واصلت تونس في 2017 مسيرتها في الانتقال الديمقراطي، وإن بخطى أبطأ من المأمول، نتيجة قصور الإرادة السياسية في تنفيذ مستلزمات تركيز الديمقراطية الناشئة، مع استمرار استفحال الفساد السياسي، وذلك بالتوازي مع الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، بما تمثله من تحدٍ جدي لسلامة مسار الانتقال الديمقراطي.
رغم الخيبات التي عرفتها تونس حقوقيًا واجتماعيًا وسياسيًا في 2017، إلا أن النضال لتثبيت المسار الديمقراطي لا يزال مُستمرًا
ولم تكن سنة 2017 سنة وردية بالنسبة لتونس، خاصة في أشهرها الأخيرة، بعد تأجيل الانتخابات وإصدار قانون المصالحة الإدارية والذي هو بمثابة عفو عام على الفاسدين في القطاع الإداري، ولكن رغم ذلك لم تكن سنة 2017 سنة سوداء تمامًا، حيث استمرت خلالها نضالات تثبيت المسار الديمقراطي رغم كل محاولات الإجهاض في الداخل والخارج.
5 خيبات في طريق الديمقراطية
1. المصادقة على قانون المصالحة الإدارية
لا خلاف على أن المصادقة على قانون المصالحة الإدارية في أيلول/سبتمبر الماضي، هو النقطة السوداء الأبرز في تونس خلال سنة 2017، لما يكرسه من الإفلات من العقاب وتبييض الفاسدين، وهو الذي يمنح عفوًا عن آلاف الموظفين الذين تورطوا في الفساد الذي نخر الاقتصاد التونسي لعقود.
اقرأ/ي أيضًا: المصادقة على قانون المصالحة بتونس.. خطوة للوراء في معركة لم تنته
وعمل الضغط السياسي والمدني والشعبي على كبح مشروع قانون رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي لأكثر من سنتين، وذلك منذ تقديمه في صيف 2015، ولكن في النهاية، استطاع الائتلاف الحاكم في إطار دورة برلمانية استثنائية، المصادقة على القانون الذي ظل معيبًا بعدم الدستورية، حيث تعذر على هيئة مراقبة دستورية مشاريع القوانين الحسم في دستوريته.
ورغم اقتصار النسخة النهائية للقانون على العفو على الإداريين دون رجال الأعمال الفاسدين كما تضمنت نسخته الأولى، إلا أنّ القانون لا يزال يضرب منظومة العدالة الانتقالية في البلاد، والتي تقوم على عدم الإفلات من العقاب وإصلاح المؤسسات، وتحديدًا غربلة الإدارة التونسية ممن ثبتت مسؤوليته في الانتهاكات التي عرفتها البلاد. ليظل الرهان في السنة القادمة الحيلولة دون منع المساءلة والمحاسبة مع انطلاق الدوائر القضائية المتخصصة سنة 2018 عملها والتي من المنتظر أن تتعهد بالنظر في الانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام.
2. تأجيل الانتخابات البلدية
كان من المفترض أن تكون سنة 2017، هي سنة تنظيم الانتخابات البلدية وتركيز الحكم المحلي، غير أن الائتلاف الحاكم فرض تأجيلها بعدم إمضاء رئيس الجمهورية على أمر دعوة الناخبين في الآجال المحددة، بما جعل هيئة الانتخابات أمام خيار تأجيل الانتهاكات، مكرهة لا مخيرة.
ويعود السبب المعلن لتأجيل الانتخابات للأزمة التي عصفت بهيئة الانتخابات إثر استقالة رئيسها وعضوين، ومن ثم فشل الائتلاف الحاكم في التوافق على رئيسها الجديد.
غير أن السبب الحقيقي لتأجيلها يعود لعدم استعداد جل الاحزاب الفاعلة، سواء في الحكومة وتحديدًا حزب نداء تونس، أو المعارضة، للاستحقاق الانتخابي، للمراهنة على نحو 7200 مقعد في 350 دائرة، وهو ما يفترض إمكانيات بشرية مادية ولوجيستية ضخمة للأحزاب بالتوازي مع ضرورة عقد تحالفات انتخابية أو سياسية.
