07-يناير-2020

لازمت جلّ الأحزاب التونسية التحفّظ في قضية اغتيال سليماني (مزيار أسدي/باسيفيك برس)



لا يمكن ألاّ يتفاعل المشهد السياسي في تونس مع حدث بحجم اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، يوم 2 جانفي/كانون الثاني 2020 من قبل القوات الأمريكية في العراق، وذلك لأسباب عدّة أهمّها حجم الصراع الدائر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران على خلفيّة الاتفاق النووي وتطوراته وصراع النفوذ بين القوتين في الشرق الأوسط، وعلاقة هذا الصراع بالمجال العربي الذي أصبح مع الربيع ومسار بناء الديمقراطيّة المتعثّر ساحة لصراع محاور محتدم ينذر بتطورات كبيرة من شأنها أن تهدّد السلم العالمي.

كان مقتل سليماني أشبه بالمرآة التي تنعكس على صفحتها تناقضات المشهد التونسي وعمق الاختلافات التي تشقه وتشق المنطقة العربية في مواضيع الثورة والمقاومة وبناء الديمقراطيّة

اقرأ/ي أيضًا: مع دق طبول الحرب.. أي دور تونسي في الميدان الليبي؟

وفضّلنا أن نعرض إلى المواقف من عمليّة الاغتيال من خلال محاور أساسية حتّى يسهل تكثيف المواقف المتعددة وتجنّب الانزياح عن القصد تحت تأثير تفاصيلها التي لا تكاد تحصى وتبايناتها التي لا تحدّ.

الموقف من إيران

لم تعد إيران، بعد أربعين سنة على اندلاع الثورة الإسلامية الحدث الذي يتبنّاه الإسلاميون وتختلف حوله بقيّة مكونات المشهد السياسي التقليدي من قوميين ويساريين وليبراليين في درجات رفضه. وقد تمكّنت إيران من اختراق المجال العربي من خاصرته اللبنانية وتأسيس مقاومة في جنوبه المحتلّ نجحت في تحريره من الكيان في سنة 2000 وفي كسر جيش الاحتلال في حرب 2006. وصارت المقاومة التي يقودها حزب الله جزءًا من المعادلة السياسية في المشهد اللبناني الذي لم يكن بعيدًا عن الصراع الأمريكي الإيراني بأدوات محليّة عربية خليجية ولبنانية.

ومثّل اندلاع الثورة التي انطلقت من تونس ووصولها إلى سوريا منعرجًا مهمًا في علاقة إيران بالثورة والمجال العربي، بل إنّ دور الثورة لم يكن أكثر من كشف حقيقة هذه العلاقة. وتبيّن أنّ من يناهض الثورة في سوريا لا يمكن أن يكون معها في مصر واليمن وتونس.

قاسم سليماني عند البعض "شهيد" و"رمز لمحور المقاومة" وهو عند البعض الآخر "غاز" و"عدو ساند نظام الاستبداد" وكان له دور في تقتيل الشعب السوري وتهجيره

وتغيّرت وجهة المقاومة التي كانت تقاتل في بنت جبيل ومارون الرأس وجبشيت، من الجنوب اللبناني إلى يبرود والقصير وإدلب من المدن السورية. وضاعف تسليح الثورة وتطييفها ودخول الجماعات التكفيرية الوظيفية على الخط من خلط الأوراق وتداخل المواقف.

هذه التحولات مضافة إلى ما عرفه المشهد في تونس من تطورات مهمة انتهت إلى انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول التأسيسية التي فوّضت الإسلاميين لإدارة المرحلة، غير أنّه لم يكن هناك إجماع على نتائجها السياسية،  وكان ذلك مقدّمة لاختلاف المواقف بين قوى الصف الثوري من القديم ومن الثورة في سورية، ومثّل الانقلاب على ثورة 25 يناير منعرجًا حاسمًا. وكان لإيران دور أساسي في إنقاذ نظام بشار الأسد من السقوط، إلى جانب دور بعض دول الخليج وروسيا والولايات المتحدة.

