20-مارس-2024
المقاهي في تونس

عادة الذهاب للمقاهي في السهرات الرمضانية في تونس تحولت مع مرور الزمن إلى سلوك مجتمعي متأصل (Simona Granati/ Corbis)

 

في كل مرة يأتي رمضان، نعيد اكتشافه  فنغوص أكثر فأكثر في ماهيته وسحره وقيمه السمحة الجميلة فنستلهم من طاقته ذات النسغ الروحاني أزمنة فردية وإقامة في حياة أخرى تأتي مرة في السنة، ونرتب الأنس معه من جديد على إيقاع أوتار ترفع أفئدتنا نحو السماء وتشدنا شدًّا لا ينقطع، وتتحول ليالي الشهر المقدس إلى حالة من الصفاء الذي يراوح بين الديني والدنيوي.

عادة الذهاب للمقاهي في السهرات الرمضانية في تونس تحولت مع مرور الزمن إلى سلوك مجتمعي متأصل.. وبعض المقاهي تحولت لمعالم تاريخية لعتاقة زخرفها ومعمارها، ومقاه أخرى توغلت في الزمن فأصبحت شاهدًا على أحداث تاريخية هامة

ومن طقوس الشهر الكريم قديمًا وحديثًا لدى عامة التونسيين بمختلف مدن البلاد وقراها، وإلى جانب التعبد وتطييب النفس والذهاب للتراويح والاحتفالات العائلية الخاصة تبرّكًا بالشهر الفضيل، نجدهم يترددون على المقاهي للسمر والسهر وشرب القهوة والشاي وتجاذب أطراف الحديث مع الأصدقاء والأصحاب والرفقاء فيما يشبه الفسحة والترويح.

عادة الذهاب إلى المقاهي خلال السهرات الرمضانية في تونس تحولت مع مرور الزمن إلى سلوك مجتمعي متأصل، لكن هذا السلوك يرفض أن يكون نموذجًا بل ويذهب بعيدًا نحو فكرة التنوع والخصوصية، فلكل مدينة مقاهيها الشهيرة ولكل حي مقهاه المميز، حتى أن بعض المقاهي تحولت إلى معالم تاريخية لعتاقة زخرفها وشكل معمارها، ومقاه أخرى توغلت في الزمن فأصبحت شاهدًا على أحداث تاريخية وثقافية هامة عاشتها المدينة أو البلد.

المقهى في شهر رمضان هو فضاء ساحر ومدهش وآسر يأتي محمولًا على أدخنة السجائر والنرجيلة فيما يشبه المشاهد السينمائية ومأخوذًا بأحاديث الجلّاس وأسمارهم الذي يتناهى إلى المسامع معجونًا بأغاني الطرب الجميل والموشحات الموسيقية التونسية الأصيلة التي تناجي الليل وتمسه مسًّا رقيقًا يعمق أنس رمضان في النفوس.

من أشهر المقاهي في تونس التي تتحول مع حلول رمضان إلى محجّة يأتيها الناس بحثًا عن لحظات زهاء وصفاء وبشهوة امتلاك الأعماق والأعالي، هي تلك الموجودة في حاضرة تونس وضواحيها القديمة

ومن أشهر المقاهي في تونس أو تلك التي ملأت الدنيا وشغلت الناس وتتحول مع حلول الشهر الكريم إلى محجّة يأتيها الناس بحثًا عن لحظات زهاء وصفاء وبشهوة امتلاك الأعماق والأعالي، هي تلك الموجودة في حاضرة تونس وضواحيها القديمة.

سوف نشد الرحال، في هذا التقرير، إلى المقاهي الشعبية القديمة التي صنعت لها تاريخًا اجتماعيًا عريقًا وبعضها تحول إلى معلم تاريخي شاهد على حقب وأحداث.

 

مقهى الكواكب بالعمران.. في رمضان 1958 استقدم شفيق جلال وشريفة فاضل من مصر 

يقع "مقهى الكواكب" في التقاطع الرئيسي بحي العمران، وهو حي كان مخصصًا للجالية الفرنسية زمن الاستعمار وكان يسمى "فرانس فيل". 

يذكر عم التيجاني الماجري، وهو شيخ سبعيني من سكان حي "الكونباتا" المتاخم للعمران وحي الزياتين، أنّ المقهى بدأ في العمل منذ الأربعينات وشهد أطوارًا من الحرب العالمية الثانية واستقبل المنتصرين والخاسرين على حدٍّ سواء. 