وحمل تأجيل الانتخابات البلدية تخوفات من مدى التزام الفريق الحاكم بالمضي في مسار الانتقال الديمقراطي، وتحديدًا تركيز الديمقراطية المحلية التي تمثل أحد العناوين الرئيسية لدستور الثورة للقطيعة مع نظام الدولة المركزية، ولدفع التنمية. وتصاعدت هذه التخوفات مع تعالي الأصوات وتحديدًا من الفريق الحاكم، والتي أعربت عن تحفظها من نظام الحكم المحلي بتعلة وجود مخاطر النعرات الجهوية وتقسيم البلاد.
3. عدم إنشاء الهيئات الدستورية
لم يقم البرلمان خلال 2017 بإنشاء أي هيئة من الهيئات الدستورية التي نص عليها دستور 2014، وذلك بسبب محاولات الائتلاف الحاكم داخل البرلمان للمس من استقلالية هذه الهيئات في مشروع قانون الأحكام المشتركة المنظمة لها، وهو ما تصدت له هيئة مراقبة دستورية مشاريع القوانين في أكثر من مناسبة لضمان استقلالية الهيئات من تدخل البرلمان مستقبلًا. ليتواصل مسلسل انتظار المصادقة على قانون الأحكام المشتركة للهيئات، ليتم بعده انتظار اصدار القانون الخاص لكل هيئة منها، قبل انتخاب أعضائها وانطلاقها أعمالها.
كما تعطل في الأثناء تأسيس المحكمة الدستورية على ضوء الأزمة التي حفت بالمجلس الأعلى للقضاء بتأخير تركيزه لنحو ستة أشهر، على ضوء جدل قانوني بين الهيئة الوقتية للقضاء والحكومة بخصوص الدعوة لانعقاد المجلس الجديد. وكان من المفترض أن يتم تركيز المحكمة الدستورية منذ 2015 بعد سنة من الانتخابات التشريعية وفق ما يلزمه الدستور، ولكن تمر 2017 دون هذه المحكمة الضامنة لاحترام الدستور.
4. تعطيل مسار العدالة الانتقالية
ظلت 2017 سنة تعطيل مسار العدالة الانتقالية على ضوء انعدام الإرادة السياسية في تنفيذه، ورفض عديد أجهزة الدولة احترام الواجبات المحمولة عليها في قانون العدالة الانتقالية.
وإضافة لما يحمله قانون المصالحة الإدارية من مس لمهامها، لازالت تعاني هيئة الحقيقة والكرامة، التي تشرف على تنفيذ مسار العدالة الانتقالية، من عديد الصعوبات اهمها رفض الدولة الانخراط في آلية التحكيم والمصالحة خاصة في ملفات الفساد المالي، وذلك بالإضافة لاستمرار رفض وزارة الداخلية النفاذ لأرشيف البوليس السياسي للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان طيلة 60 سنة هي المدة الزمنية التي تغطيها أعمال هيئة الحقيقة والكرامة.
5. خريطة سياسية مضطربة
يتواصل اضطراب الخريطة السياسية في تونس، بين تحالفات تنشأ وتموت في بضع أسابيع، وعدم ثبات الحزام السياسي حول الحكومة، إضافة لاستمرار تشرذم قوى المعارضة خاصة المنتمية للعائلة الديمقراطية الاجتماعية. ويخيم في الأثناء الفساد السياسي على المشهد العام بتغول لوبيات المال. وقد أدى هذا المشهد السياسي المتقهقر لاستمرار تراجع ثقة التونسيين في الاحزاب السياسية.