هذه التحولات انعكست على موقف القوى السياسية في تونس من المقاومة ومن إيران، ووجد دعاة "الربيع العبري" من قوميين وبعثيين ويساريين في إيران وفي مقاومة حزب الله ونظام بشار أساسًا لما أُطلق عليه تيار الممانعة، وهم يلتقون في هذا مع الإسلاميين الموالين لإيران. في حين كان موقف شق مهم من الإسلاميين معاديًا لإيران ولقاسم سليماني الذي قاد لفيفًا من الفصائل الطائفيّة التي حسمت المعركة لصالح نظام بشّار. ويوجد موقف ثالث يربط بين المقاومة والمواطنة، ويميّز على هذا الأساس بين المقاومة العضوية والمقاومة الوظيفية، ويجد عذرًا لمقاومة غزّة المحاصرة في علاقتها بإيران وما تمثّله من دعم.

فكان مقتل سليماني أشبه بالمرآة التي تنعكس على صفحتها تناقضات المشهد التونسي وعمق الاختلافات التي تشقه وتشق المنطقة العربية في مواضيع الثورة والمقاومة وبناء الديمقراطيّة، وفي الموقف من إيران ودورها والولايات المتحدة الأمريكية وتحالفاتها. لذلك هو عند البعض "شهيد" و"رمز لمحور المقاومة"، وهو عند البعض الآخر "غاز" و"عدو ساند نظام الاستبداد" وكان له دور في تقتيل الشعب السوري وتهجيره، وكان له اليد الطولي في تطييف السياقات السورية واليمنية والعراقية.

وحدة المجال العربي

مستوى آخر مهم كشف عنه اغتيال قاسم سليماني هو علاقة الفاعلين السياسين في تونس بالمجال الذي يتحركون فيه، ولا نعني فقط المجال التونسي وإنما المجال العربي. فالثورة التي انطلقت من تونس امتدت إلى سائر الأقطار العربية وبوصولها إلى مصر صارت "عربية" لما تحتلّه مصر من مركزية في هذا المجال.

لازمت جلّ الأحزاب السياسية التونسية التحفّظ وانشدّت إلى مفردات الحياة السياسية المحليّة المتعلق أغلبها بتشكيل الحكومة

اقرأ/ي أيضًا: القضية الفلسطينية والأحزاب التونسية.. من المساندة إلى المزايدة

والجانب الأهمّ أنّ الثورة التي اقتصرت على المجال العربي إنّما تكشف وحدة هذا المجال، فقد رُفع شعاران متلازمان: "الشعب يريد إسقاط النظام" و"الشعب يريد تحرير فلسطين". فكانت الغاية التي تجري إليها الثورة هو بناء الكيان السياسي المواطني العربي باعتباره وحدةً لسانيةً وسياسيةً واقتصادية مثلما هو حال المجالين الجارين التركي والإيراني، فقد استطاعا في الملابسات الجيوسياسة المعلومة أنّ يبنيا كيانهما السياسي، ومن صالحهما أنّ يقوم المجال العربي كيانًا واحدًا مستقلًا. غير أنّ الجارين التركي والإيراني فضّلا أنّ يبقى المجال العربي منطقة فراغ لتدخلهما وتدخّل القوى الإقليمية والدولية الأخرى، لذلك فإنّ الحقيقة المرّة اليوم هي أنّ سوريا محتلة من قبل قوى إقليمية ودولية انتصرت على الشعب السوري بعد أن قضت على حقه في الحرية والمواطنة الكريمة.

في هذا السياق، تغيّرت المواقف فصار بعض القوميين الذين يدافعون عن فكرة الوحدة العربية بمعناها الأيديولوجي القديم حلفاء للغازي الأجنبي ومنه الإيراني. ولا يرى في قاسم سليماني إلاّ نصيرًا للممانعة وعدوًا للكيان الصهيوني وظهيرًا للمقاومة، في حين صار بعض الإسلاميين مدافعين عن وحدة المجال العربي.

