كان الصّديق عبد الحليم المسعودي (كاتب وجامعي تونسي) قد أصدر كتابه الأخير حول المسرح التونسي بعنوان "المسرح التونسي، مسارات حداثة" الصّادر عن الهيئة العربية للمسرح، عندما كنت قرب نقابة الصحفيين أتابع تطوّرات يوم الغضب الذي أعلن عنه الصّحفيون على خلفية تصريح غير صائب لوزير الداخلية. في ذات اليوم، اتّصل بي عبد الحليم لنلتقي في منزله. أخذت نسخًا من بعض كتبه الأخرى، وفي الأثناء وحينما كان يبسط لي البعض من تاريخ المسرح في تونس، عرّج بكلامه عن رحلة الباي أحمد باشا باي إلى باريس، والتعليقات التي كتبها أحمد بن أبي الضياف، السياسي والمؤرخ والإصلاحي التونسي الشهير، حول تلك الرحلة، وبالأساس تلك الأحدوثة الصغيرة التي دارت بين الباي وابن أبي الضياف عندما كانا يتجوّلان بين المسارح والمتاحف في عاصمة الأنوار باريس.
علقت تلك الإشارة في ذهني، بالرّغم من أنّها كانت تفصيلًا عرّج عليه صديقي الباحث في الجماليات، فقرّرت أن أزيد في التعمّق فيها وفي ظروف تلك الرحلة، ولا أعرف سبب اندفاعي إلى ذلك رغم كثرة انشغالاتي. ربّما هو موقف شخصي من البايات ومن تلك الفترة التي مهّدت لقدوم الاستعمار الفرنسي وحوّلت تونس إلى "مبولة" تغطّيها الأوساخ وجثث الجياع والمرضى، بينما كان الباي يختار خروف الغداء في باردو مع القنصل الفرنسي.
أحمد باشا باي
اقرأ/ي أيضًا: شيخ مدينة تونس.. تنافس حاد وحظوة تاريخية
نخبة تونس المندهشة
سبق أن قرأ أحمد بن أبي الضياف صاحب كتاب "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" وهو كتاب معروف لدى الجميع، لخير الدين التونسي وخاصّة ما كتبه في "أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك" وتمعّن جيّدًا في كيفية وصف خير الدين لمؤسّسات الغرب وكيفية عيشهم وتنظمهم السياسي وتطوّرهم. ولم تكن طريقة التواصل بين ابن أبي الضياف وخير الدين عبر الكتب فقط، بل بالمجالسة والمُسامعة. ويقول بن أبي الضياف في الجزء الأول من كتابه المذكور "سمعت من صاحبنا الوزير الذكي الفاضل أبي محمد خير الدين ـوقد طال مقامه في باريزـ لخدمة ملكية قال: فاوضت بعض أعيانها -وقد طفق يثني على سلطانهم في هذا العصر وهو نابليون الثالث ـ حتى قال: إنه من أفراد الملوك المقيدين بطباعهم وعقولهم عن غير المصلحة.. وبالقانون الذي هو من حسن الأخلاق، أخلاق ملوكهم المطبوعين على العدل وحب الوطن".
من بين ما تأثر به ابن أبي الضياف عن خير الدين باشا هو الإعجاب بالغرب أو "الأفرنج" حسب قوله
لم يخف صاحب الإتحاف إعجابه بخير الدين التونسي، وبأفكاره، وبعلمه وألمعيته وعمله، فقد ذكره في أكثر من موضع واستشهد به في حوادث عدة وحكم رأيه في قضايا عديدة. ومن بين ما تأثر به ابن أبي الضياف عن خير الدين باشا هو الإعجاب بالغرب أو "الأفرنج" حسب قوله. وقد لا يخلو هذا الإعجاب من لوم مبطن لآليات الحكم الإسلامية التي كان يشتغل بها بن أبي الضياف نظرًا لكونه موظفًا لدى الباي، فقد أشار إلى ذلك ضمنيًا بقوله في فقرة عن قانون الملك الإسلامي "لا أضرّ بالعمران... من تقديم الأمر التحسيني على الواجب الضروري"، وكان يرمز إلى الإجراءات السطحية التي كان يقوم بها الباي من تشريع قوانين ربما تحدّ من سلطاته في الظاهر لكنها دون نتائج عملية.
