27-مارس-2024
انتخابات تونس 2022

مركز القرار في السلطة الحالية يعتبر أن هذه الانتخابات أخطر بكثير من أن تكون محلّ منافسة (صورة أرشيفية/ ياسين القايدي/ الأناضول)

مقال رأي 

 

تحدثنا في المقال السابق عن حاجة البلاد لخوض انتخابات تنافسية وحرة ونزيهة، من أجل ديمومة استقرارها السياسي وذلك هو شرط إقلاعها التنموي. وحاججنا بأنه حتى لو ضيّقت السلطة السياسية فإن من مصلحة البلاد أن تسعى المعارضة (أو الأدق المعارضات) للترشح وتدع السلطة تمنعها بالقوة القاهرة من خوض الانتخابات، عوض أن تمنع المعارضة التونسية نفسها (أي خيار المقاطعة) بداعي عدم توفر "شروط مناخ انتخابي". 

من مصلحة البلاد أن تسعى المعارضة للترشح وتدع السلطة تمنعها بالقوة القاهرة من خوض الانتخابات، عوض أن تمنع المعارضة نفسها (خيار المقاطعة) بداعي عدم توفر "شروط مناخ انتخابي"

سنطرح هذه المرة سيناريوهات التضييق على الانتخابات الرئاسية ومنع أي معارضين صريحين من الترشح وفقط ترك الموالين للقيام بذلك، ومن ثمة الانتقال أكثر من حالة "نصف تسلطية" إلى حالة تسلطية صريحة على النموذج المصري على سبيل الذكر لا الحصر. 

من يمكن أن يرى في السلطة السياسية أنّ من "مصلحة الدولة" في عدم السماح بانتخابات تنافسية حرة ونزيهة؟ وما هي السيناريوهات التي يمكن أن تسمح بذلك؟

واجهة السلطة الحالية في تونس بلا منازع الرئيس قيس سعيّد. حتى رئيس الحكومة وأعضاؤها مختارون بعناية، أي من ذوي الشخصيات غير المعروفة وغير الكاريزمية، كي لا يغطّوا على صورة الرئيس. أيضًا حزامه السياسي المقرّب (المجموعة المعروفة في الوسط المقرب منه منذ سنة 2011 بـ"المشروع") متوارٍ تمامًا عن الأنظار خاصة أسماء مثل سنية الشربطي ورضا شهاب المكي.

الحزام السياسي الأوسع أي الذي ينسب نفسه لـ"مسار 25 جويلية" ليس معنيًا في الممارسة بالسلطة، أو هو يتحمل وزرها دون أن يشارك في القرار بأي شكل من الأشكال، رغم أنه الأكثر ظهورًا إعلاميًا حتى من الحزام السياسي المقرب للرئيس. لكن تلك واجهة الأحداث.

المؤشرات الحالية تحيل إلى مستوى عالٍ من التوتر الذي يبدو أننا فقط في بداياته، توتر يبدو مرتابًا من أي معارضة أو محاولة ترشح. حتى أنه يقوم بخطوات من نوع إعلان ملاحقات أو تتبعات تجاه أي شخص يعبر عن رغبة الترشح

يجب أن ندقق في الصورة خاصة في مفاصل الدولة حتى نحاول فهم ما هو قلب السلطة. هناك أيضًا بلا شك وعكس بعض التحليلات التي تصدر عن شق محدد من المعارضة، فإن الرئيس أيضًا في قلب السلطة. لكنه لا يمكن أن يمسك بكل خيوطها. هو يحكم بالأساس بالاستناد إلى/بالتعاون مع الأجهزة الحاملة للسلاح، أمنية كانت أو عسكرية. يمكن أن نقول إنه يمثل الشق السياسي المدني للسلطة، ورئيسها بلا شك. لكن أيضًا، وفي غياب رموز مدنية أخرى وأيضًا غياب حزام سياسي، تستند السلطة الحالية بقوة الواقع إلى "القوة الصلبة" (hard power). 

القرار السياسي، إذً، خاصة فيما يتعلق بما هو استراتيجي، يُطبخ في تلك الحلقة الضيقة أساسًا. والانتخابات الرئاسية مسألة استراتيجية. المؤشرات الحالية تحيل إلى مستوى عالٍ من التوتر الذي يبدو أننا فقط في بداياته، توتر يبدو مرتابًا من أي معارضة أو محاولة ترشح. حتى أنه يقوم بخطوات متوقعة من نوع إعلان ملاحقات أو تتبعات تجاه أي شخص يعبر عن رغبة حتى مضمرة للترشح. هذا التوجه يعبر عن هشاشة بديهية وليس قوة من الناحية السياسية، ورغم ذلك تقوم به السلطات الحالية. إذًا الاستنتاج المرجح هنا هو الظهور بمظهر هش ثانوي أمام الشعور بالتوتر تجاه أي إمكانية ولو ضئيلة لمواجهة منافسة في الرئاسيات. 

مركز القرار في السلطة الحالية يعتبر على الأرجح أن هذه الانتخابات أخطر بكثير من أن تكون محلّ منافسة، وأن أي احتمال لأن يتم تهديد التجديد في عهدة الرئيس قيس سعيّد هي خط أحمر

الاستنتاج الموالي لا يبدو صعبًا: السلطة الحالية، مركز القرار فيها، يعتبر على الأرجح أن هذه الانتخابات أخطر بكثير من أن تكون محلّ منافسة، وأن أي احتمال لأن يتم تهديد التجديد في عهدة الرئيس قيس سعيّد هي خط أحمر. وشعار الرئيس أننا إزاء "حرب تحرير وطني" هو التأطير السياسي-النظري لهذه الفكرة، أي أننا لسنا إزاء وضع سياسي ومن ثمة انتخابي عادي. في تقديري، وفقًا للمعطيات والمؤشرات أعلاه، فإن ذلك ليس قرار الرئيس حصرًا، بل هو ربما قرار أكثر الأجهزة أيضًا. 

يتناقض ذلك مع تقديرات البعض أنّ مرشحًا مثل منذر الزنايدي مثلًا -أي شخص لا يؤشر تاريخه على شجاعة لافتة في المعارضة ورغم ذلك يصر على المعارضة ومعروف قربه من أوساط الدولة القديمة- يمكن تفسيره بأنه مؤشر على شرخ داخل الدولة العميقة. في الحقيقة فإن الزنايدي مقيم في الخارج، تحديدًا باريس، أي العاصمة غير المرتاحة للرئيس وسياساته عمومًا، لكن خاصة بعد موقفه الأخير إثر "طوفان الأقصى" الذي رفع السقف مقارنة بالمواقف التقليدية للدولة في تونس والتي كانت عمومًا منسجمة وفي خدمة العواصم الغربية في هذا الملف الاستراتيجي. إعلاء الصوت من عاصمة السياسة المخملية بدون أن يكون هناك تاريخ للمواجهة لا يعكس علاقة مع الدولة العميقة، بل الأرجح تشجيعًا من النفوذ الغربي العميق، تحديدًا باريس. 

السؤال الأهم هنا لماذا يمكن أن تعتبر الحلقة الضيقة للقرار خاصة الأجهزة، أنّ أي تهديد لإمكانية التجديد للرئيس خط أحمر؟ طبعًا هناك عامل بديهي وهو أنها تتحمل مسؤولية "قرارات 25 جويلية/يوليو" مع الرئيس بذات القدر، وربما يخشى بعضها ردة فعل على ذلك. لكن لا يجب أن نستبعد أن هناك تقديرًا جديًا في أوساطها بأن ما دفعها للذهاب في مسار 25 جويلية/يوليو، أي خطر "انهيار الدولة"، هو ذاته ما يمكن أن يحدث إن لم يستطع الرئيس النجاح في الانتخابات. 

ما من شك لديّ أن السبب الرئيسي الذي جعل الأجهزة معنية بالذهاب مع الرئيس في "قرارات 25 جويلية" ليس تدخلًا أجنبيًا كما يقول البعض، بل هو شعورها العميق بأن مسار الفوضى السياسية وتدهور الوضع الاجتماعي والاحتقان الكبير في صيف 2021. الأمر البديهي والواضح للعيان، كان يستوجب صدمة سياسية تفرض تراتبية واضحة في الدولة ومحاولة لملمة الأمور وترتيبها بما يضمن حدًا أدنى من الاستقرار. طبعًا للرئيس أجندته ولها أجندتها.

الرئيس معنيّ بالمقياس التاريخي بـ"المشروع" السياسي الذي يرى فيه "مجدًا" ما. ولها هي حساباتها التاريخية التي تتعلق بمبدأ "الاستقرار". لكن كلاهما يشترك ربما في التخوف من محاولات أطراف دولية، غربية خاصة، التأثير على المسار الانتخابي بالاستثمار في الصعوبات المالية، خاصة أن هناك استشعارًا لعدم ارتياحها في ملف الموقف من الحرب على غزة، لكن خاصة من التقارب الجيوسياسي مع موسكو وبيكين. 

