14-يناير-2023
رجاء بن سلامة صورة الترا تونس

حوار خاص مع الكاتبة والجامعية ومديرة دار الكتب الوطنية رجاء بن سلامة (صور: الترا تونس)

 

الحب والحرية وفلسفة العيش المشترك هي العناوين التي تكاد تمثّل الخيط الناظم لسيرة المديرة العامة لدار الكتب الوطنية رجاء بن سلامة في بحوثها العلمية وأعمالها الإبداعيّة ومواقفها النقديّة، فقد ألّفت في تجاربها الغزيرة والمتنوعة بين حماسة النقد وجرأته ودقّة العبارة وجماليّتها.

تجسدت هذه الملامح من خلال مؤلفاتها التي لا غنى عنها للباحثين في الترجمة والنقد الأدبي والفقه والحضارة، وتُمثّل هذه المؤلّفات بالنسبة لغير المختصين مصدر متعة وفائدة ومحفزًا على الدهشة والتساؤل والنظر والتفكير.

من أعمال رجاء بن سلامة التي تقوم آية ذلك، العشق والكتابة، بنيان الفحولة، صمت البيان، في نقد إنسان الجموع، نقد الثوابت: آراء في العنف والتمييز والمصادرة، الموت وطقوسه من خلال صحيحَي مسلم والبخاري...

لم تقتنع "رجاء" بترف البحث العلمي و"رفاهية العمل الجامعي" فقد حرّكتها مهجة الحريّة ونزعة التمرّد إلى كسر الأنساق التي يفرضها الاختصاص وخرجت من رواق الجامعة إلى النشاط المدني مشاركةً وتأسيسًا وتعبيرًا ونضالًا.

هذه الخصال المتميّزة حثّت " ألترا تونس " على محاورة رجاء بن سلامة التي تكلّلت تجاربها منذ سنة 2015 بخطّة المديرة العامة لدار الكتب الوطنية، فمثّل هذا المركز منطلقًا لأسئلتنا.


  • بعد الثورة تواتر حضورك في المنابر الإعلاميّة مدافعة عن الحريّات، ما الذي يفسّر "اختفاءك" منذ سنوات؟

بعد الثورة تصاعدت أصوات رسميّة وشعبيّة بدا في خطابها ما يُشكّل تهديدًا للحريّة، ولأنّني أعتبر هذه القيمة جوهر وجودنا وسعادتنا لم أتردّد في الحضور إلى المنابر الإعلامية وفي المظاهرات الاحتجاجية قصد التصدّي لخطر محدق كنت ومازلت أراه أشدَّ من أيّ خطر داهم: خطر تلاشي الدولة وضياع المكتسبات المدنية، وخطر العنف السّلفي الذي دفعنا له ثمنًا باهظًا.

دستور سنة 2014 بصرف النظر عمّا ضمّ من تناقضات لمست فيه ضربًا من الأمان، فقد كان تشاركيًّا سليلًا لحوارات ومناظرات عزّزت النظام الجمهوري وساهمت في التصدّي لكلّ نزوع نحو القمع والاستبداد.

رجاء بن سلامة لـ"الترا تونس": المرسوم 54 لا يليق بتونس الثورة، ولا أظنّه قابلًا للتطبيق في مجتمع تمرّس أبناؤه من كلّ الفئات على الجرأة في التعبير، وواجه الآلاف منه في العقود السابقة الهرسلة والمطاردة والسجن والتعذيب

  • اقترن الدفاع عن الحريّات الجماعية والفردية بالتصدّي للجماعات التي تتبنّى خطابًا تكفيريًا، هل ترين أنّ الخطر قد زال بتراجع نعرات التشدّد الديني؟

لا شكّ أنّ المد السلفي المتشدّد قد تراجع في تونس منذ 2014، لكن مصادر القمع والترهيب وإن بدت أقلّ خطورة لم تكفّ عن الظهور من جهات أخرى متعدّدة وبدرجات متفاوتة، ذلك أنّ التشدّد الديني يتشابه في رأيي مع كلّ خطاب ينطوي على التعصّب للجهات والأمم والأفكار والفئات والقطاعات والإيديولوجيات، حتّى التعلقُّ بالأفراد والزعامات قد يكون مصدرًا للأحادية والانغلاق وضيق الأفق المفضي بالضرورة إلى العنف والاستبداد ومصادرة الآراء.

