21-أغسطس-2023
بحيرة البيبان

بحيرة البيبان في سواحل تونس كانت متاهة للبطل الإغريقي أوليس وسريرًا وثيرًا لإله البحر بوسيدون (مواقع التواصل الاجتماعي)

 

تعتبر "الأوديسة" التي ألفها "هوميروس" من أبرز النصوص الشعرية الملحمية الإغريقية، حتى أنها باتت حقلًا ملهمًا لأغلب المدارس الشعرية اللاتينية التي جاءت فيما بعد، والمخزن الجمالي والرمزي لكل الفنون في العالم الغربي بأسره. وقد ترجمت "الأوديسة" إلى كل لغات الدنيا القديمة والمعاصرة. وهي في الأصل كانت غنائية ملحمية متداولة في العهد الإغريقي تشبه السيرة الهلالية في الثقافة العربية وقد حولها "هوميروس" إلى نص مكتوب يخلّد سيرة البطل الإغريقي "أودسيوس" المعروف باسم "أوليس" في أساطير الرومان.

و"أوليس" هو ملك "إيثاكا" الأسطوري ترك  بلده ليكون من قادة حرب طروادة إلى جانب "الآخائيين". وهو صاحب فكرة الحصان الخشبي العملاق الذي خبأ داخله الجنود والذي بواسطته انهزم الطرواديون. وهو أيضًا متحدث بليغ أمام الجماهير والجيوش، وسفير عبقري يحسن المفاوضة والتدبر السياسي ومبارز ومشاجر صلب في ساحات الوغى. 

تروي الأسطورة أنّ إله البحر "بوسيدون" غضب من البطل الإغريقي "أوليس" فألقى به إلى سواحل تونس وتحديدًا في بحيرة مغلقة تسمى بحيرة "البيبان" حيث قضى البطل سنوات طوال

وتروي ملحمة "الأوديسة" أنه بعد انتصاره الباهر في حرب طروادة وأثناء عودته بحرًا إلى مملكته، التقى "أوليس" وجنوده بعملاق ذي عين واحدة  فبادرهم بالهجوم وأكل بعض الرجال فكان الردّ قويًا من "أوليس" الذي تقدم بكل شجاعة  وفقأ له عينه وتركه أعمى غير بصير. وكان ذاك العملاق هو ابن إله البحر "بوسيدون" الذي غضب غضبًا شديدًا وعاقب "أوليس" بأن جعله تائهًا في البحر لمده عشر سنوات وأن يلاقي مع التيه أهوالًا كثيرة.

 

صورة
الملك "أوليس" وجنوده لدى محاولة مغادرة بحيرة "البيبان" المغلقة التي ألقاه بها إله البحر "بوسيدون" (Getty)

 

وبداية الغضب والعقاب كانت بأسره من قبل حورية البحر "كاليبسو" في جزيرة "أوجيجا" والتي عرضت عليه الزواج  مقابل الخلود وعيش الأبدية فقبل العرض مكرهًا لكنه خاتلها وخطط للهروب بواسطة رمث من الأخشاب. إلا أنّ "بوسيدون" سيد البحار كان يراقبه فأثار العواصف حوله وحطم رمثه وأمعن في عقابه عبر محطات تيه جديدة بجزر كثيرة منتشرة بالبحر الأبيض المتوسط.

أمر "بوسيدون" الأمواج بأن تحمل "أوليس" وجنوده إلى أبعد شواطئ  المتوسط، وماهي إلا لمحة بصر حتى وجد نفسه في سواحل تونس وتحديدًا في أقصى الجنوب الشرقي على ضفاف تلك الخلجان القصية. تخيّرت الأمواج مكانًا غير آهل، فيما يشبه الحوض البحري، إنه بحيرة "البيبان". وتروي الأساطير القديمة أنّ "بوسيدون" كان يستريح في ذلك المكان ويأمر سيرانات البحر بأن يهدهدنه حتى ينام. 

