"منتوج بلادك يقوي الدينار ويخدم ولادك"، و"استهلك تونسي تقوي اقتصادك ويرتفع دينارك وتشغل صغارك" و"هز دينارك طاح"، هي بعض من الشعارات التي يرفعها منظمو حملة "استهلك تونسي" التي تتجدّد طيلة السنوات الأخيرة كلّما شهد الدينار التونسي تراجعًا إلى أدنى مستوياته أمام اليورو والدولار، وسط مخاوف من مزيد انهياره في الفترة القادمة بسبب ضعف الاقتصاد والتوريد العشوائي.
بالتوازي مع تلك الحملات التي يقودها في أغلبها شباب ناشط على مواقع التواصل الاجتماعي، تعمل منظمات مدنية على نشر الوعي لدى المستهلكين لشراء المنتجات المحلية بدلاً من المستوردة أو المهربة.
تتجدّد حملة "استهلك تونسي" طيلة السنوات الأخيرة كلما تراجع الدينار التونسي وسط سعي لنشر الوعي لدى المواطن بتبجيل المنتج المحلي على نظيره المستورد أو المهرّب
وقد لقيت هذه الحملات رواجًا كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي للتشجيع على دعم المنتوج التونسي من مواد غذائية وألبسة بدل المواد المورّدة من الخارج، وذلك وسط شكوك حول مدى تجاوب التونسيين معها إلى حد الآن.
ويطالب مراقبون، في الأثناء، بالحد من الواردات العشوائية التي أغرقت السوق بعدّة منتجات أغلبها غير ضرورية أو يوجد لها بديل من الإنتاج التونسي، وهو ما أدى إلى إهدار كبير من العملة الصعبة، وذلك عدا المطالبة بمراجعة الاتفاقيات التجارية.
اقرأ/ي أيضًا: الدينار التونسي: تدهور مستمر وزلزال اقتصادي محتمل!
من جهتها، احتفلت منظمة الدفاع عن المستهلك في 28 فيفري/شباط الماضي بالذكرى 30 لتأسيسها متخذة من "استهلك تونسي" شعارًا لها للتشجيع على الإقبال على الإنتاج المحلي. وقد اعتبر رئيس الحكومة يوسف الشاهد خلال الاحتفال أنّ شعار "استهلك تونسي" يجب "أن تتبناه كل الأطراف وتعمل على تطبيقه على أرض الواقع لدعم المنتوج الوطني ودعم المستثمرين والصناعيين التونسيين والعمل على تعزيز الثقة بين المنتج والمستهلك التونسي".
التونسي لا يفضّل المنتج المحلّي؟
تضمنت حملة "استهلك تونسي" استعمال شعارات عديدة للتشجيع على استهلاك المنتوج التونسي، وقد انتشرت عدّة فيديوهات توعوية لدعم المنتج المحلي. وتناولت أغلب هذه الشعارات أو الحملات بعض المنتوجات التقليدية التونسية مما يتبادر للأذهان أنّ الإنتاج المحلي يقتصر على الجبة أو "البلغة" (نعل تقليدي) أو "الفرملة" (قميص تقليدي) أو قفة السعف أو أي منتوج تقليدي آخر، في حين أن المقصود عمومًا الإقبال على كل إنتاج تونسي سواء كان صناعيًا أو غذائيًا بما يشمل إجمالًا النسيج والخزف وغيرها من المنتوجات المصنوعة بمواد محلية وأيادي تونسية.
الومضة التوعوية "استهلك تونسي"
ومن المضحكات المبكيات، في هذا الجانب، أنّ المعهد الوطني للاستهلاك الذي ينظم سنويًا حملات توعوية للتشجيع على الاستهلاك التونسي، قد نظم حملة عام 2016 تمّ خلالها توزيع أكواب مكتوب عليها "استهلك تونسي" والحال أنّ تلك الأكواب تحمل في أسفلها عبارة "صنع في الصين".