ربما تسعى أطراف دولية للتأثير لكن من المعيب اتهام أي منافس أو معارض محتمل بأنه يخضع لأطراف أجنبية، إذ هناك ما يكفي من الإخفاقات والمشاكل التي تفسر وجود معارضة في البلاد

في المقابل، هل يعني كل ذلك أن تقدير الرئيس والحلقة المضيقة للقرار صحيح؟ في رأيي ليس دقيقًا في كل شيء. نعم ربما تسعى أطراف دولية للتأثير لكن من المعيب اتهام أي منافس أو معارض محتمل بأنه يخضع لأطراف أجنبية، إذ هناك ما يكفي من الإخفاقات والمشاكل في البلاد التي تفسر وجود معارضة في البلاد، ولا يمكن الارتهان للقراءة المؤامراتية، أي تفسير كل الأحداث بالمؤامرات بدون أدلة، عند القيام بتقدير استراتيجي من هذا النوع. 

وبالمناسبة، المواقف الغربية الأخيرة في خصوص الحرب على غزة جعلت أي أطراف محلية ترغب في التعاون معها في وضع صعب. كما أعتقد أولًا وقبل كل شيء أن تونس تحتاج بالذات من أجل استقرارها المستديم، إلى انتخابات تنافسية حرة ونزيهة. أحد أهم مقومات الوضع الراهن، رغم كل هشاشته، أن الرئيس المفوض انتخابيًا بنسبة عالية وخاصة في سياق انتخابات حرة ونزيه سنة 2019 هو الذي يمثل حجر الزاوية في شرعية السلطة.

للمفارقة أن الوضع الراهن، ورغم أن السلطة لم تقم بانجازات اقتصادية واجتماعية ولم تستطع تنزيل أهم وعودها وعلى رأسها الصلح الجزائي، لا يوحي بأننا إزاء إمكانية منافسة جدية لقيس سعيّد

وللمفارقة أن الوضع الراهن، ورغم أن السلطة لم تقم بانجازات اقتصادية واجتماعية ولم تستطع تنزيل أهم وعودها وعلى رأسها الصلح الجزائي، لا يوحي بأننا إزاء إمكانية منافسة جدية له بالمناسبة، ولا يوجد من الوقت الكافي من هنا حتى شهر سبتمبر/أيلول كي ينضج مرشح قادر على المنافسة. لكن لهذا تحديدًا، على المعارضة أيضًا أن تشارك، حيث أن غياب معارضة جدية وتوازن قوى من أهم مساوئ الوضع العام، والانتخابات الرئاسية فرصة للمصالحة مع أوساط هامة في الرأي العام وتقديم بدائل، وحصر المعركة في المجال السياسي.

من أهم إخفاقات المعارضة في تونس هو تعويلها على تدخل الشارع والبقاء متفرجة على أريكتها كأنها معنية فقط بقطف الثمار، وهذا يحرمها من أهم عامل في العمل السياسي، القدرة على بناء حاضنة شعبية وتعبئتها عند الحاجة. وليس أفضل من النزال الانتخابي للقيام بذلك، بمعزل عن النتيجة الانتخابية. 

لا يوجد من الوقت الكافي من هنا حتى شهر سبتمبر القادم كي ينضج مرشح قادر على المنافسة. لكن لهذا تحديدًا، على المعارضة أيضًا أن تشارك في الانتخابات الرئاسية

أخيرًا، عامل الوقت ربما يصبح نقطة أساسية تؤثر في مسار الأحداث. أي ضغط الوقت والتخوف من نشأة منافس جدي. من الصعب ألا نضع في الميزان إمكانية تأثير أوضاع الجيران الإقليميين خاصة القريبين من الرئيس والذي يتشاور معهم فيما هو استراتيجي. ومن الملاحظ هنا أنه في مصر نهاية العام الماضي وفي الجزائر منذ أسبوع، تقرر في الحالتين تقديم الانتخابات الرئاسية قبل موعدها، ومن الواضح في الحالتين أننا إزاء تخوف من أي انفلات ما في ضبط الأمور. مرة أخرى، أعتقد أن تونس تتضمن مستوى حريات وديمقراطية أفضل من الحالتين المصرية وأيضًا الجزائرية.

يرغب الرئيس عادة في مفاجأة الساحة السياسية، لكن لا يجب أن يكون مفاجئًا أن يتم تقديم الانتخابات الرئاسية في تونس خاصة أن القانون الانتخابي يتيح فقط ثلاثة أشهر للإعلان عن دعوة الناخبين، إذ يمكن أن تتم في جويلية/يوليو مثلًا. تلك ستكون خطوة تؤكد الرغبة الملحة للانتهاء من صداع الرئاسيات بداعي حماية الأمن القومي. في كل الحالات، وعودة على تحليلي في المقال السابق، من المصلحة العليا للدولة أن تكون الانتخابات فرصة لمنافسة سياسية وأن تكون أساسًا لشرعية متجددة للسلطة، ومن ثمة تلك الشرعية هي إطار الحد الأدنى للصراع السياسي في بقية المسائل، ومن ثمة تجنب الفوضى.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"