قضّى "أوليس" أيامًا غريبة وعجيبة بهذه البحيرة التونسية الفريدة المغلقة بحثًا عن منفذ يحمله إلى "إيثاكا" البعيدة وكان ينتظر الليالي المقمرة حتى تبحر كل السيرانات الساحرة في اتجاه البحر الأبيض المتوسط

قضّى "أوليس" أيامًا غريبة وعجيبة بهذه البحيرة التونسية الفريدة المغلقة بحثًا عن منفذ يحمله إلى "إيثاكا" البعيدة. كان ينتظر الليالي المقمرة حتى تبحر كل السيرانات في اتجاه البحر الأبيض المتوسط الفسيح، وأرسل جنوده خلفهنّ للتقصي. لكنّ السيرانات تمعّنّ في إغوائهم، فعلقوا في مصيدة اللذة التي لا تنتهي. إنّه فناء آخر غير معهود في عالم الآلهة الإغريقي. وعاد الجنود إلى مَلِكهم ليحدثوه عن تلك النشوة التي لم يعهدوها من قبل وطالبوه بالمكوث في البحيرة إلى الأبد.

تفطن "أوليس" إلى أمر المغويات وأسلوبهن في الإغراء، فقرر الخروج من البحيرة في ليلة بعينها تنام فيها السيرانات في حضن "بوسيدون" في حوض آخر ليس بعيدًا عن البحيرة ذات الباب الواحد. تبعهم بذكاء إلى المنفذ وتسلل إلى خارج البحيرة البحرية وتوجه إلى جزيرة "جربة" التي قضى بها سنوات طويلة تعلّم خلالها "فنّ النسيان" بعد الإدمان على أكل ثمرة "اللوتس" التي تملأ  كامل الجزيرة وهي تشبه تمر النخيل قبل أن تتحول إلى زهرة أسطورية فيما بعد. لقد كانت جزيرة "جربة" هي من علّمت البشرية "النسيان"، فالإنسان قبل ذلك كان لا ينسى أبدًا، كان مشغولًا بكل شيء، أمّا بعد أن  سرى النسيان في الأنفس والأرواح أصبحت  الفلسفات القديمة تقدّمه بأنه "أمّ الفضائل". 

 

صورة
"أوليس" وجنوده لدى مغادرة البحيرة المغلقة بعد أن عثر على خطة تنجيه من سحر السيرانات (Getty)

 

تلك البحيرة التي كانت متاهة  للبطل "أوليس" وسريرًا وثيرًا لـ"بوسيدون" هي بحيرة "البيبان" التونسية، تلك الشامة البحرية المنسية على سواحل الجنوب التونسي بين مدينتي جرجيس وبن قردان من ولاية مدنين.

بحيرة "البيبان" تبدو منفصلة عن البحر لكنّها متصلة تمامًا ومنفذها الوحيد للبحر هو عبر قنوات لا يتجاوز عرضها 800 متر ويوجد داخل حوضها أرخبيل من جزر صغيرة يصل عددها إلى ثمانية

بالوقوف على تخومها، ترى التاريخ يتقافز من لغة الموج المتتابع على أديمها الفسيح ومن غروبها المهيب الجميل الفريد. تبلغ مساحتها حوالي 27 ألف هكتارًا أمّا عمقها فلا يتجاوز 4 أمتار، وتعدّ أكبر بحيرة في البحر الأبيض المتوسط، وقد صنفتها معاهدة رامسار ضمن المناطق الرطبة.

بحيرة "البيبان" تبدو منفصلة عن البحر، لكنّها في نفس الوقت متصلة تمامًا كقصيدة شعر تحتمل كل معاني التأويل. منفذها الوحيد للبحر هو عبر قنوات لا يتجاوز عرضها 800 متر، ويوجد داخل حوضها أرخبيل من جزر صغيرة يصل عددها إلى ثمانية بعضها مستغلٌّ سياحيًا.  

