اهتمّت وسائل إعلام تونسية وعربية مؤخرًا بقرار قضائي صادر عن إحدى المحاكم التونسية وُصف بأنه سابقة تاريخية في القضاء العربي، ويتعلّق القرار بإلزام مطلّقة بدفع نفقة لابنيها القصّر الموجودين في حضانة الأب. غير أن معظم وسائل الإعلام تناولت القرار السّابقة، الذي يأتي في سياق تنامي الحديث حول المساواة بين الجنسين في تونس، بطريقة غير دقيقة ومجتزأة.
أثار قرار قضائي يقر بإلزام مطلّقة بدفع نفقة لابنيها القصر الموجودين في حضانة الأب جدلًا واسعًا في تونس
تحدثت التقارير الإخبارية في عناوينها كذلك عن إلزام المطلقة بدفع "نفقة للأب" وهو أمر مجانب للصحة، حيث يقتصر الأمر على النفقة تجاه الأبناء فقط، ولا يوجد أي أساس شرعي أو قانوني لهذا الصنف من النفقة. وأما الجانب المكمل للصورة فهو أن محكمة التعقيب، أعلى محاكم البلاد، نقضت القرار القضائي الذي فتح، في كل الأحوال، باب النقاش حول مسألة النفقة من جهة أنها التزام على الزوجة وهو أمر مستحدث وأثار جدلًا واسعًا.
هل يلزم القانون التونسي الزوجة بالإنفاق؟
في البداية، لا يلزم القانون التونسي إلا الزّوج بالنفقة على زوجته وأبنائه وذلك بما أنه "رئيس للعائلة". غير أن القانون التونسي سنة 1993 وبموازاة حذفه لواجب الطاعة المحمول على الزوجة وفي سعيه لتكريس المساواة بين الزوجين، على المستوى الحقوق وكذلك الواجبات، أقرّ بأنّه على الزوجة أن تساهم في الإنفاق على الأسرة إن كان لها مال. يذكر أن مجلة الأحوال الشخصية في تونس أكدت أن الأمّ مقدّمة على الجدّ في الإنفاق على الولد في حالة عسر الأب.
وتفيض جملة هذه الأحكام بأن مساهمة الزوجة في الإنفاق على الأسرة لا تُسقط على الزوج واجب الإنفاق المحمول عليه أصالة، فالزوجة المطلوب منها مجرّد المساهمة فقط، وهي مساهمة مشروطة بأن يكون لها مال. وفي الواقع، يمكن القول إن المحاكم التونسية لم تعرف زوجًا يدّعي ضد زوجته ليطالبها بمساعدته في الإنفاق على الأسرة، ذلك أن الزوج يعلم أنه المطالب بصفة أساسية بالنفقة على زوجته وأبنائه.
لكن دائمًا ما تساهم الزوجة التونسية، على غرار عديد الزوجات العاملات في البلاد العربية، في الإنفاق على الأسرة، بل أحياناً تنفق أكثر مما ينفق الزوج، حيث تساعد في مسائل عدة بعيداً عن أعين القضاء في مسائل يحكمها منطق التعاون والمودة بين الزوجين أكثر من منطق الإلزام القانوني.
لذلك مثل القرار القضائي الأخير سابقة ليس فقط لأنه طالب الزوجة بالإنفاق على أبنائها، بل كذلك لأن المدّعي هو طليق الزوجة، والأبناء المطلوب النفقة عليهم هم في حضانته. فهل تعتبر الأسرة موجودة بعد الطلاق لتصحّ مطالبة الطليقة؟ وهل يعتبر مجرّد حصول المرأة على راتب محققاً لشرط "حصولها على مال"، كما يورد القانون؟ يبدو أن المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة أجابت بالإيجاب في قرارها الذي استأثر بالأضواء.
لا يلزم القانون التونسي إلا الزوج بالنفقة إلا أنه في إطار سعيه تكريس المساواة أقر أن تساهم الزوجة في الإنفاق إذا توفرت على مال
على ماذا استند قرار "السابقة القضائية"؟
عادت المحكمة في تأسيس حكمها إلى الإشارة بأن إقرار مساهمة الزوجة ضارب في الفقه الإسلامي حيث ذكرت أن بعض المذاهب الفقهية أوجبت على الأم المساهمة في الإنفاق على العائلة بغض النظر على الوضعية المادية للأب على غرار المعتزلة. وذكرت أن إقرار هذه المساهمة يأتي في إطار "قراءة معاصرة وحديثة لواقع الأسرة التونسية القائمة على التشاركية وعلى خروج المرأة لسوق الشغل". وظل السؤال حول إذا ما كانت المرأة تملك مالاً في قضية الحال.
يبدو من أوراق القضية أن للمرأة أجرًا ثابتًا شهريًا، واعتبرت المحكمة أن ذلك كفيل بإلزامها بالنفقة على أبنائها القصّر بغض النظر عن الحالة المادية للزوج. غير أنه قبل قضاء المحكمة بقرارها، كان عليها أن تجيب على سؤال مفصلي وهو، هل تعتبر الأسرة قائمة بعد الطلاق أم لا؟ ففي صورة الإجابة بالنفي، لا يمكن مطالبة الزوجة "بالمساهمة في الإنفاق على الأسرة". غير أن المحكمة أجابت بالإيجاب وذلك بالعودة للقاموس اللغوي للفظ "أسرة" بالعودة للسان العرب لابن منظور، وكذلك لتعريف عالم الاجتماع موريس بورو بـ"أن الأسرة تقوم بولادة طفل"، وعليه تبقى الأسرة قائمة ولو في حالة انفصال الزوجين.
لكن تحليل المحكمة، حسب الكثيرين، يظلّ يعوزه الإسناد لأن المادة القانونية التي تحدثت عن مساهمة الزوجة في الإنفاق وردت في الباب المخصّص للعلاقات القائمة بين الزوجين، ولا يوجد مثيلها في الباب المخصّص لأحكام النفقة عدا أن الأم مقدّمة على الجدّ في النفقة، هذا بخلاف ضرورة الأخذ بعين الاعتبار لاستعمال المشرع تارة مصطلح زوجة وتارة مصطلح أمّ، بحيث لا يمكن الحديث عن زوجة إلا حال قيام العلاقة الزوجية فقط.
وعمومًا إذا ما انتهت المحكمة إلى ما انتهت من حيث إلزام المطلقة بدفع نفقة شهرية لابنيها القصّر، فإن محكمة التعقيب نقضت الحكم الذي أثار في نهاية المطاف الجانب المخفي في المساواة بين الجنسين من جانب آخر، وهو جانب الواجبات المحمولة على المرأة، وليس حقوقها فقط، ذلك أن مقتضى المساواة هو عدم التمييز بين الرجل والمرأة في الحقوق وكذلك في الواجبات. وليظلّ بذلك الجدل قائمًا تونسيًا خاصة على ضوء دعوة رئيس الجمهورية للمساواة في الميراث، وكذلك عربيًا مع ازدياد المطالبات الحقوقية للمساواة بين الجنسين.