التيجاني الماجري (شيخ سبعيني): مقهى الكواكب بالعمران بدأ في العمل منذ الأربعينات واشتهر ككافيشانطا نهاية الخمسينات ومن أشهر المطربين المصريين الذين مروا به الفنان شفيق جلال والمطربة شريفة فاضل في ليالى رمضان سنة 1958

ويضيف أنه أغلق لفترة من الزمن ثم أعيد فتحه قبل الاستقلال مع انتشار ما يعرف بـ"الكافيشانطات" (محلات تعرض سهرات تنشيطية غنائية راقصة..). 

يتصدّر مقهى الكواكب ساحة العمران بهندسة معمارية بسيطة وبواجهة متقشفة الجمال، لكنّه يبدو فسيحًا وفخمًا من الداخل، تحيط بجنباته شبابيك كثيرة مستطيلة الشكل خضراء اللون، الولوج إليه يكون عبر بوابة فارهة يؤدي إليها مدرج صغير.

 

صورة
مقهى الكواكب بساحة العمران (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

ويشير الشيخ الماجري إلى أنّ المقهى اشتغل واشتهر ككافيشانطا نهاية الخمسينات من القرن الماضي، وكان يستقبل كبار الفنانين التونسيين والعرب. ومن أجمل السهرات الرمضانية تلك التي أحياها الفنان علي الرياحي. ومن أشهر المطربين المصريين الذين مروا بالكواكب نجد الفنان شفيق جلال والمطربة شريفة فاضل وكان ذلك في ليالى رمضان سنة 1958. 

"الكواكب" ظلّ مقهى شعبيًا ولم يتغير أبدًا يراكم ذاكرته بهدوء ويجلس إليه الجميع من أبناء العمران والجبل الأحمر وحي الزياتين ومن باب الخضراء، وهناك من يأتيه خصيصًا في رمضان للتمتع بنكهات السهر القديم

"الكواكب" ظلّ مقهى شعبيًا ولم يتغير أبدًا يراكم ذاكرته بهدوء ويجلس إليه الجميع من أبناء العمران والجبل الأحمر وحي الزياتين ومن باب الخضراء، وهناك من يأتيه خصيصًا في رمضان للتمتع بنكهات السهر القديم، في هذا الفضاء الذي يحافظ على الديكورات القديمة والهندسة الداخلية التي لم تتغير منذ زمن. 

 

صورة
"الكواكب" ظلّ مقهى شعبيًا ولم يتغير أبدًا يراكم ذاكرته بهدوء (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

مقهى مختار بحي التضامن.. ملتقى الجميع ولا يحلو السهر الرمضاني إلا في أفنيته

حي التضامن هو أكبر وأشهر حي شعبي بالضواحي الغربية للعاصمة تونس وتشكلت نواته الأولى في سبعينات القرن الماضي إثر موجات متتالية من النزوح من الأرياف ومدن الداخل التونسي. يضم الحي الشهير حوالي 100 ألف ساكن في مساحة صغيرة تتجاوز 400 هكتار. 

وتزدهر في هذا الحي أجواء رمضان على نحو مخصوص، فنمط الحياة هناك أشدّ من الواقعية السحرية ذاتها، والصور تأتي شديدة السينمائية من دون إخراج  وهناك انسيابية للحياة تصنعها عفوية الناس وقربهم من بعضهم البعض، رابطهم في ذلك أنهم أبناء شعب واحد ووطن واحد رغم تنوع ثقافاتهم المحلية التي نهلوا منها قبل الاستقرار في الحي. 

ليس بعيدًا عن الشوارع الشهيرة بحي التضامن، 105 و106  وفي قلب الحي، انبعث مقهى مختار بداية الثمانينات. وتسميته منسوبة لصاحبه القادم من الشمال الغربي التونسي. 

لطفي (أحد متساكني حي التضامن): مقهى "مختار" هو القلب النابض للحي وقد دشّن في بداية الثمانينات لكنه ظل محافظًا على شكله وديكوراته القديمة وهو يعدّ علامة ثقافية وخصوصية محلية لا يمكن تخيل الحي من دونها

هو مقهى شعبي  شهير، يجلس إليه الجميع ويتواعد داخله أو حذوه أغلب أبناء الحي. لم يغير المقهى من شكله أو ديكوراته القديمة، يبدو فارهًا من الداخل بكونتوار طويل على شاكلة المقاهي الإيطالية. 

يحدثنا لطفي، وهو كهل من أبناء الحي، أنّ مقهى مختار هو القلب النابض لأبناء التضامن، "الكل يلتقي هنا، بل إنّ مصائر بأسرها حددت بهذا المقهى". وأضاف لطفي أنّ سياسيين جاؤوا إلى المقهى والتقوا بالشباب ورجال الحي طيلة السنوات الفارطة". 

أمّا عن نكهة رمضان بهذا المقهى الشعبي، يحدثنا لطفي بأنّ السهرات لا تطيب إلا بمقهى مختار، مكان له سحر خاص رغم بساطة خدماته، فهو يصبح مزدحمًا طيلة ليالي الشهر الكريم، طاولاته يتحلّق حولها عشاق لعب الورق والليدو الإلكتروني، وتيراسه مليء بالجلّاس الذين يبغون النارجيلة والسمر فقط.

ينهي لطفي حديثه عن مقهى مختار بحي التضامن بالقول إنّ "مقهاهم هو علامة ثقافية وخصوصية محلية لا يمكن تخيل الحي من دونها"، حسب رأيه. 

 

صورة
يبقى لكل مدينة ولكل حي مقهاه "الأسطوري" (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

مقهى سيدي صالح بمنوبة.. رغم فعل الزمن فقد حافظ على هويته كمقهى شعبي 

إلى حد قريب في الزمن كانت مدينة منوبة ضاحية باياتية ملكية، وحتى مع الاستعمار الفرنسي لم تكن منوبة وجهة للمعمرين إلّا عددًا قليلًا منهم. لكن هامشًا شعبيًا تشكل قرب أضرحة الأولياء الصالحين الموجودين في منوبة فنجد تجمعًا سكانيًا صغيرًا قرب ضريح الولية السيدة المنوبية وآخر قرب ضريحي سيدي عمر وسيدي صالح المتجاورين. وقد أطلق على هذا الحي اسم سيدي عمر. 

في الطريق الرئيسي في اتجاه صنهاجة وبجاوة ووادي الليل بعث مقهى سيدي صالح منذ الستينات وكان مقهى بسيطًا يقدم خدمات لعمال الحقول والبساتين التي كانت سابقًا على ملك العائلة المالكة، لكنه مع النهضة العمرانية التي شهدتها المنطقة عرف المقهى تغيرات في هندسته وديكوراته وحتى مع أشغال المترو والتي خسر معها مقهى سيدي صالح تيراسه الجميل والممتد، إلّا أنّه حافظ على وجوده وروحه كمقهى شعبي. وتملك هذا المقهى عائلة السويح. 

طارق (أحد متساكني منوبة): لا يحلو السهر في رمضان إلا بمقهى سيدي صالح، فهو يفتح أبوابه قبل آذان المغرب فنأتي لحمل قهوة أولى إلى المنزل في انتظار العودة لشرب ثانية والسهر ولعب الورق والترفيه بعد صلاة التراويح

يحدثنا طارق بأنه جلس في مقهى سيدى صالح وهو طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره رفقة والده. ويضيف أنه منذ ذلك الوقت لا يغيب عن مقهى الحي، يقول: "أصبح من عاداتي اليومية، فلا أشرب قهوتي إلا هنا، ولا أشعر بالراحة إلا هنا".

وعن أجواء شهر رمضان يؤكد طارق أنّه لا يحلو إلا بمقهى سيدي صالح، فهو يفتح أبوابه قبل آذان المغرب فنأتي لحمل قهوة أولى إلى المنزل في انتظار العودة لشرب ثانية والسهر ولعب الورق والترفيه بعد صلاة التراويح.

يشير طارق إلى أنّ السمر يحلو بمقهى سيدي صالح، فقد يتواصل أحيانًا إلى حدود الساعات الأولى من الفجر. 

وبما أن المقهى ليس بعيدًا عن المركب الجامعي بمنوبة، فإنّ بعض الطلبة من سكّان المبيتات الخاصة يأتون مقهى سيدي صالح للسمر والسهر والمراجعة وخاصة لمشاهدة بعض مباريات كرة القدم ضمن البطولات الأوروبية. 

 

مقهى الفوز بالزهروني.. "إيقاع رمضان يبدأ من هنا"  

يعد حي الزهروني واحدًا من الأحياء الشعبية الكبرى الموجودة في خاصرة الضاحية الغربية، هو امتداد طبيعي لأحياء الزهور الخمس، وينسب إلى الولي الصالح سيدي أحمد الزهروني، وتشكّلت جغرافيا هذا الحي بداية من ستينات القرن الماضي على أنقاض بساتين ومساحات فلاحية فسيحة ريانة. 

لم تكن المقاهي موجودة بالحي إلى حدود السبعينات، إذ كان أبناء الزهروني يجلسون بمقاهي حي الدندان المجاورة، لكن في الأثناء حصلت طفرة أسست لعدد من المقاهي وهنا يحدثنا عم خميس الخذري، وهو حلّاق قديم بالزهروني، أنّ أولى المقاهي هي: مقهى عبد الله القريبة من سوق الخضر والغلال ثم مقهى رعاة البقر قرب جامع الزهروني، فمقهى خلف ومقهى غيلان وأخيرًا مقهى الفوز، ثم تأتي البقية. 

خميس الخذري (أحد متساكني الزهروني): مقهى الفوز هو الأشهر في الزهروني وهو يتحول في رمضان لمكان سحري فلاعب الورق لا يشعر بالوقت فيه وشارب النرجيلة والمدخّنون يأخذهم الزمن لعوالم مغايرة فيحلو السمر والترويح عن الأنفس بعد مشقة اليوم

ويعتبر عم خميس أن مقهى "الفوز" هو الأشهر لأنه مفتوح طيلة الـ 24 ساعة وجلّاسه من كل الأجيال والأعمار وخدماته جيدة. وفي نفس الوقت حافظت على سمتها كمقهى شعبي، وهي توجد قبل منعطف شارع النخيل وليس بعيدًا عن مطعم "الغرنوق" الشهير. 

ويشير عم خميس الخذري إلى أنّ مقهى الفوز يتحول مع رمضان إلى مكان سحري لأبناء الزهروني ومن الأحياء المجاورة (حي الجيش، حي السلامة، حي حواص، حي السلطاني..) ففريق العمل بهذا المقهى محترف ويقدم الخدمات بسرعة فائقة. أمّا عن طعم القهوة بمقهى الفوز فيؤكد محدثنا أنّه مختلف عن باقي المقاهي لجودته وحرفية "القهواجي" وقدرته على عصر إكسبريس جيّدة. 

يذكر عم خميس أن الزمن الرمضاني داخل مقهى الفوز بالزهروني مختلف تمامًا عن أماكن أخرى. فلاعب الورق لا يشعر بالوقت في هذا المقهى وشارب النرجيلة والمدخّنون يأخذهم الزمن إلى عوالم مغايرة فيحلو السمر والترويح عن الأنفس بعد مشقة اليوم. 

يبقى لكل حي مقهاه "الأسطوري" الذي أسر القلوب وبات دخوله جزءًا من السلوك اليومي للسكان ومع كل الفصول والمناسبات يصبح أكثر جاذبية.. لكن تبقى المقاهي القديمة بالأحياء الشعبية ذات حضور طاغ لتنوع روادها وقدرتها على صناعة الإيقاعات المتجددة

الإيقاع الرمضاني بمقهى الفوز جزء لا يتجزأ من إيقاع رمضان في الحي بأسره. أما الموسيقى المنبعثة من مضخمات الصوت بالمقهى فهي من "قاع الخابية"، حسب عم خميس، أي أنها مستقاة من الطرب العتيق التونسي والشرقي بما يتناسب مع الشهر الكريم، وهو ما يزيد السهرة الرمضانية رونقًا ومتعة.

ينهي عم خميس حديثه عن مقهى الفوز بالزهروني بأنّ له روحًا خاصة به وأنه بات جزءًا من شخصية الحي فلا يمكن أن تزور الزهروني دون أن تشرب قهوة في الفوز. 

يبقى لكل مدينة ولكل حي مقهاه "الأسطوري" الذي دخل القلوب والعقول وبات دخوله جزءًا من السلوك اليومي للسكان. ومع كل الفصول والمناسبات  يصبح المقهى "الأسطوري" أكثر جاذبية، لكن تبقى المقاهي القديمة والشهيرة بالأحياء الشعبية ذات حضور طاغ لتنوع روادها وقدرتها على صناعة الإيقاعات المتجددة.