ولدعم وجهة نظره، أطنب أحمد بن أبي الضياف في الجزء الأول من "إتحافه" في الحديث عن إنجازات الغرب في العمران وفي القوانين وإنشاء العدل وبسط الأمن لخدمة الإنسان. ويقول "وانظر إلى حال الإفرنج الذين بلغ العمران في بلدانهم إلى غاية يكاد السامع أن لا يصدق بها إلا بعد المشاهدة، كيف تدرجوا في أسبابه تدرجًا معقولًا، فإنهم أسّسوا قوانين العدل حتى استقرّ الأمن وذاقوا لذته وتفيؤوا ظلاله، فأقبلوا على شؤونهم واشتغلوا بما يوسع دائرة عيشهم وثروتهم، فقوي الأمل واستقام العمل". ووصل الأمر بابن أبي الضياف في وصف التلغراف إلى القول إنه: "من أعاجيب الدنيا" وأضاف "إنه مظهر آثار العقول الصافية الناشئة في مهد الأمن المغذاة بلبان الحرية، حتى أن الانجليز جعلوه في البحر الكبير فانقطع فأعادوه، فانقطع فأعادوه، وذلك من مال أغنيائهم لا من مال دولتهم".
وقد يطول حديث ابن أبي الضياف عن حال الأوروبيين وكيف أنهم استطاعوا تجاوزنا، نحن، بأميال زمنية، ولا يمكن أن يملّ حديثه عن واقع الغرب المتطور لأن كلامه عبارة عن خليط من دهشة طفل بريء يتساءل وحماسة مصلح يتفاءل، كأنه صبيّ شغوف بامرأة. وقد لخص الكاتب حال تونس في خضم هذا التطوّر الحضاري في الضفة الأخرى قائلًا: "فانظر إلى التلغراف بهذه الحاضرة التونسية، فإن دخله ربما لا يفي بأجر من فيه من عملة. وأنظر لمثله في أوروبا، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه".
[[{"fid":"98680","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"أحمد بن أبي الضياف","field_file_image_title_text[und][0][value]":"أحمد بن أبي الضياف"},"type":"media","field_deltas":{"4":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"أحمد بن أبي الضياف","field_file_image_title_text[und][0][value]":"أحمد بن أبي الضياف"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"أحمد بن أبي الضياف","title":"أحمد بن أبي الضياف","height":685,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"4"}}]]
أحمد ابن أبي الضياف
نكبة الباي.. نكتة
"ولما كان يوم الثلاثاء 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1846، أتى لوداعه أهل المجلس الشرعي"، بهذه الجملة استهلّ أحمد بن أبي الضياف أحد أهم أجزاء تاريخ البايات في تونس، وهي رحلة الباي أحمد باشا باي إلى طولون ومنها إلى باريس. في هذه الرحلة بالذات دار حوار قصير بين الباي وأحمد بن أبي الضياف، يمكن أن يختزل من خلاله القارئ كل الأزمة الحضارية التي تصيبنا منذ أن قتل ابن رشد إلى حدّ هذه اللحظة.
طبعًا ركب الباي "الفلوكة" والتي أسماها "الدنت، Le Dante" والتي كان قد أهداها الأمير فيليب للباي في وقت سابق. ركبها بعد أن قضى ليلتين في ميناء حلق الواد "ليرى حال البلاد بعد سفره". وقد رافق الباي في تلك الرحلة حسب ما ذكره ابن أبي الضياف كل من الوزير مصطفي خزندار، ووزير الحرب مصطفى باش آغة، والقبطان حسونة المورالي، والوزير جوزاب راف، ومحمد المرابط أمير لواء عسكر المحمدية، وصالح بن عثمان شيبوب أمير لواء العسة، وخير الدين أمير آلاي مباشر صرف الدراهم، وحسونة متالي قائم مقام وأحمد بن أبي الضياف الكاتب الخاصّ للباي.
اقرأ/ي أيضًا: الحكواتي في تونس.. فن منسي يتجدد
استمرت رحلة الباي مع جمعه حوالي ثلاثة أيام، وصل بعدها إلى مرسى طولون بالجنوب الفرنسي وقد كان في استقباله الأميرال بودان Baudin الذي قال له "إن فرنسا في انتظارك". ولم يفوّت "الفرانسيس" فرصة وجود الباي في فرنسا كي يطلعوه على قوة فرنسا وجبروتها، فما كان من الأميرال الذي استقبله، سوى أن عرّفه على كل القيادات العسكرية المرابطة في الحصن الجنوبي لفرنسا. ويقول ابن أبي الضياف عن محطة طولون "وبات تلك الليلة في دار الأميرال وأبدع ما شاء في الاحتفال والإكرام. ومن الغد أتاه جميع من في طولون من العسكر، ومرّوا بين يديه ورأى نظافتهم وسلاحهم وحسن ترتيبهم".
ولم يفوّت "الفرانسيس" فرصة وجود باي تونس في فرنسا كي يطلعوه على قوة فرنسا وجبروتها
توجه الباي بعد ذلك من طولون إلى باريس راكبًا "الكروسة" التي تجرها خيول ستة، ويتم تغييرها كل ساعتين. وفي الطريق، شاهد الباي وحاشيته أعاجيب الغرب من نظام ونظافة وحسن بناء وتخطيط وتسيير للطرقات وخاصة الأمان. فأغلب ظنّ ابن أبي الضياف كان منصبَّا على مقارنة الحال في فرنسا بالحال في تونس. فلو قطع الباي المسافة نفسها من شمال تونس إلى جنوبها فلن يصل إلى نقطة الوصول لأنه لا يأمن رعيته، أمّا في فرنسا فيمكن له، في ذلك العصر، أن ينزل أينما شاء، ويأكل ويبيت عند من شاء.
وصل أحمد باشا باي وكاتبه ووزراؤه إلى باريس أخيرًا. شاهد فيها أعاجيب الدنيا كما يقول أحمد بن أبي الضياف. وقد زار قصور الأمراء وكبار رجال الدولة والعسكريين كما زار قصر الإليزيه واندهش من شدة جماله ونظامه وترتيبه وبنائه. ومكث الباي زهاء العشرة أيام، تنزه فيها أنحاء باريس قاطبة وزار ضواحيها وخاطب أهلها. كما لم يفت "الفرانسيس" أن يقدموا للباي وحاشيته فرصة التعرّف إلى المسرح وفنون الدراما، التي تعتبر إحدى أعمدة فلسفة الأنوار، فقد كان المسرح بوابة للحديث إلى الناس وتثويرهم وإنارة عقولهم والدفع بهم نحو الحضارة والثقافة والتهذيب والفن.
[[{"fid":"98679","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"قصر الايليزيه في باريس سنة 1880(روجي فيولي/getty)","field_file_image_title_text[und][0][value]":"قصر الايليزيه في باريس سنة 1880(روجي فيولي/getty)"},"type":"media","field_deltas":{"5":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"قصر الايليزيه في باريس سنة 1880(روجي فيولي/getty)","field_file_image_title_text[und][0][value]":"قصر الايليزيه في باريس سنة 1880(روجي فيولي/getty)"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"قصر الايليزيه في باريس سنة 1880(روجي فيولي/getty)","title":"قصر الايليزيه في باريس سنة 1880(روجي فيولي/getty)","height":355,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"5"}}]]
قصر الايليزيه في باريس سنة 1880(روجي فيولي/getty)
يشير بن أبي الضياف في هذا الجزء إلى سلوك الباي عند تنزهه فيقول "ولم تزل مدة إقامته في باريس يتنقل كل يوم من نزهة إلى نزهة، وهو مع ذلك يتذكر تونس وعادات أهلها"، وكأنّ ابن أبي الضياف يستغرب سلوك هذا الباي المحبّ لـ"لتخلف". وأكمل بن أبي الضياف ناقلًا حواره مع الباي: "كلما مررنا بكل عجيب يقول الباي ليت مثل هذا عندنا بالمحل الفلاني بتونس. حتى أنه مرّ يومًا بالشارع المعروف بالشان زلّيزيه ومعناه ممشى الجنة، فقلت له "كاد أن يوافق الاسم المسمّى"، فقال لي: "ما أشوقني للدخول من باب عليوة، وأشتم رائحة الزيت من حانوت الفطايري داخله". فقلت له مداعبًا وأنا أتنفس في هواء الحرية وأرد من مائها وقدماي بأرضها "يحق لك ذلك، لأنك إن دخلت من هذا الباب تفعل ما تشاء، أما الآن فأنت رجل من الناس". فقال لي "لا سامحك الله، لم لا تحملني على حب الوطن لذاته وعلى أي حالاته؟" فقلت له "إن هذا البلد ينسيني الوطن والأهل".
في الصحافة لا يمكننا إقفال موضوع بتصريح، ولولا أورثوذوكسيتي في احترام تقنيات الكتابة الصحفية لأنهيت المقالة بتصريح ابن أبي الضياف الأخير. وبالفعل، لقد انتهت النكبة في هذه الحدود، فإلى نكبات أخرى نرويها من التّاريخ.
اقرأ/ي أيضًا: