30-نوفمبر-2022
أراضي اشتراكية

واقع الأراضي الدولية الاشتراكية والإشكاليات العقارية القائمة عبر نموذج ولاية سوسة (ماهر جعيدان/ الأناضول)

 

طفت مسألة الرصيد العقاري للدولة التونسية من جديد على الساحة السياسية والاقتصادية، كما أثيرت مسألة التصرف في أملاك الدولة وطريقة استغلالها في التنمية الوطنية والجهوية والمحلية حسب خصوصية كل منطقة، بعد أن تداولت على تونس حكومات متعاقبة منذ الاستقلال تم فيها طرح سياسات اقتصادية مختلفة باء أغلبها بالفشل وطغى عليها طابع "الغنيمة"، غنيمة الدولة بكافة هياكلها وغنيمة المستغلين الخواص سواء كأفراد أو جماعات.

أثار بعث "الشركات الأهلية"، موجة من الجدل، خاصة مع دعوة قيس سعيّد إلى استغلال أملاك الدولة

وقد أثار بعث "الشركات الأهلية" كما جاء بها المرسوم عدد 15 لسنة 2022، موجة جديدة من الجدل، واقتران ذلك مع دعوة قيس سعيّد إلى استغلال أملاك الدولة، خلال استقباله لوزير أملاك الدولة والشؤون العقارية محمد الرقيق في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، من خلال "تنقيح ما يجب تنقيحه من نصوص حتى لا يقع إهمال هذه الأملاك وحتى يستفيد منها أبناء الشعب التونسي وخاصة في إطار الشركات الأهلية" كما جاء في بلاغ رئاسة الجمهورية.

 كما لفت الرئيس التونسي، إلى أن "المرسوم المتعلق بهذا الصنف الجديد من الشركات أخذ بعين الاعتبار النصوص القائمة، وإذا كان هناك نصّ قديم يتعارض مع نص آخر، فالنصّ الجديد يجب أن يطبق، وإذا كانت هناك حاجة إلى تعديل فالواجب يقتضي المراجعة والتنقيح" وفقه.

وفي تصريح إعلامي لوزير أملاك الدولة والشؤون العقارية محمد الرقيق، نفى الاثنين 30 أكتوبر/تشرين الأول، تصريح أمين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبوبي بشأن منح أراض دولية عن طريق المحاباة "للسماسرة والتنسيقيات"، قائلًا إن "عمليات إسناد الأراضي تكون عن طريق البتة العمومية وفق مبدأ المنافسة والمساواة"، وفقه.

وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية: عمليات إسناد أراضي الدولة تكون عن طريق البتة العمومية وفق مبدأ المنافسة والمساواة، لا عن طريق المحاباة "للسماسرة والتنسيقيات"

وكشف وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية محمد الرقيق عن "تلقي الوزارة مطالب من قبل مواطنين لاستغلال الأراضي الدولية في الشركات الأهلية، مشيرًا إلى أنه سيتم النظر في هذه المطالب على أساس مبدأ المنافسة والمساواة".

وبين مؤيد ومعارض لهذا المنوال التنموي، برزت خلافات جوهرية حول الغطاء الذي تمكّن به الدولة الخواص من استغلال الرصيد العقاري لها، حيث اعتبر البعض ومن بينهم ناجي جلول في تصريحه لإذاعة "شمس أف أم" (محلية)، أن "الشركات الأهلية هي طريقة لخلق زبائن جدد للسلطة"، واستدل جلول على ذلك بالسلاطين الحفصيين "الذين كانوا يقدمون أراض وعقارات للمخازنية، وبالتالي فإن الشركات الأهلية "تهدف لتكوين أنصار ومخازنية جدد عن طريق أملاك الدولة"، مشددًا على أن أملاك الدولة هي ملك للشعب التونسي، مطالبًا بضرورة استفتاء الشعب التونسي حول مسألة الشركات الأهلية، حسب تعبيره.

وقد صرح الوزير السابق المهدي المبروك، من جانبه، في لقاء صحفي مع العربي الجديد بأن "حضور الدولة في مثل هذه المبادرات، وحرصها على توظيف هذه الشركات الأهلية، إنما هو من أجل إحكام الزبونية السياسية، وستشكّل هذه الشركات إحدى أذرع البناء القاعدي الذي ينادي به الرئيس سعيّد".