هذه صورة عامة مبسّطة غير أنّ الحقيقة أنّه توجد تقاطعات وتناقضات غريبة كشفت عنها الثورة وكشف عنها المشهد السوري وكشف عنها اغتيال قاسم سليماني. ومن المفارقات العجيبة أنّ من انتصر لصدّام حسين وبكاه يوم إعدامه من قبل ميليشيات طائفية ينتصر لقاسم سليماني بنفس الحماس ويدين اغتياله. وهذا لا يعدم مواقف التشفي من قبل عديد الإسلاميين المنتصرين للحق السوري، في وسائل التواصل الاجتماعي. أمّا المواقف السياسية للأحزاب فجلها لازم التحفّظ وانشدّ إلى مفردات الحياة السياسية المحليّة المتعلق أغلبها بتشكيل الحكومة.

مسار المواطنة وبناء الديمقراطية

يمثّل قاسم سليماني نموذجًا في القيادات يختلف عن القيادات العسكريّة التقليدية وجنرالات الدولة، فهو سليل مسار حركي كفاحي جعله أقرب إلى القيادة السياسية والعسكريّة الأهلية. وهو غير بعيد عما عرفه مسار الثورة الإسلامية في إيران التي كان لها ثلاث روافد أساسية كان منطلقهم ضمن "الإسلام السياسي" في المجال الشيعي. وكان بدوره متعدّد الروافد جمع بين الفكر الثوري الإنساني (شريعتي) والخط الكفاحي الإسلامي (مجاهدي خلق) والتيار الشريعي الثوري المرتبط بالمرجعية (الإمام الخميني).

ولئن غلَب التيار الشريعي الثوري متمثلًا سياسيًا فيما عرف بـ"خطّ" الإمام"، وحسَم الخلاف لفائدته، فإنّ بنية السلطة وتحديدًا "مؤسسة المرشد الأعلى للثورة" منعت الدولة من أنّ تبْلَع كلّ الثورة مثلما هو حال التجارب الثورية عبر التاريخ. وبقي هذا الخيط الرفيع الذي يصل الفعل السياسي والميداني وحتى العسكري بالثورة، وقاسم سليماني من الممسكين بهذا الخيط.يمثّل قاسم سليماني نموذجًا في القيادات يختلف عن القيادات العسكريّة التقليدية وجنرالات الدولة، فهو سليل مسار حركي كفاحي جعله أقرب إلى القيادة السياسية والعسكريّة الأهلية

يمثّل قاسم سليماني نموذجًا في القيادات يختلف عن القيادات العسكريّة التقليدية وجنرالات الدولة، فهو سليل مسار حركي كفاحي جعله أقرب إلى القيادة السياسية والعسكريّة الأهلية

ومن المهم ّ الإشارة إلى أنّ الثورة الإيرانية هي من جيل الثورات الجذريّة التي تنجح في عملية "مسح الطاولة" والانتهاء من موضوع القديم بتصفيته، ولكنّها مثل كل الثورات الجذرية تنتهي إلى دكتاتوريات وأنظمة شمولية. وهذا ما يفسّر انحياز إيران إلى "نظام الاستبداد العربي"، فضلًا عن تقديم مصالحها وعدم احترامها لوحدة المجال العربي. وعوض أن تساعد على انبنائه واعتباره، إلى جانب المجال التركي، "ثلاثياّ استراتيجيا" وأساسًا لقوة عربية إسلامية ناهضة ووازنة، جعلت منه مجالًا للتدخل وتحقيق المصالح رغم تعارضها مع القيمة التي من أجلها قامت الثورة على الشاهنشاهية.