رجاء بن سلامة لـ"الترا تونس": التعلقُّ بالأفراد والزعامات قد يكون مصدرًا للأحادية والانغلاق وضيق الأفق المفضي بالضرورة إلى العنف والاستبداد ومصادرة الآراء

  • كلامُكِ هذا ينسجم مع موجة الرفض للمرسوم الرئاسي عدد 54، فهل يمنعك واجب التحفّظ من الخوض فيه؟

أنا واعية بحدود الواجب الإداري وضوابطه التي تقتضي منّي التحفّظ في تناول بعض المشاغل، لكن لا شيء في حياتي يمكن أنّ يعطّل دفاعي الثابت والمعلن عن الحريّة متى رأيت أنّها مستهدفة في أيّ مكان أو زمان مهما كانت الجهة. الحرّيّة ومعها الكرامة والمساواة. فلا يمكن أن أصمت مثلًا عمّا يمثّل تراجعًا عن مبدإ التّناصف في الانتخابات.

أمّا بالنسبة إلى المرسوم 54 فهو كيفما قلّبته لا يليق بتونس الثورة، ولا أظنّه قابلًا للتطبيق في مجتمع تمرّس أبناؤه من كلّ الفئات على الجرأة في التعبير، وواجه الآلاف منه في العقود السابقة الهرسلة والمطاردة والسجن والتعذيب، وستتواصل بلا شكّ موجات التصدّي لهذا المرسوم وغيره من أشكال التضييق والتقييد بفضل المواطن اليقظ الأبيِّ والنخبة النيِّرة من جامعيين وطلبة ومبدعين وفنّانين...

رجاء بن سلامة لـ"الترا تونس": ستتواصل بلا شكّ موجات التصدّي للمرسوم 54 وغيره من أشكال التضييق والتقييد بفضل المواطن اليقظ الأبيِّ والنخبة النيِّرة من جامعيين وطلبة ومبدعين وفنّانين...

  • هل أحسنت هذه النخبةُ الاستفادة من " هِبة الحريّة" التي جادت بها ثورة 2011؟

في البداية لا بدّ من التذكير بأنّ صوت الحريّة وصيحات الرفض والتمرّد لم تكن معدومة قبل 2011 خاصّة في المقام الأكاديمي والإبداعي، ولئن توخّى نظام بن علي أساليب التعتيم والمنع من النشر، فقد كان اللجوء إلى دور نشر أجنبية أو بعض مواقع الأنترنت من سبل كسر الحصار الذي نجح فيه الكثيرون بكلّ جرأة وحكمة واقتدار، بعد الثورة لا بدّ من الاعتراف بأنّ منسوب الحريّة قد تعاظم ، فأثمر أعمالًا روائيّة وغنائيّة وسنيمائيّة متميّزة كميًّا ونوعيًّا وغنية من حيث المضامين والرسائل والتقنيات والأساليب.

 

 

 

  • ماذا عن تجربتك الخاصّة في التملّص من الرقابة في عهد بن علي؟

لا أدّعي أنّني كنت مناضلة سياسيّة، لكنّني كنت متمسّكة بالفكر النقدي، ولم أكن أرضى لنفسي الاختيار والبحث والتعبير إلّا وأنا "على حافّة المصادرة"، فالإبداع يكتسي بعض وجوه طرافته من المغامرة والتحدّي، ولأنّ دُور النشر ووسائل الإعلام كان يضيق صدرها بالكلمة الحرّة فقد عمدتُ شأني شأن الكثيرين إلى النشر في مواقع بعيدة عن المصادرة منها إيلاف والأوان.

  • لكن بم تفسّرين أن يَحظى أحد نصوصك النقديّة بالنشر في كتاب السنة الثالثة من التعليم الثانوي للشعب العلمية؟

النص الذي أشرتَ إليه أخذه مؤلّفو الجهاز البيداغوجي من كتابِي نقد الثوابت، الذي نشرتُه سنة 2005 بدار الطليعة – بيروت، الاستئناس بهذا النصّ في محور شواغل المرأة بقلم المرأة بدا لي من المفارقات، فكيف نمنع كتابًا ونقتطف منه نصًّا، لا أستطيع أن أقدم إجابة يقينية، قد يعود الأمر إلى مبادرة جادّة وشجاعة من القائمين على تأليف الكتاب المدرسي، وقد لاحظنا ذلك في نفس الفترة من خلال إدراج نصوص أخرى أكثر جرأة في النقد السياسي أذكر على سبيل المثال مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر لسعد الله ونوس في برنامج الباكالوريا آداب، وقد يرجع السبب إلى الخطوات التي انتهجها النظام بعد 2006 حينما أباح حيِّزًا أوفر من الحريّة تشكّل من خلال بعض البرامج الحواريّة وجرعات من الحريّة لاحظها التونسيون في عدد من الصحف. 