عامر الصيادي (محام) لـ"الترا تونس": 20% من أرباح الشركات الأهلية يقع صرفها في التنمية المحلية، و65% يستغل معظمها في تطوير الشركة، وتقسم فقط 35% على المساهمين

المحامي عامر الصيادي في تصريح خص به "الترا تونس"، حاول تقديم مشروع الشركات الأهلية، فاعتبرها "شركات تهدف بالأساس إلى التنمية المحلية والجهوية وأنّ المساهمين فيها لا يتمتعون بجميع الأرباح، بل إن نسبة 15% من الأرباح تطرح بعنوان مدخرات من رأس المال، و20% من الأرباح يقع صرفها في التنمية المحلية، و65% الباقية لا يقع توزيعها وإنما يستغل معظمها في تطوير الشركة، وتقسم فقط 35% على المساهمين، كما أن المساهم الواحد لا يتمكن إلا من سهم واحد حسب المرسوم".

ويقول الصيادي إن "من بين أهداف الشركة الاهتمام بالمسألة الثقافية وتخصيص مبالغ مالية لذلك على غرار الشركات الوطنية مثل الوكالة الوطنية للتبغ التي تخصص منحًا وميزانية للتنمية الثقافية"، مبيّنًا أن المساهمين في الشركة والذين لا يقل عددهم عن الخمسين، يشترط أن يكونوا ناشطين داخلها وليس مجرد مساهمين فقط".

عامر الصيادي (محام) لـ"الترا تونس": لا وجود لاقتصاد دون دعم سياسي، والشركات الأهلية تخضع لإشراف السلطة المحلية وتعرض أعمالها وقوائم حساباتها على والي الجهة

كما شدد عامر الصيادي على أن "الشركات الأهلية لا تتضارب مع الاقتصاد التضامني، بل هي اللبنة الأولى في بناء الاقتصاد التضامني، كما حدد القانون رأس مال الشركة بـ10 آلاف دينار، والمنقولات تبقى على ملك الشركة وليست ملكًا للأشخاص، وهي نوع جديد يشبه الشركات خفية الاسم، ولها مجلس إدارة وجلسة عامة تأسيسية وجلسة خارقة للعادة، ويعتبر مجلس الإدارة السلطة التنفيذية في الشركة" وفقه.

ويقر الصيادي بالدعم السياسي لمشروع الشركات الأهلية قائلًا: "لا وجود لاقتصاد دون دعم سياسي، بل نحن في إطار منوال اقتصادي جديد، الشركات الأهلية لن تحل محل الشركات التجارية والمدنية، هي تكملة للاقتصاد التونسي، وجاء هذا النوع من الشركات ليعطي أكثر فرصة للعاطلين عن العمل لتكوين شركات وتوفير مصدر رزق والحد من الهجرة غير النظامية ومردّه أن الموظفين ممنوعين من المساهمة في الشركات".

وأشار الصيادي إلى أن "الشركات الأهلية تخضع لإشراف السلطة المحلية وتعرض أعمالها وقوائم حساباتها على والي الجهة".

 

 

من اللافت في مرسوم الشركات الأهلية تضمينه تمكين هذه الشركات من التصرف في الأراضي الاشتراكية بالتوازي مع توسع صلاحيات الوالي خلال إشرافه على الشركات الأهلية المحلية، إذ تُعرض عليه وجوبًا الميزانيات التقديرية، القائمات المالية النهائية، وتقارير مراقبة الحسابات.

ولمزيد التعرف على واقع الأراضي الدولية الاشتراكية والإشكاليات العقارية القائمة، حاولنا الاطلاع على نموذج ولاية سوسة التي تتميز بشساعة الأراضي الدولية وتفاقم إشكالياتها منذ الاستقلال إلى اليوم وخاصة تلك التي تنضوي تحت ما يطلق عليه بـ"هنشير النفيضة" موضوع الرسم العقاري 6648، والسؤال المطروح هو: كيف يمكن أن توازن السلطة السياسية بين تسوية الوضعيات العقارية القائمة وإعادة توزيع الثروة العقارية على شركات أهلية ناشئة في ظل قوانين وتشريعات قائمة؟ وكيف يتم التصرف على مستوى وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية في الأملاك العائدة إليها؟ وما هي مآلات الاستغلال السكني أو الفلاحي أو الصناعي؟

 

 