 

صورة
صورة فوقية لبحيرة البيبان (ويكيبيديا)

 

وتعتبر بحيرة "البيبان" محمية طبيعية لعديد الأسماك وبعض الأنواع من السلاحف البحرية النادرة، كما تهاجر إلى شواطئها وسباخها، على غرار سبختي بوجمل والمداينية، طيور عديدة كالبلشون والنّحام الوردي والكركي وطير الغاق والحمام والنوارس.

تعتبر بحيرة "البيبان" محمية طبيعية لعديد الأسماك وبعض الأنواع من السلاحف البحرية النادرة، كما تهاجر إلى شواطئها طيور عديدة كالبلشون والنّحام الوردي والكركي وطير الغاق والحمام والنوارس

التاريخ الحديث للبحيرة يروي أنه قبيل الاستعمار الفرنسي لتونس كانت مستغلة من قبل البحارة المحليين الذين كانوا يروجون لفلاحتهم بالمدن المجاورة حيث تصل الأسماك إلى العمق الليبي مثل مدن زوارة وطرابلس. 

وفي سنة 1886 قامت إدارة الاستعمار الفرنسي بإيقاف الصيد ببحيرة البيبان  وحجزت كل أدوات الصيادين من أبناء الأرض ومن ثمّة تأجيرها إلى مستثمرين فرنسيين فتحول البحارة التونسيون إلى مستأجرين لدى الشركة الفرنسية المستغلة لمنتوج البحيرة وتواصل الأمر إلى حدود سنة 1924 حيث قرر باي تونس في ذلك الوقت "محمد الناصر باي" تأجيرها إلى شركة تونسية والتي استغلتها لمدة محدودة ثم سرعان ما تم تسويغها مجددًا تحت ضغط أوروبي لشركة إيطالية.

وفي الفترة الممتدة بين سنتي 1945 و1958 عادت البحيرة مجددًا إلى تونس تحت إشراف الديوان القومي للصيد البحري وهو ما يعني تونستها نهائيًا. وقد تم استغلال ثروتها البحرية طيلة تلك الفترة وما بعدها لصالح التونسيين.

 

صورة
بعد سيطرة الاستعمار الفرنسي عليها عاد استغلال الثروة البحرية لبحيرة البيبان لصالح التونسيين منذ 1945 (صورة تعبيرية/ فتحي الناصري/ أ.ف.ب)

 

أما اليوم فإننا نرى بحيرة "البيبان"، هذا المكان النادر المشبع بالتاريخ والأساطير وبالثروة البحرية، مهملة وغير مستغلة بالشكل الكافي، فلا نجد فضاء للأنشطة الثقافية والتراثية يقدم تاريخ البحيرة ولا نجد فضاء للأنشطة البيئية تبرز أهميتها وتفردها البيئي. ولا نجد أنشطة سياحية تليق بالمكان وندرته. 

نرى اليوم بحيرة "البيبان" المشبعة بالتاريخ والأساطير وبالثروة البحرية مهملة وغير مستغلة بالشكل الكافي بل إنه يقع تلويثها بمياه الصرف الصحي الخاصة بوحدة سياحية وهو ما أضرّ بالغطاء النباتي والثروة السمكية للبحيرة

وحتى المستثمر التونسي الحالي للبحيرة، حسب نشطاء بيئيين بجرجيس وجربة،  فهو لا يراعي القوانين الجاري بها العمل بل يمعن في الصيد الجائر باستعمال مراكب ذات محركات ملوثة للبحر، كما يلقي بمياه الصرف الصحي الخاصة بالوحدة السياحية التي أحدثها في السنوات الأخيرة في جوف البحيرة، وهو ما أضر بالغطاء النباتي البحري وأدى لتراجع المُنتَجات الفلاحية وجعل العديد من أنواع الأسماك تهجر مبيضها بالبحيرة. 

بحيرة "البيبان أو "سيدة بحيرات المتوسط" هي ثروة طبيعية ورمزية تونسية جذابة يستطيع زخمها التاريخي والأسطوري وجمالها المتنوع والباهر أن يدعم التنمية في كل أبعادها وتجلياتها في مناطق عديدة بالجنوب الشرقي التونسي، فقط لو نالت التفاتة جادة من قبل الدولة.