قلب يهفو وأم تلتاع وتشتاق، وفراق مرير مرارة العلقم، وانتظار صعب ألهب حنايا الروح وانطفأ معه كل أمل، انتظار أم لم تستسغ بعد فراق ابنها فوقف الزمن لحظة رحيله. فلازال لم يندمل بعد جرح الماضي حتى نستفيق على فاجعة جديدة تمثلت في غرق مركب راح ضحيته عدد كبير من المهاجرين السريين قرب سواحل جزيرة قرقنة التابعة لولاية صفاقس.
شباب غلب عليه اليأس فخيّر الهروب من واقع مرير إلى آخر أشد مرارة ظنًا منه أنه سيجد "الجنة الموعودة" والرفاه الاجتماعي الذي يحلم به وكأنه يستجد فرصة أخرى لم تعد متاحة في وطنه.
شباب غلب عليه اليأس فخيّر الهروب من واقع مرير إلى آخر أشد مرارة ظنًا منه أنه سيجد "الجنة الموعودة" في أوروبا
هؤلاء الذين امتطوا قوارب تفتقر إلى أدنى شروط الأمان، غير آبهين بحياتهم فلفظ البحر أنفاسهم الأخيرة. لعلهم قد سئموا سياسة المماطلة والتسويف وضعف البرامج الاجتماعية والاقتصادية، فاتجهوا نحو البحر علهم يجدون حياة أخرى تحتويهم بحثًا عن بديل مستحيل، لتتواصل المأساة في كل مرة بين مفقود لم يعد وجثث تآكلت في عمق البحر ليقتات منها الحوت اللعين وتتحول حياتهم إلى مأساة تذروها ألسن العابرين. وليعود موضوع الهجرة السرية في تونس من جديد ليفرض نفسه في كل مرة متصدرًا مختلف وسائل الإعلام، ولا ندري إن كنا نستعرض المآسي أم نسعى للبحث عن حلول جذرية لواقع اجتماعي واقتصادي بات يشهد تدهورًا ملحوظًا ويتطلب تدخلًا عاجلًا بعيدا عن كل الخطابات الشعبوبة.
اقرأ/ي أيضًا: فاجعة مركب قرقنة.. حزن واستياء وغضب أيضًا
ثلاثة آلاف هو عدد الأشخاص الذين حاولوا اجتياز الحدود خلسة خلال الثلاثية الأولى من سنة 2018 وفق المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يمثل عشر مرات العدد خلال نفس الفترة من سنة 2017. عدد قد يحيلنا إلى تنامي وتيرة الهجرة السرية في الآونة الأخيرة. هذه الظاهرة التي أصبحت تتمدد وتنتشر كوباء فيروسي مقيت أمست بحاجة إلى معالجة جدية باعتبار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الصعبة التي تشهدها البلاد.
قد تتحمل الدولة جزءًا من فشلها نظرًا إلى استفحال الفقر والبطالة والخصاصة التي تشهدها أغلب المناطق وسياسة التهميش التي تتبعها في ظل غياب منوال تنموي ناجع. لكن في المقابل لا يمكن أن ننفي دور بعض العائلات في الدفع بأبنائها إلى "رحلة الموت"، هؤلاء الذين يساعدون أبناءهم على توفير المبلغ المطلوب ليشقوا عباب البحر وينعدم كل أمل في النجاة، فالرحلة مكلفة جدًا ويجب على المهاجر تقديم المال للربان قبل موعد الرحلة لكن لا أحد يعلم أنه سيدفع حياته كلفة لهذه الرحلة أو ربما يعلم لكنه ارتأى خوض المغامرة.
تتحمل الدولة مسؤولية الهجرة غير النظامية نظرًا إلى استفحال الفقر والبطالة والخصاصة التي تشهدها أغلب المناطق وسياسة التهميش التي تتبعها في ظل غياب منوال تنموي ناجع
إن غياب الدعم والإحاطة العائلية والاجتماعية لبعض المراهقين أو الشباب هي من بين الأسباب التي تنضوي تحت الهجرة غير النظامية أيضًا، إذ قد لا يكون الدافع ماديًا في بعض الأحيان وغالبًا ما تكتسي الهجرة السرية بعدًا فرديًا نتيجة الضغوط النفسية الداخلية والاجتماعية، إضافة إلى حب الاطلاع والانصهار في روح الجماعة التي قد تؤثر بشكل سلبي على سلوك كل مهاجر غير نظامي نتيجة انبهاره بثقافة الغرب. ناهيك عن انتشار ثقافة التواكل والتخاذل والربح السهل الذي أمسى يستسيغه الشباب التونسي مع تحميل المسؤولية كاملة للدولة دون أي عزيمة للعمل والسعي.
وقد أدى في الأثناء الفراغ الأمني إلى انتشار هذه الجريمة ضد الإنسانية وسط جدل متواصل حول تواطئ أمنيين مع شبكات الهجرة السرية، وهو ما يستدعي ضرورة مراجعة الإستراتيجية الأمنية في التعامل مع الهجرة غير النظامية. ذلك أن أسئلة كثيرة تنقر ذاكرتنا وتدعونا إلى التساؤل المستمر عن الجماعات التي تقف وراء هذه الهجرات السرية. كيف يتخفى منظمو قوارب الموت؟ ألهذه الدرجة قوية ونافذة شبكات الهجرة غير النظامية؟ من يقف وراءها ويدعمها؟. هي نقاط استفهامية متكررة، تتصارع في عقولنا في كل حين علها تحظى بجواب شاف.
كيف يتخفى منظمو قوارب الموت؟ ألهذه الدرجة قوية ونافذة شبكات الهجرة غير النظامية؟ من يقف وراءها ويدعمها؟
وكان قد أكد رئيس الحكومة يوسف الشاهد على ضرورة تتبع هذه الشبكات الإجرامية المختصة في استغلال الشباب والتي قد تمثل سلسلة متصلة الحلقات تعتمد الإرشاء وشراء الذمم، على أمل أن لا يتشابه خطابه مع باقي الخطابات التي يرددها كل سياسي أثناء كل فاجعة تحل بالبلاد، والتي أصبحت مألوفة لدى التونسيين، وعلى أمل أن تتوفر استراتيجية تنموية واضحة المعالم، تفعل على أرض الواقع، و يكون من أولوياتها التشجيع على المشاريع الاستثمارية والاستجابة لطموحات الشباب.
ربما قد يكون هؤلاء المهاجرون مذنبون لكن ما إن استمرت الأزمة الاجتماعية والاقتصادية تعمقًا وشهدت تخاذلًا مستمرًا من قبل السلطات المعنية، ستظل هذه الصورة المأساوية تتكرر لتطفو جثث "مراكب موت" في كل مرة على سطح بحر المتوسط.
اقرأ/ي أيضًا:
"الحرقة" في تونس: بين انتشارها كثقافة شبابية جديدة.. وظاهرة "الفراريزم"