في ولاية سوسة، تم وضع 4040 هكتارًا من الرصيد العقاري الدولي على ذمة مختلف المصالح والهياكل العمومية بالجهة، من بينها 2300 هك تم تخصيصها لفائدة مشروع النفيضة الدولي و1072 هك بصدد تخصيصها لمشروع المنطقة اللوجستية، و343 هك لمشروع ميناء المياه العميقة بالنفيضة، و22 هك من الأراضي خصصت لفائدة البرنامج الخصوصي للسكن الاجتماعي بالنفيضة، و26 هك بصدد التفويت لبلدية النفيضة، و8 هك شيدت فوقها 290 مسكنًا وهي بصدد تسليمها للمنتفعين، كما تم حصر 845 هك مقامًا عليها 21 تجمعًا سكانيًا، تم التفويت فيها لفائدة المجلس الجهوي لولاية سوسة لتسوية وضعية المتساكنين، وذلك وفق ما أدلى به المدير الجهوي لأملاك الدولة والشؤون العقارية خلال مجلس جهوي للتنمية بسوسة تحت إشراف الوزير محمد الرقيق.

ويذكر أن 389 هكتارًا أحدثت عليها تجمعات سكنية من قبل السلط المحلية والجهوية تم الشروع في النظر في تسوية أوضاعها العقارية في إطار الأمر الحكومي عدد 504 لسنة 2018.

هناك صعوبات في تسوية وضعية الأملاك العقارية سواء ذات الاستغلال السكني أو الصناعي أو الفلاحي والتي تم إسنادها سابقًا بموجب قوانين وأوامر حكومية

وقد خصصت 409 هكتارات للاستثمار في القطاع الصناعي الراجع بالنظر لهياكل عمومية مثل الوكالة العقارية الصناعية والقطب التنموي بسوسة والمجلس الجهوي لولاية سوسة وإسمنت قرطاج والشركة العالمية لإنتاج الورق حسب التقرير نفسه الذي عرضه المدير الجهوي لأملاك الدولة والشؤون العقارية بسوسة.

وتم إحصاء 1891 هكتارًا اقتُرح إعادة توظيفها عن طريق الكراء لفائدة المعطلين عن العمل من أصحاب الشهائد العليا وغيرهم في إطار منشور بتاريخ 16 جويلية/ يوليو 2018 لا تزال قيد الدرس.

ووفق التقرير نفسه، الذي قدمته الإدارة الجهوية لأملاك الدولة والشؤون العقارية، تم تسويغ 2768 هكتارًا لفائدة الخواص، بعضها في إطار الهيكلة (شركة إحياء وتنمية فلاحية و10 فلاحين شبان وعملة قدامى) والبقية مسوغة عبر المراكنة وبالإشهار والمزاد العلني.

كما أحصت وزارة أملاك الدولة 9406 هكتارات موزعة على 8 ضيعات بولاية سوسة، تم وضعها على ذمة ديوان الأراضي الدولية ومؤسسات عمومية وشبه عمومية مختلفة وذلك لتمكينها من إنجاز استثمارات ومشاريع مختلفة.

سيطرح التدخل السياسي المباشر في تسيير الشركات الأهلية أكثر من سؤال في حوكمة هذه المشاريع ومدى استقلاليتها

أما فيما يتعلق بإجراءات تسوية الأراضي الدولية الفلاحية التابعة للرسم العقاري 6648 والملقب بهنشير النفيضة، فإن المساحة المعنية بالتسوية تقدر بـ13000 هكتارًا تم ورود 752 مطلبًا للتسوية بينها 225 مطلبًا غير قابل للتسوية و117 مطلبًا بها مخالفات لأحكام فصل قانوني. و38 مطلبًا غير معنية بالتسوية لعدم توفر ما يفيد إسنادها سابقًا و18 مطلبًا تعلقت بها نزاعات وخلافات بين المستحقين ومطالب أخرى تعلقت بها إشكالات قانونية مختلفة.

إن هذه العينة من التصرف في الأملاك العقارية الدولية تحيل إلى الصعوبات الواقعة في تسوية وضعية الأملاك العقارية سواء ذات الاستغلال السكني أو الصناعي أو الفلاحي والتي تم إسنادها سابقًا بموجب قوانين وأوامر حكومية سابقة، مما سيشكل عائقًا أمام أي مبادرة سياسية أو اقتصادية لاستغلال تلك الأراضي الاشتراكية بموجب قوانين جديدة على غرار الشركات الأهلية المحدثة مؤخرًا. كما سيطرح التدخل السياسي المباشر في تسيير الشركات الأهلية أكثر من سؤال في حوكمة هذه المشاريع ومدى استقلاليتها.