  • ألا ترين أنّ " الحريّة الفيّاضة" بعد الثورة قد أفقدت الإبداع مقتضياته الفنيّة من إيحاء ومجاز وترميز وتخييل؟

لا حرج في ذلك، فالفكر النقدي والحسّ الذوقي آليّتان كفيلتان بالفرز والتعديل لاحقًا، حينها سيكون البقاء للأعمق والأجمل والأطرف، ولا ندركنّ هذا إلا بالحريّة، فهي مصدر كلّ الفضائل وإن شابتها في البداية بعض علامات الفوضى والجهل والتفكّك.

رجاء بن سلامة لـ"الترا تونس":  الحرية هي مصدر كلّ الفضائل وإن شابتها في البداية بعض علامات الفوضى والجهل والتفكّك

  • الفوضى في الإبداع يمكن أن تُجبر، لكن ما تعليقك على "الفوضى" في البحث العلمي؟

ماذا تقصد تحديدًا؟

  • أقصد بعض وقائع السرقة العلمية والانتحال، فما رأيك؟

هذه الوقائع نادرة في الحقيقة لكن التفطّن إليها يقتضي التعامل معها بمنتهى الصرامة القانونيّة فالانتحال العلمي سقوط أخلاقي. السرقة العلمية أخطر في رأيي من السّرقة المادّيّة التي قد تكون لها مبرّرات مثل الفقر، والتي لا تقوم على ادّعاء ملكيّة المسروق. والحال أنّ السرقة العلميّة سطو وانتحال.

 

 

  • إشرافُكِ على دار الكتب الوطنية لم يحُدَّ من جرأتك في التعبير عن مواقفك فهل حدّ مركزك هذا من شغفك بالبحث والإبداع؟

الإشراف على دار الكتب الوطنيّة أقرب عندي إلى إنجاز المشاريع الثقافيّة والبيداغوجيّة منه إلى العمل الإداري.

لأسباب عدّة، أوّلها أنّ المدير العامّ لهذه المؤسّسة يفوّض  الشّؤون الإداريّة إلى الكتابة العامّة والمصالح المشتركة، وثانيها أنّني شخصيًّا حرصت على إنجاز مشاريع للمكتبة، منها الرّقمنة ومتحف التراث المكتوب. ثمّ إنّ وجود كفاءات وإرادات صادقة بهذه المؤسّسة يسَّر لي كثيرًا إنجاز هذه المشاريع وتحقيق نقلة نوعيّة للمؤسّسة. علمًا وأنّ التّنظيم الهيكليّ للمكتبة الوطنيّة لا يشترط في المدير العامّ أن يكون إداريّا، بل أن يكون شخصيّة ثقافيّة وعلميّة.

  • ما هي أوضح الخطوات التي تمّ إنجازها في إطار المشروع الثقافي الذي تمّ التخطيط له في دار الكتب الوطنية؟

الخطّة التي حاولت العمل وفقها كانت خطّة تأهيل ورقمنة وإدماج. الرّقمنة تسمح بجعل محتويات الثقافة التونسية حاضرة على الأنترنت، وأدوات تحقيقها كانت المنصة الرّقميّة الجديدة التي أطلقناها في ماي/أيار 2022، وكذلك متحف التراث المكتوب الذي نعمل على إنجازه منذ أكثر من سنتين، ويشارك في إنتاج محتوياته أكثر من 320 جامعيّ وجامعيّة.

ومن شأن هاتين الأداتين أن توفّرا شروط إنجاز البحوث المتقدّمة في مجال التّونسيّات. وفي يخصّ هدف الإدماج، فقد أنشأنا سنة 2016 قاعة مطالعة للأطفال أطلقنا عليها اسم علياء ببّو ودعّمناها بقاعة مطالعة للمكفوفين (لويبراي)، وفي نفس السنة تمّ ترميم المكتبة الخلدونيّة وإعادة فتحها.

رجاء بن سلامة لـ"الترا تونس": الرقمنة تسمح بجعل محتويات الثقافة التونسية حاضرة على الأنترنت، وأدوات تحقيقها كانت المنصة الرقمية الجديدة التي أطلقناها في ماي 2022، وكذلك متحف التراث المكتوب الذي نعمل على إنجازه منذ أكثر من سنتين

كما انطلقنا سنة 2017 في القيام بعمليّة لم نر مؤسّسة أخرى تقوم بها هي حصاد الانترنت وحفظ ما أصبح يسمّى بـ"التراث الرقمي".  واستحدثنا في التّنظيم الهيكليّ الجديد للمكتبة إدارة للإعلامية والموارد الرقمية، حتى تتأقلم المكتبة مع ضرورات العصر.

 

مراسل "الترا تونس" مع رجاء بن سلامة خلال إجراء المقابلة

مراسل "الترا تونس" مع رجاء بن سلامة خلال إجراء المقابلة