًا حصانًا وقبالته علم تونس. وتشهد الجدران الحجرية، وشكل الأماكن المخصصة لعلف الأحصنة، وتلك الصفائح الحديدية، الموجودة بالغرفة على عراقة المكان.
وخلف ستار الفضاء الثقافي نافذة تؤدي بنا إلى حلم استغرق 10 سنوات لتحقيقه، حلم تحويل المعلم التاريخي الذي عبثت به أيادي من قطنوه على مر السنين وطمست حجارته العريقة إلى فضاء للثقافة والإبداع.
في حديثها عن أصل الحلم، تقول كوثر الكعلي المشرفة على الفضاء لـ"ألترا تونس" إنه لم يكن من الهين إعادة تهيئة الفضاء مع الملاءمة بين اللمسة التاريخية والعصرية، مشيرة إلى أنّ الأمر استغرق 10 سنوات ليرى الفضاء النور بحلته الجديدة التي حافظت على حجارة المكان التي تؤوي أسراره، وتلك الصفائح الحديدية التي تروي حكايات صموده.
كوثر الكعلي (المشرفة على فضاء كوري خيرالدين): لم يكن من الهين إعادة تهيئة الفضاء مع الملاءمة بين اللمسة التاريخية والعصرية
وعيناها تتلألآن فرحًا، تعتبر محدثتنا أن "الكوري" هو طفل زوجها وحلمه فهو نشأ وترعرع بالطابق العلوي لاسطبل خير الدين في قلب المدينة العتيقة وتردّد على النادي الثقافي الطاهر حدّاد وكان على يقين بأنّ "الكوري" يصلح لأن يكون فضاء ثقافيًا خاصة وأنه يعلم أنه مبني من الحجارة وأنه معلم تاريخي، كما تقول.
وبعد وفاة والده، احتفظ زوجها فوزي الكعلي بالاسطبل نصيبه في الميراث وتشبّث بتحقيق حلمه في إنشاء فضاء ثقافي خاص تنتظم فيه المعارض والتظاهرات الثقافية، ومنذ ذلك الحين انطلقت رحلة إعادة تهيئة المكان والنبش عن كل ركن تاريخي فيه وهو أمر استغرق سنوات، وفق ما روته لنا كوثر الكعلي.
وتمتلك عائلة الكعلي الاسطبل والمنزل في الطابق العلوي منذ سنة 1920 وتناقلت الملكية إلى الأبناء جيلًا بعد جيل إلى أن بيع المنزل العلوي وتحوّل الاسطبل إلى فضاء ثقافي خاص، ارتأى مالكوه أن يحافظوا على التسمية الأصلية للمكان لما تحمله من زخم تاريخي.
لوحة لخير الدين باشا في الفضاء الثقافي "كوري خير الدين" (يسرى الشيخاوي/الترا تونس)
وفي حديثها عن تسمية المكان، تقول محدّثتنا إن أي اسم آخر لن يكون ذو معنى وأنّ التسمية التاريخية هي الأبقى حتى وإن لم يستسغها البعض ورآها صادمة ولا تعبّر عن جمالية المكان، مؤكّدة على ضرورة التشبث بتاريخ المكان.
وفي تسمية الفضاء الثقافي بـ"كوري خير الدين" دعوة لمالكي المعالم الأثرية والمنازل العريقة بأن يحافظوا على طابعها وبصمتها وأن لا يفرطوا فيها مهما كان الثمن، حسب حديثها.
وتحدثنا كوثر الكعلي المشرفة على "كوري خير الدين"، بخصوص التظاهرات الثقافية التي احتضنها الفضاء، أن الافتتاح شهد معرضًا فوتوغرافيًا للمصور مراد بن محمود إلى جانب معرض للوحات الخطاط عبد الرزاق بن حمودة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وبينهما انتظمت حفلات خاصة.
"النادي الثقافي الطاهر حداد".. من اسطبل إلى حاضن للأنشطة الثقافية
على بعد خطوات من "كوري خير الدين"، يقع النادي الثقافي الطاهر حداد، تلج المكان فتستقبلك حجارة المكان العتيقة، حجارة تحمل بين ثناياها أسرارًا وتاريخًا. والنادي الثقافي الطاهر الحدّاد ليس إلا مخزنًا تابعًا لمنزل عريق يقع في قلب المدينة العتيقة.
وأنت تخطو إلى داخل النادي تشعر وكأن عدت بالزمن سنوات إلى الوراء، فرائحة الماضي مازالت عالقة بالحيطان والأرضية والسقف، والأبواب الخشبية العالية تكاد تنطق لتروي لزوار النادي أنها شاهدة على تاريخ الفضاء.
النادي الثقافي الطاهر الحدّاد هو مخزن تابع لمنزل عريق في تونس العتيقة (يسرى الشيخاوي/الترا تونس)
ويقول مدير النادي الثقافي طاهر الحداد مهدي المستوري لـ"ألترا تونس" إن الفضاء هو اسطبل ومستودع خزن مؤن تابع لدار الأصرم وهي عائلة مقربة من البايات، بات قصرها مقرًا لجمعية صيانة المدينة.
اقرأ/ي أيضًا: دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"
والمخزن الذي تميزه قبابه الموشحة بالقرميد وحجر القيروان، انطلقت وزارة الشؤون الثقافية في ترميمه سنة 1986 واستغرق الأمر ست سنوات قبل أن يقع افتتاح النادي الثقافي الطاهر الحدادي في جانفي/كانون الثاني سنة 1974، وفق حديث المستوري.
وفي مكتب مدير النادي، صورة توثق لافتتاح النادي يظهر فيها رئيس الجمهورية الحبيب بورڨيبة ووزير الثقافة حينها الشاذلي القليبي ومحمود المسعدي وتوفيق بكار.
فقد بات مخزن دار الأصرم بتفاصيله البسيطة وهندسته المتفردة، حاضنًا لأنشطة ثقافية متنوعة من الرسم إلى العروض الموسيقية والمسرحية والمحاضرات التي لا يخلو منها النادي.
صورة لافتتاح النادي الثقافي طاهر الحداد (يسرى الشيخاوي/الترا تونس)
وفي حديثه عن تاريخ إنشاء النادي الثقافي الطاهر الحداد، يقول مهدي المستوري إن نشاط النادي انطلق سنة 1972 على يد جليلة حفصية مؤسسته وأول مديرة له، واستمر نشاطه سنتين قبل أن يتحول رسميًا إلى مخزن دار الأصرم.
ويشير إلى أن البعض يقول إن أنشطة النادي مرتكزة على المرأة لكن ذلك غير صحيح، وفق تأكيده، وإن لا ينفي، في الأثناء، أن النادي هو معقل للحركات النسوية على غرار الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات.
ومنذ تسلمه إدارة النادي في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، بعث مجدي المستوري مسابقة أدبية نسائية بعنوان "جائزة الطاهر الحداد لأدب المرأة"، وهي جائزة تخص المرأة وتم بعثها لخصوصية النادي ومن المنتظر أن تنتظم دورتها الثانية.
تتعدّد الأنشطة الثقافية في نادي الطاهر الحداد (يسرى الشيخاوي/الترا تونس)
وفي حديثه على أنشطة النادي، يبيّن محدّثنا أنها متعدّدة ويتمثل عمودها الفقري في نوادي الاختصاص الموجودة بصفة دورية أسبوعية على غرار نوادي الفنون التشكيلية والموسيقى والمسرح والشطرنج والكريغرافيا والترغيب في المطالعة ونوادي الاطفال.
وبالإضافة إلى نوادي الاختصاص، يحتضن النادي أنشطة ثقافية نوعية من قبيل المحاضرات والعروض الموسيقية والعروض المسرحية التي تندرج في إطار البرمجة الشهرية وتختلف من شهر إلى آخر.
وتشمل الانشطة أيضًا المهرجانات مثل مهرجان الخرافة ومهرجان ليالي رمضان وهما تظاهرتان قارتان، إلى جانب بعث مهرجانين آخرين هما مهرجان المدينة جاز ومهرجان الفيلم الوثائقي للأطفال "كيدز دوك".
ويشترك "النادي الثقافي الطاهر الحداد" مع "كوري خير الدين"، بالنهاية، في كونهما بعثا في مقرات كانت في الماضي اسطبلات، فيما باتا اليوم منارتين للنشاط الثقافي في تونس العاصمة.
اقرأ/ي أيضًا: