30-أكتوبر-2022
الرسام التونسي الصادق قمش

"لم يتخلّ قمش في رسوماته عن انسيابية ألوانه المتمازجة بإيقاعية غريبة بروح شعرية عالية"

 

تصدير: "إذا أتممت الفعل قتلته.."

(كتاب حدّث أبو هريرة قال - محمود المسعدي)


 

الرسم مخاتلة للضوء ومغافلة للظلّ، هو نقيض الوضوح الذي يجعل من اللوحة سطحًا بلا عمق وبلا شاعرية وبلا معنى، وهو أيضًا نقيض الإيهام الذي يجعل من العملية التشكيلية أرضًا بلا أبعاد وبلا لغة وبلا رؤى واضحة. عندها تتحول الألوان إلى أفق أليف لا يغري بالتطلع، بل يبدو صامتًا فيما يشبه حياء الحجر.

الفنان التشكيلي التونسي الصادق قمش ابن "تكرونة" الأمازيغية، يعدّ واحدًا من الآباء المؤسسين للحركة التشكيلية التونسية

ضمن هذه المناخات الفكرية الساحرة وهذه الهواجس الإبداعية الآسرة، تتحرك همّة المثقف والفنان التشكيلي التونسي "الصادق قمش" الذي أفنى أكثر من نصف قرن ماسكًا فرشاته ومتجاوزًا للظواهر ومجموعات الرسامين ومواجهًا للحقيقة الفنية والفلسفية كما يراها. فهو شديد اليقين أن الممارسة التشكيلية الإبداعية الرائجة في تونس لا تؤدي إلى أرض المعنى التي يبحث عنها.

الرسّام الفنان "الصادق قمش" هو ابن قرية ملهمة وذات مفردات جمالية مخصوصة. إنها "تكرونة" الأمازيغية، ذاك البستان الصخري المعلّق المأخوذ بريح التخييل ولحظات المكاشفة الشعرية. من روح تلك القرية، تشكّلت الجينات الفنية لهذا الرسام التونسي الممهور.

 

"في خمسينات القرن الماضي، لاحت ملامح النضج على تجربة الصادق قمش وبدأت إسهاماته في الصالونات والمعارض التشكيلية"

 

"قمش" هو واحد من الآباء المؤسسين للحركة التشكيلية التونسية. لم يغره الالتحاق بجماعة "مدرسة تونس" على غرار العديد من الرسامين من جيله، لقد كان قمش يعتقد صارمًا أنّ مدرسة تونس هي شجرة باسقة وعالية ومثمرة، لكنها في الوقت نفسه، كانت تحجب غابة جميلة، ثرية ومزهرة. لقد اختار هذا الفنان دربًا مغايرًا.

في أوج شبابه، في خمسينات القرن الماضي، لاحت ملامح النضج على تجربة الصادق قمش وبدأت إسهاماته في الصالونات والمعارض التشكيلية. فتردد اسمه في الساحات وسرعان ما جاء التنويه والاستحسان من هنا وهناك: من الفنانين الكبار ومنهم الرائد "حاتم المكي" ومن الجلسات الثقافية والمقالات النقدية.

أسّس الصادق قمش سنة 1962 مع مجموعة من الرسامين التونسيين والأجانب "مجموعة الستة" بهدف التصدي لسوء توظيف الفلكلور التونسي في أعمال بعض الرسامين الفرنسيين الذين مازالو يقيمون بتونس

لم يكتف "الصادق قمش" بذلك، بل تشكّل لديه يقين بضرورة التغيير الثقافي داخل المجتمع التونسي الخارج لتوّه من مرحلة استعمار دمّر الثقافة المحلية وأرسى ثقافته بقوة. وهو ما يمكن تسميته بالوعي الطلائعي. فأسس سنة 1962 مع مجموعة من الرسامين التونسيين والأجانب ما عرف في ذلك الوقت بـ"مجموعة الستة" ومن بينهم الرسام الكبير "نجيب بلخوجة" و"لطفي الأرناؤوط" والفرنسيين "جوليات قرمادي" و"جون كلود ألان".. وكان خط هذه المجموعة هو التصدي لسوء توظيف الفلكلور التونسي في أعمال بعض الرسامين الفرنسيين الذين مازالو يقيمون بتونس، وأعمال بعض أعضاء "مدرسة تونس"، وتقديم لوحة فنية بديلة تقدم الحياة على هذه الأرض على نحو مغاير.

 

"خلق الصادق قمش أسلوبه الخاص، فوقّع لوحته بمحو الملامح عن وجوه الشخصيات"

 

وكان من بين الداعمين والمشجعين لمجموعة الستة المدرب الإيطالي الشهير "فابيو روكيجياني" الذي درّب النادي الإفريقي (واحد من أشهر الأندية الرياضية التونسية) لمدة عشر سنوات من 1957 إلى 1967 وتحصل معه على أول بطولة وكأس في تاريخ النادي بعد الاستقلال وذلك وقت إدارة "عزوز الأصرم". وهو يعتبر مكتشف ألمع نجوم الإفريقي في تلك الفترة على غرار اللاعبين: الصادق ساسي الشهير بعتوقة، والطاهر الشايبي وعبد الرحمان الرحموني.. وغيرهم.

المدرب الإيطالي الشهير "فابيو روكيجياني" كان من بين الداعمين والمشجعين لمجموعة الستة، إذ رأى أنها تدافع عن خطاب ثقافي ينبت من أرض تونس

لكن الوجه الآخر لـ"فابيو روكيجاني" هو وجه ثقافي. فقد كان رسامًا مقتدرًا ومعروفًا عنه انخراطه في الحياة التشكيلية التونسية، وهو يعد صديقًا للعديد من الفنانين والرسامين، وقد فتح مرسمه للتعليم والحوارات الثقافية الجادة. ولروكيجياني مواقف ينتصر فيها للقضايا التونسية، ومن بين تلك المواقف دعمه لمجموعة الستة التي يرى أنها تدافع عن خطاب ثقافي ينبت من أرض تونس وتتخذ من التراث لغة للخلق والإبداع والتخييل بعيدًا عن الطروحات الساذجة التي كانت بعض المجموعات الأخرى تقوم بها.

"قمش" وبعد تجربة مجموعة الستة، "جنّح وطار" في سماء الفن، وخلق له أسلوبه الخاص به، فوقّع لوحته بمحو الملامح عن وجوه الشخصيات التي يقوم بتوظيفها في رسوماته وأعماله الفنية، فصهر الشكل التشخيصي الأولي داخل فضاء اللوحة الممتد بعناصر فنية متجانسة.

 

"انبنت لوحة الصادق قمش على رؤية فنية تتعارض مع المألوف في ممارسات الرسامين المشاهير في ذلك الوقت"

 

ومن ثمة انبنت لوحة الصادق قمش على رؤية فنية تتعارض مع المألوف في ممارسات الرسامين المشاهير في ذلك الوقت. لم تكن التقنيات همّه الأول، بل نقل الفكرة التي تسكنه من زمنه إلى أزمان لاحقة، لقد كان باحثًا عن الخلود بواسطة فرشاة وقماشات وقنان ألوان، تمامًا كما الأنبياء والفلاسفة، همّه الحقيقى هو الذاكرة: ذاكرة الإنسان الفرد وذاكرة المجموعة، إذ باستطاعة أي واحد منا أن يُركّب الملامح التي يريد على تلك الوجوه التي يرسمها "قمش" ليجد نفسه في النهاية أو يجد من يريد.

لم يكن الصادق قمش رسامًا وجوديًا صرفًا -كما نحى صديقه نجيب بلخوجة- أو انطباعيًا أو عفويًا، بل كان يمزج كل شيء في لوحة واحدة بحذر وأناة وببصيرة العارف. وهو ما يجعل العين تدرك تلك الأعمال وتعرف صاحبها من دون التثبت في التوقيع.

قضّى الصادق قمش أكثر من ستة عقود وهو يرسم، ووقّع لوحاته بمحو الملامح عن وجوه الشخصيات إذ باستطاعة أي واحد منا أن يُركّب الملامح التي يريد على تلك الوجوه التي يرسمها

الفنان الصادق قمش لم يتأثر برسام بعينه، بل كان يميل لبعض التجارب مثل تجربة الرسام التونسي اليهودي "بيار بوشارل" الذي يعتبر أبًا روحيًا للعديد من الرسامين التونسيين، أو تجربة الرسام والنحات الإيطالي "أميدو موديلياني". "قمش" هضم كل تلك التجارب المحلية والعالمية ليجد لنا كشوفات بصرية متجددة لم تألفها العين من قبل، هو في النهاية وجد نفسه.

الصادق قمش قضّى أكثر من ستة عقود وهو يرسم ولا زال يمارس الرسم وهو في عنفوان شيخوخته، لم يتخلّ عن أحلامه وشخوصه وانسيابية ألوانه المتمازجة بإيقاعية غريبة بروح شعرية عالية. ومازال يستدرج الحقيقة والهوية الثقافية والجمالية المحلية ويحولها إلى علامات روحية برفعة الرسام العاطفي وحدسه العميق.

"الصادق قمش" تجربة فنية على حدة في التاريخ الثقافي التونسي، ضمن رحلة الفن التشكيلي على وجه الخصوص، لها فرادتها ولها استثنائيتها.