في هذا السياق، تنشطر صورة قاسم سليماني بين البطل القومي المنافح عن بلده والمدافع عن مصالحه والموسّع لنفوذه، وبين العسكري الغازي الذي لا يحترم خصوصيات الآخرين، وقد يدوس على حرياتهم. كما تنشطر صورة قاسم سليماني بين القيادي الأهلي المواجِه للإمبريالية الأمريكية التي تحتل المجال العربي وتقيم عليه قواعدها وتحمي بها نفوذها، وبين قاسم سليماني المتمذهب الذي يمنع الشعب السوري في ثورته والشعب العراقي من انتفاضته الأخيرة من حق الحرية وبناء المواطنة الكريمة السيدة.

هذه هي الصور المتقابلة المتناقضة لقاسم سليماني في المشهد السياسي التونسي، صورة متوترة بين العسكري الغازي والبطل القومي الذي استشهد من أجل بلده. لكن الخلاف في قاسم سليماني ينقلب إلى حوار جذري حول القيمة والمصلحة وعلاقة المقاومة بالمواطنة، وأنّه لا معنى لتحرير الأوطان دون تحرير الإنسان.

في قاسم سليماني مفارقة بين أصوله "الحركيّة الكفاحية" وتقاطعه مع موقف "الدولة الإيرانيّة" في المجال العربي من الربيع والاستبداد وتأسيس الديمقراطيّة. فالموقف الإيراني في سورية هو موقف الدولة، ويبدو أنّ هذا الموقف قد عرف منطلقه وسيطرته منذ غزو العراق وحكومة بريمر وامتدّ اللقاء مع الولايات المتّحدة إلى سورية والعراق (محاربة داعش معًا). فلم يكن من مجال للموقف الكفاحي الذي لا يمكن أن يناهض الربيع والحرية والكرامة أيّا كانت التقديرات الاستراتيجيّة.

يتحول الخلاف حول اغتيال سليماني إلى جدل حول الثورة والمجال العربي وتلازم المقاومة والمواطنة وأنّه لا قيمة لتحرير الأوطان إلا بتحرير الإنسان

أكثر من مصدر يشير إلى "فارسيّة" سليماني وقوميّته، وكثيرًا ما يتمّ تقديمها على إسلاميّته المتمذهبة، غير أنّ تجربة الرجل تعود إلى توتّر بين "كفاحيّة حركية" و"استراتيجيات الدولة"، فكانت النتيجة: تحقيق أهداف الدولة بأسلوب حركي كفاحي.

لذلك لم تكتشف العين الإيرانيّة خصوصيّة المجال العربي ومآل انبنائه قوة سياسيّة مثله مثل المجالين الجارين الإيراني والتركي. ولم يستخلص سليماني الدرس البليغ في تلازم المقاومة والمواطنة، وهو يدوس على ربيع الشام ظنًا منه أنّه ينتصر لمقاومة يعرف وظيفيّتها ويتجاهل أنّه لا فلاح لها إلا بانتصارها للمواطنة. لم نظلم حين تحدّثنا عن المنتصرين على الربيع وعلى الشعب السوري، ومن بين هؤلاء إيران والأمريكان والروس. واليوم يعرف المنتصرون صراعًا استراتيجيًا داميًا بينهم، ولكن الجديد هو أنّ الربيع الذي التقوا على محاربته في أكثر من سياق (سورية، العراق...) ينفجر بين أقدامهم في سياقات ظنوا أنّها طوت صفحتَه.

هكذا يتحول الخلاف حول اغتيال قاسم سليماني إلى جدل حول الثورة والمجال العربي وتلازم المقاومة والمواطنة، وأنّه لا قيمة لتحرير الأوطان إلا بتحرير الإنسان. قضى سليماني ولا ندري إن كان يعلم أنّ إيران ستكون يومًا موضوعًا للربيع، وفي مراسم تشييعه رسالة في قدرة الأمم العظيمة على تحويل تقاليدها الروحية ومراجعها المعنوية وأساطيرها المؤسسة إلى قيم سياسية وتقاليد نضالية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أطفال ونساء تونسيون في سجون ليبيا.. استغاثة أمام مماطلة الدولة التونسية

"14 فردًا من عائلتي في سوريا": تونسية تروي لنا قصّتها