في جولة بسيطة بإحدى المحلات التجارية الكبرى، اخترنا المرور في أروقة تعرض عدّة منتوجات تشهد إقبال التونسيين بحكم حاجتهم لها في استعمالاتهم اليومية، وبالخصوص تلك التي لا تغيب عن أي مطبخ تونسي من أواني الألمنيوم أو كؤوس فخار أو بلور أو مواد بلاستيكية. ويتبيّن بالتثبت في هذه المنتوجات أنّ أغلبها مستورد من تركيا وإيطاليا وفرنسا والصين وبلدان أخرى، ما يجعلنا نتساءل عن المنتوج المحلي المطلوب من التونسي استهلاكه؟
سألنا حريفة في محل تجاري عن الرمز التجاري الخاص بتونس، فكانت إجابتها "لا أعرف"، هذه الإجابة تكررت مع حرفاء آخرين وجهنا إليهم ذات السؤال. وهو ما يجعلنا، بالتتابع، نطرح سؤالًا آخر: ما الذي يجعل التونسي يقبل على مواد دون التثبت من مكان تصنيعها أو مصدرها؟ هل الأمر يتعلق بجمالية المنتوج أو جودته أو سعره؟
تقول مفيدة (38 سنة) وهي تقلّب بعض الأواني المنزلية، لـ"الترا تونس"، إنّها غالبًا ما تركز على جودة المنتوج الذي تقبل على شرائه وجمال شكله. وتعلق عن حملة "استهلك تونسي" بالقول: "لما لا ولكن أين هو المنتوج التونسي وماهي جودته مقابل بعض السلع الأخرى المستوردة؟".
مفيدة (38 سنة): أين هو المنتوج التونسي وماهي جودته مقابل بعض السلع الأخرى المستوردة؟
نفس الموقف تعبّر عنه عربية (29 سنة) مشيرة إلى أنّها لا تعرف بالفعل الرمز الخاص بالإنتاج التونسي "619"، ولا تعرف عمومًا إن كان المنتج الذي تنوي شراءه تونسيًا أم لا إلا إذا قرأت مكان الصنع، مضيفة أنها غالبًا لا تنتبه أو لا تركز في الأمر بقدر ما تركز في السعر أو جودة المنتوج.
وقد بيّن بحث ميداني للمعهد التونسي للاستهلاك أنّ 29.5 في المائة من التونسيين يعطون الأولوية للمنتوج التونسي في صورة إمكانية الاختيار بين المنتوج المحلي والمنتوج الأجنبي، أي أنّ ثلثي التونسيين يفضلون استهلاك المنتوج القادم من الخارج.
ثلثا التونسيين يفضلون استهلاك المنتوج الأجنبي بدل المنتوج المحلي وفق بحث ميداني للمعهد التونسي للاستهلاك
كما بيّن البحث أنّ التونسي مستعد لإنفاق أكثر في سبيل الحصول على منتوج ذي جودة أفضل، فيما يقوم 85.5 في المائة من التونسيين من التثبت من مصدر المنتوج قبل شرائه. وتضيف الدراسة الميدانية أن 69.3 في المائة من التونسيين يميّزون بين المنتوج التونسي ونظيره الأجنبي، وهو ما يدل على أنّ شريحة كبيرة من الناس تتفطن إلى مصدر المنتوج لكن مع ذلك تفضل الأجنبي على المحلّي.
بينما يعرف 9.4 في المائة فقط من التونسيين، وفق ذات الدراسة، أنّ الترقيم بالأعمدة للمنتوج التونسي يبدأ بالرقم "619"، في حين أن 90.6 في المائة من المستجوبين ليس لهم علم بالترقيم الخاص بالمنتوج الوطني، وهي نسبة مرتفعة جدًا.
اقرأ/ي أيضًا: تونس: بين التهاب الأسعار واضطراب مسالك التزود والتزويد
أسواق موازية وتوريد عشوائي
شريحة كبرى من التونسيين، في المقابل، ونتيجة لتراجع مقدرتها الشرائية، تلجأ إلى الأسواق الموازية التي توجد فيها بضائع في الغالب مهرّبة وذلك بحثًا عن منتوجات بخسة الثمن بغض النظر عن طرق قدومها إلى البلاد أو مدى جودتها.
وقد أكدت عديد البيانات أنّ الأسواق الموازية انتشرت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة في عدّة جهات، تعرض في أغلبها منتوجات مجهولة المصدر قادمة عبر التهريب، وسط تقديرات أن نسبة الاقتصاد الموازي بلغت 55 في المائة. وقد حذّر خبراء من تأثير التجارة الموازية على الاقتصاد وعلى المؤسسات الوطنية المنتجة، رغم أنّها تجارة تشغل قرابة 34 في المائة من اليد العاملة.
ساهم انتشار الأسواق الموازية التي تعرض منتوجات مهرّبة قادمة من الخارج في تراجع الإقبال على المنتوج المحلّي
انتقادات كبيرة توجّه أيضًا للدولة بسبب استيراد منتوجات يراها العديد غير ضرورية، تستنزف العملة الصعبة وتضرّ بالإنتاج المحلي، والحديث بالخصوص عن السلع التركية وأيضًا السلع الممكن تصنيعها محليًا. وقد صرّح وزير التجارة زياد العذاري، في هذا الجانب، بأنّ 80 في المائة من السلع التركية المستوردة هي ضرورية بالنسبة للتونسي، وهو ما أثار انتقادات على اعتبار أنّ العديد من تلك السلع موجودة في تونس عدا عن التأثير البالغ للمنتوج المورّد على الإنتاج المحلي في عديد القطاعات.
وتأتي أكثر من نصف واردات تونس وتحديدًا بنسبة 55 في المائة من الاتحاد الأوروبي وفق إحصائيات تتعلق بالثلاثي الأول لعام 2017. فيما شكلت الصين، خلال نفس الفترة ووفق وزارة التجارة، مصدرًا لـ8.4 في المائة من هذه الواردات، وخلفها الدول العربية بنسبة 6.2 في المائة ثم تركيا بنسبة 4.6 في المائة وأمريكا الشمالية بنسبة 4.2 في المائة وخلفها روسيا بنسبة 3 في المائة ثم الدولة الإفريقية غير العربية بنسبة 2 في المائة، فيما تجلب تونس 16.6 في المائة من وارداتها من بقية العالم.
من جهتها، أشارت احصائيات صادرة عن المعهد الوطني للإحصاء في فيفري/شباط 2018 إلى تطور أغلب واردات تونس من الخارج، على غرار تطور صادرات الخيوط من 296.9 مليون دينار سنة 2013 إلى 406.6 مليون دينار سنة 2017، وأيضًا تطور واردات الفرو من 429.1 مليون دينار إلى 592.9 مليون دينار خلال نفس الفترة.
يساهم التوريد العشوائي في استنزاف العملة الصعبة والإضرار بالإنتاج المحلي في تونس
كما شهدت واردات بعض المنتوجات الفلاحية، حسب المعهد، تطورًا خلال ذات الفترة على غرار واردات القمح الصلب من حوالي 347 مليون دينار إلى حوالي 461.8 مليون دينار، وواردات القهوة من 90.5 مليون دينار إلى 165.4 مليون دينار.
هي مؤشرات تدل على ارتفاع نسبة واردات تونس لعديد المنتوجات على مدى السنوات الأخيرة، واردات تستنزف احتياطي العملة الصعبة في الوقت الذي تعاني فيه التوازنات المالية للدولة من إخلالات عميقة، وهو ما دفع نحو إطلاق الحملة المستمرة للتشجيع على استهلاك المنتوج المحلي، ليظل السؤال حول قدرة هكذا حملة على تحقيق أهدافها وسط لامبالاة ظاهرة لدى شريحة واسعة من التونسيين.
يبدأ الرمز الخاص بالمنتوج التونسي بعدد "619" (Getty)
اقرأ/ي أيضًا:
هل تصبح تونس قطبًا إقليميًا للنقل الجوي والبحري في اتجاه إفريقيا؟
"ويني فلوس السياحة؟".. سؤال طرحه الشاذلي العياري لا حسم في إجابته