5 إيجابيات.. لأن المسيرة مستمرة
1. تأسيس المجلس الأعلى للقضاء.. خطوة أولى في مسار طويل
عرفت سنة 2017 تأسيس المجلس الأعلى للقضاء، السلطة القضائية العليا في البلاد، لتتدعم الخريطة المؤسساتية لنظام دستور الثورة. ويأتي تأسيس هذا المجلس بعد مخاض عسير، خاصة بعد تنظيم انتخاباته في خريف 2016، وما تلاها من جدل سياسي وقانوني للدعوة لانعقاد جلسته الأولى، والذي لم ينته إلا بتدخل تشريعي عبر قانون تعديلي.
بعد مرور نحو سبع سنوات على الثورة، لا تزال الخريطة السياسية في تونس مُضطربة بين تحالفات هشة وتشرذم لقوى المعارضة
ويمثل المجلس الأعلى للقضاء ضمانة لقضاء مستقل يعزز إقامة العدل وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات. ورغم الصعوبات التي يواجهها خاصة مع عدم توفير الحكومة للإمكانيات المالية واللوجيستية الضرورية للقيام بالمهام الموكلة إليه، فإن تأسيس المجلس المتكون من 45 عضوًا، ثلثيهم من المنتخبين، يظل خطوة لازمة أولى في طريق طويل لضمان قضاء مستقل قادر على صد أي محاولة لتدجينه وتوظيفه.
اقرأ/ي أيضًا: قراءة في نتائج انتخابات المجلس الأعلى للقضاء بتونس
2. المصادقة على أمر دعوة الناخبين.. ضمانُ تنظيم البلديات
تأجلت الانتخابات البلدية التي كان مقرر عقدها في كانون الاول/ديسمبر 2017، ولكن ضمن التونسيون على الأقل تنظيم هذه الانتخابات بعد إصدار السبسي في الأيام الأخيرة من نفس السنة، أمرًا بدعوة الناخبين للموعد الجديد للانتخابات، والمحدد في آيار/مايو 2018. وأزاح إصدار الأمر التخوفات من عدم تنظيم الانتخابات والإجهاز على الديمقراطية المحلية في مهدها.
ويتمثل الرهان حاليًا في الوعي بأهمية انخراط التونسيين في المشاركة الانتخابية، في ظل تخوفات من عزوف على التصويت سيعسر الانطلاقة المطلوبة لمسار طويل في التحول من نظام الدولة المركزية إلى نظام السلطة المحلية القائم على اللامركزية، والديمقراطية التشاركية والإسهام المباشر للمواطنين في إعداد برامج التنمية.
3. دحر الإرهاب
لعل من أهم العلامات الوردية في تونس سنة 2017، هي استعادة الدولة لعافيتها في مواجهة الإرهاب، وتأكيد قدرة التونسيين الانتصارَ على الآفة التي لم يهدد الدولة في كيانها خلال السنوات الماضية شيء بقدرها، فضلًا عمّا مثلته من خطرٍ هدد مسار الانتقال الديمقراطي.
وعرفت تونس في 2015 أسوء أحداث إرهابية في تاريخها، باستهداف متحف باردو ونزل بسوسة وحافلة للأمن الرئاسي، ما خلف أكثر من 70 قتيلًا. وشهدت البلاد سنة 2016 محاولة إرهابيين السيطرة على مدينة بنقردان جنوب البلاد، في ملحمة وطنية نجحت القوات الأمنية والعسكرية خلالها في تصفية 66 إرهابيًا.
في الأثناء، مرت سنة 2017 دون تسجيل عمليات إرهابية كبرى على غرار السنتين الماضيتين، بل استطاعت الأجهزة المختصة في عديد المناسبات تصفية إرهابيين وكشف مخازن أسلحة، وذلك مع مواصلة عمليات ملاحقة الإرهابيين في جبال الوسط.
لم تكن القدرة على الانتصار على الإهاب محل جدل حقيقي، حيث مثل الانخراط الرسمي والشعبي الحازم في مواجهة هذه الآفة، مع انعدام بؤر حاضنة للإرهابيين وانحصار تواجدهم في بعض المناطق الجبلية؛ كلها عوامل تجعل من الانتصار على الإرهاب معركة وقت لا أكثر، وهو ما تأكد سنة 2017. ولكن تظل التحديات ماثلة خاصة مع خطر عودة المقاتلين التونسيين من بؤر التوتر في المشرق العربي بعد الهزائم المتلاحقة لتنظيم الدولة.
4. الحرب على الفساد توظيف سياسي.. ولكن مع شيء من الأمل
أطلقت الحكومة في شهر آيار/مايو 2017 ما أسمتها "الحرب على الفساد"، واعتقلت عددًا من رجال الأعمال المتورطين في قضايا فساد، على رأسهم شفيق جراية، وهو أحد قياديي وممولي حزب نداء تونس الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة يوسف الشاهد.
وتحُفّ شكوك حول دوافع هذه الحملة في إطار صراع بين رئيس الحكومة وقيادة حزبه، والتي انحصر المستهدفون فيها في فئة المهربين بشكل أساسي، ولكن تظل هذه الحملة بذاتها إشارة ايجابية، أولًا من حيث إعادة الأمل على الأقل في إمكانية انخراط السلطة السياسية في حرب على الفساد، رغم أن رئيس الحكومة لم يبرهن بعد بالقدر الكافي على جدية وحزم حملته المعلنة، وثانيًا من حيث تشجيع أجهزة الرقابة والفاعلين في مجال مكافحة الفساد على المضي قدمًا في مواجهة آفة نخرت الاقتصاد التونسي وخيمت على المشهد السياسي.
ولكن لا يزال يمثل تغول لوبيات الفساد في الخريطة السياسية، عبر تمويل رجال الأعمال المشبوهين لأغلب الاحزاب الفاعلة؛ عائقًا حيويًا يحول دون مضي أي سلطة حاليًا في مواجهة حازمة مع رؤوس الأفعى الكبار، ولكن المعركة متواصلة والأمل مستمر لاستئصال السرطان الذي يهدد الديمقراطية الناشئة.
5. تأديب تونس للإمارات.. رد على استفزاز دولة التخريب
أبت أن تنتهي سنة 2017، إلا وأن ترد تونس على مسلسل الاستفزازات الإماراتية، والذي كان آخر حلقاته منع شركة الخطوط الإماراتية للمسافرات التونسيات من السفر عبر طائراتها، وهو ما ردت عليه السلطات التونسية بمنع الشركة من استغلال المجال الجوي البلاد. وقد وحد هذا الرد التونسيين جمعاء بعنوان الكرامة والسيادة، كما لاقى احتفاءً عربيًا شعبيًا واسعًا، خاصة وأن الإمارات انكشفت خلال السنوات الماضية كدولة مارقة عنوانها استهداف الانتقال الديمقراطي في بلدان الثورات العربية.
وساهمت التطورات الأخيرة في تعرية غطرسة الإمارات وعجرفتها وعنصريتها للعموم، كما كشف بدوره الرد التونسي عن قدرة السلطات الشرعية المنتخبة، الحفاظ على سيادة البلاد، وبأنه لا يمكن التعويل على إخضاعها وابتزازها مادام يسندها الشعب صاحب السلطة.
أبت 2017 أن تنتهي إلا برد تونس الصاع صاعين للإمارات، دولة التخريب المارقة التي تستهدف أي تجربة ديمقراطية في المنطقة
ورفضت الإمارات تباعًا تسوية ملف سفر التونسيات، وهو ما يكشف عن مضيها في مسلسل الاستفزازات، ما يستدعي يقظة من الفاعلين السياسيين في تونس، متعالية على منطق الحسابات، للتصدي للخطط التخريبية الإماراتية وحماية مسار الانتقال الديمقراطي الذي بتمثله كنموذج الحد الأدنى في المجال العربي فهو سيظل محل استهداف من أعداء الثورة العربية وحق الشعب العربي في الحرية والكرامة.
اقرأ/ي أيضًا: