28-أبريل-2024
الميغاليت في تونس.. ثروة مهملة

توجد الصروح الجلمودية التونسية "الميغاليت" أساسًا بجهة الشمال الغربي التونسي وتمتد على 3 ولايات

 

المفاضلة بين الحقب التاريخية في السياسات الثقافية والتعليمية وما يترتب عنها من تخطيط يهم البحث والتثمين والتدريس والترفيه، تعتبر من القضايا الهامة المسكوت عنها في تونس. لذلك نرى مراحل تاريخية يتم الاهتمام بها على جميع المستويات وأخرى مهملة وطيّ النسيان.

ويحدث ذلك تحت جملة من التأثيرات المعلنة والخفية في نفس الوقت، وهذه التأثيرات منها ما هو سياسي حسب المرجعيات الحضارية والإيديولوجية للأحزاب والشخصيات السياسية ومنها ما هو تحت تأثيرات دينية وما هو ماليّ حسب الجهات المانحة لصيانة التراث والعناية به، ومنها ما يتنزل ضمن الصراعات الحضارية والثقافية التي تندلع في العالم في كل مرة حسب مقتضيات التغيرات الجيوسياسية، ومنها أيضًا ما يخضع لتأثيرات وأهواء الباحثين أنفسهم داخل الجامعة ومراكز ومخابر البحث حسب الاختصاصات التي درسوها وانبروا للدفاع عنها.

من الحقب التاريخية التي خضعت إلى المفاضلة في تونس والتي تتطلب المزيد من الاهتمام والتدبر العلمي والاهتمام السياسي هي حقبة ما قبل التاريخ أو تلك التي تعرف بمرحلة "قبل الميلاد"

مسألة الذاكرة والتراث بشقيّه المادي واللامادي في تونس ليست بالأمر الهين، فهي من الملفات الحيوية والأساسية سواء تعلق الأمر بالتنمية أو الهوية الحضارية، والتعاطي معها يتسم بالتعقيد والبيروقراطية التي تحيط بالمؤسسات التي تشتغل بهذا القطاع وشديد التقاطعات مع قضايا واختصاصات أخرى، لذلك تغيب الخارطة الأثرية الوطنية الدقيقة والعلمية، كما تتعرض حقب تاريخية بعينها إلى الإقصاء التام أو إعطائها مساحة ضئيلة ضمن مجالات الاهتمام والتثمين والتسويق الثقافي.

ومن الحقب التاريخية التي خضعت إلى المفاضلة في تونس والتي تتطلب المزيد من الاهتمام والتدبر العلمي والاهتمام السياسي هي حقبة ما قبل التاريخ أو تلك التي تعرف بمرحلة "قبل الميلاد"، فتونس باعتبار موقعها الجغرافي المطل على فضاء الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط مع عمق إفريقي هام سكنها الإنسان  النيودرتال" أو الإنسان الأول، خلف وراءه آثارًا هامة اتسمت بالعظمة المعمارية ودالة على نوعية الحياة في العصور القديمة عندما بدأ الاستقرار مع العصر الجليدي وقبل الشروع في التحقيب الزمنى والمرحلي للحضارات المتعاقبة.

 

ميغاليت مكثر
حان الوقت أن تفكر تونس في الذهاب إلى منظمة اليونسكو من أجل تصنيف هذه الثروة التراثية وجعلها تراثًا إنسانيًا محميًا (ميغاليت مكثر)

 

الإنسان التونسي الأول ترك "آثارًا صخرية" عتيدة وغريبة ومحيّرة تعرف لدى الباحثين في علوم الآثار بـ"الميغاليت" وهي أقدم المشيّدات الباقية والصامدة إلى اليوم أمام جميع الأفعال المدمرة التي مورست عليها.

هذه الصروح التونسية والتي تتفوق جماليًا ومن ناحية قدمها ودلالاتها الحضارية والتاريخية على "صروح ستونهنج" البريطانية الدائرية، توجد أساسًا بجهة الشمال الغربي التونسي وتمتد على ثلاث ولايات أساسية وهي جندوبة وباجة وسليانة.

الإنسان التونسي الأول ترك "آثارًا صخرية" عتيدة وغريبة ومحيّرة تعرف لدى الباحثين في علوم الآثار بـ"الميغاليت" وهي أقدم المشيّدات الباقية والصامدة إلى اليوم

وحسب تصريح الأستاذ الجامعي والباحث التونسي نبيل قلالة المختص في المعالم الجلمودية بتونس، فإن الفن المعماري الجلمودي كانت بداياته في غربي المتوسط منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، واكتشفت أقدم المعالم في مالطا كما عرفت جزيرة سردينيا بناءات جلمودية تدعى "نراغس" واشتهرت جزر الباليار بمعالم شبيهة تسمى "نافتاس" و"طاولاس" وفي جزيرة كورسيكا توجد الآثار المسماة "طورّاس".. ويضيف بأن المعالم بشمال إفريقيا -لا سيما خلال الألفية الأولى قبل الميلاد- عرفت تطورًا ملحوظًا ميّز الصروح والهياكل وقد بقيت منه مجموعة هامة من حيث العدد والنوع.

ويشير الباحث التونسي نبيل قلالة بأن الصروح الجلمودية التونسية ترتكز بالخط الغربي من الشمال إلى الوسط وهو ما يعرف بـ"التلّ الأعلى"، ويضيف بأن كل الصروح الأخرى وخصوصًا المقابر التي توجد خارج المنطقة المذكورة فإنها ذات خصوصية مختلفة وتنهض بأدوار جنائزية بالأساس مثل المقابر الدلمونية بدقة وبلاريجيا وجبل قراع بتبرسق.. والحوانيت المحفورة في الصخر وجنب التلال والتي اكتشفت بجهة الوطن القبلي وخصوصًا منطقة الحمامات.. ومقابر "الجواث" الموجود بالجنوب التونسي.

 

الباحث التونسي نبيل قلالة
الأستاذ الجامعي والباحث التونسي نبيل قلالة المختص في المعالم الجلمودية بتونس

 

وأوضح الباحث التونسي في مجال الآثار الجلمودية بأن "الميغاليت" الكائنة بالتل الغربي تتسم بالتعقيد ولم يتم الحسم في استعمالاتها بعد، فكل هيكل يحتوي على غرف عديدة تستعمل مرارًا ولفترة طويلة تمتد أحيانًا على عدة قرون، فقد وجدت ببعض الغرف الجلمودية عشرات الهياكل العظمية وكمية كبيرة من الودائع المدفونة في قاع الغرفة الواحدة.

ويؤكد قلالة بأن الأسئلة المحيرة إلى حد اليوم هي: كيف؟ وبأي الوسائل تم تحريك تلك الصخور الضخمة في مناطق وسفوح وعرة وخطرة؟ وهل استعملت تلك الغرف للسكن والاستعمال اليومي؟ وهل استعملت كمعابد؟

نبيل قلالة (مختص في المعالم الجلمودية) لـ"الترا تونس": من الأسئلة المحيرة إلى حد اليوم هي: بأي الوسائل تم تحريك تلك الصخور الضخمة في مناطق وسفوح وعرة وخطرة؟

وأشار الباحث التونسي في تصريحه لـ"الترا تونس"، إلى أن الانتباه البحثي حول هذه المعالم بدأ في القرن الثامن عشر وتواصل طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين، ومن أهم الأثريين في هذا المجال "غابريال غوبس"، وبالنسبة للصروح التونسية فقد بدأ البحث حولها مع المستكشفين والرحالة الفرنسيين في ظل الاستعمار والتي غايتهم البحث الإثني بخصوص سكان المغرب العربي، ثم مع الباحثين التونسيين بداية من ستينات القرن العشرين وقد قامت الجامعة التونسية بعدة بحوث في الغرض ومن أهم الباحثين التونسيين نذكر "آمنة غيث" و"سعاد مينياوي" وآخرون.

 

 

أما أهم "الميغاليت" التونسية فبيّن نبيل قلالة أن أغلبها وأشهرها يوجد بالشمال الغربي وأنه شخصيًا قام بحفريات في قبور "المديّنة" من ولاية الكاف وفي أرض نفس الولاية توجد "ميغاليت الّلاس" التابعة لمعتمدية السرس وعددها 74 معلمًا يصل طول بعضها إلى 12 مترًا وعرضها من 7 إلى 8 أمتار وارتفاعها أكثر من مترين.. وتتكون عادة هذه "الميغاليت" من رواق مسقوف تفتح عليه سبع غرف أو أكثر في بعض الأحيان، ولهذا المعلم الشهير غلاف مكون من جدار ساند متدرج من بلاطات موتدة في الأرض.

 

ميغاليت اللاس
باحث تونسي في مجال الآثار الجلمودية: "ميغاليت الّلاس التابعة لمعتمدية السرس عددها 74 معلمًا يصل طول بعضها إلى 12 مترًا وعرضها من 7 إلى 8 أمتار وارتفاعها أكثر من مترين..

 

وأيضًا مقابر وادي بوزافة بجهة مكثر من ولاية سليانة وهي "ميغاليت" عملاقة وصلبة وصامدة وتتكون الواحدة منها من أربع غرف متلاصقة وتتناوب عبر جدارها الكوّات النافذة وغير النافذة. وكل جدرانها مبلطة بما في ذلك أرضية الغرف والنفاذ إليها يكون عبر بئر صغيرة.

 

 

وليس بعيدًا في الجغرافيا عن منطقة مكثر أشار محدثنا وهو يستعرض الميغاليت التونسية إلى مقبرة حمام الزواكرة والتي تتسم عمارتها بإفريز قائم على دعائم جانبية وبغرف مبنية في شكل خرجات معلقة حتى تتسنى توزيع ثقل بلاطة الغطاء الضخمة، أما النفاذ إليها فيتم من خلال البلاطة الجدارية الأمامية للغرف ويوجد بهذه المقبرة الكبرى والمثالية للميغاليت أكثر من مائة هيكل وتبدو فيها الحجارة الضخمة معالجة مما جعل الواجهات محكمة الصنع.

وختم الباحث التونسي نبيل قلالة تدخله بالقول إن ما ينقص تونس بخصوص رصيدها الهام من "الميغاليت" هو الذهاب إلى الحفريات الميدانية وتكثيفها "فمنذ 2007 لم يتوجه أي باحث تونسي إلى الميغاليت.. وهذا أمر مستغرب لأن البحث والحفر في مرحلة ما قبل التاريخ يجعلنا نفهم ما حدث في ما بعد من أحداث ووقائع وتحولات حضارية" وفقه.

باحث تونسي في مجال الآثار الجلمودية: ما ينقص تونس بخصوص رصيدها الهام من "الميغاليت" هو الذهاب إلى الحفريات الميدانية وتكثيفها، فمنذ 2007 لم يتوجه أي باحث تونسي إلى الميغاليت

ومن جهتها أكدت الأستاذ الباحثة بوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية (مؤسسة تابعة لوزارة الشؤون الثقافية) ليلى الدعمي لـ"الترا تونس" بأن الميغاليت أو ما يعرف بالقبور الجلمودية هي مرحلة هامة من تاريخ تونس ولا بدّ من العناية بها، موضحة بأن الوكالة نظمت يوم 9 أوت/أغسطس من سنة 2020 بالشراكة مع المعهد الوطني للتراث بمناسبة اليوم العالمي للسكان الأصليين تظاهرة احتفائية بهذا الموروث الإنساني النادر جاءت تحت عنوان "المحلية من خلال الفن المعماري الجلمودي" انتظمت بالمتحف الأثري بمكثر.

تبقى الميغاليت التونسية في حالة نسيان وإهمال وإخضاع قسري لقاعدة المفاضلة رغم عراقتها وتميزها جماليًا وتاريخيًا.. وقد حان الوقت الآن أن تفكر تونس انطلاقًا من خطط واضحة تنهض بها المؤسسات المختصة في التراث الراجعة بالنظر إلى وزارة الشؤون الثقافية في الذهاب إلى منظمة اليونسكو من أجل تصنيف هذه الثروة التراثية وجعلها تراثًا إنسانيًا محميًا، وأيضًا تسليط الأضواء حولها وإدراجها في مسالك الترفيه وخصوصًا المسالك السياحية الثقافية.

 

ميغاليت مكثر
باحث تونسي في مجال الآثار الجلمودية: الصروح الجلمودية التونسية ترتكز بالخط الغربي من الشمال إلى الوسط وهو ما يعرف بـ"التلّ الأعلى" (ميغاليت مكثر)