05-يوليو-2018

الإرهابيّ لا يولد إرهابيًا بل يصبح كذلك (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

وأنا أطالع مقالات عن أشخاص عاديّين تحوّلوا إلى إرهابيّين أزداد يقينًا أنّ الإرهاب صناعة وأن الإرهابيّ لا يولد إرهابيًا بل يصبح كذلك إثر انحرافات وتحوّلات فكرية تجعل من شخصيته بيئة خصبة يتكيّف معها الفكر الإرهابي.

اقرأ/ي أيضًا: نظرة العرب لـ"داعش".. إجابات "مميّزة" للتونسيين في المؤشر العربي

وكلّما تناهى إلى مسمعي أن أحد أبناء الحي الشعبي الذي أقطن به التحق بتنظيم داعش الإرهابي وقضى في تفجير انتحاري أو في اشتباكات مع قوات النظام أو فصائل مقاتلة أخرى بسوريا، أتذكّر كم كنت هشّة في سنتي الجامعية الأولى وأننّي ربّما كنتُ قد أوغلتُ في التطرّف وولّيتُ وجهي شطر "الدولة الإسلامية".

سنتي الجامعية الأولى عقبت أحداث الثورة التونسية إذ التحقتُ بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار في سبتمبر/ أيلول سنة 2011 محمّلة بزاد من البساطة والحلم. كنت قد ارتديتُ الحجاب في الصائفة التي سبقت أحداث الثورة لأسباب أعلنتُ بعضها وأخفيتُ الأخرى عمدًا، وأمضيت أشهرًا وأنا أحاول التخفّي من أعين رجال الأمن حتى إذا وقعتُ في أيديهم اختلقتُ بعض الأكاذيب البيضاء من قبيل المرض ولكن ذلك لا يشفع لي دائمًا.

تأثري الأكبر كان بتجربة خالة إحدى صديقاتي التي سُجنت لأنها تمسّكت بحجابها وحرمت من حقّها في التعلّم ولاحق الأمن خطيبها حتى تركها

لا أخفي أنّني كنت في تلك الفترة شديدة التأثر بحكايات خالي عن تجربته في الاتجاه الإسلامي، التي وئدت سريعًا نتيجة الملاحقات الأمنية، ولكن تأثري الأكبر كان بتجربة خالة إحدى صديقاتي التي سُجنت لأنها تمسّكت بحجابها وحرمت من حقّها في التعلّم ولاحق الأمن خطيبها حتى تركها.

وخالة صديقتي ليست الوحيدة التي تعرّضت للملاحقة في قريتنا من أجل انتمائها للاتجاه الإسلامي، حتّى أنّني أذكر أنّ أحد أصدقاء خالي فقد بعضًا من عقله ولكن ذلك لم يعفيه من إجراء المراقبة الإدارية، وشخص آخر نسف مساره المهني لأن أحدهم وشى به إثر تلاوته القرآن في "حزب لطيف".

نفذتُ إلى الجامعة وأنا أحمل تعاطفًا كبيرًا مع الإسلاميين وكنتُ من بين من أحييوا تجربة الاتحاد العام التونسي للطلبة في معهد الصحافة وعلوم الإخبار، وكان ذلك بدافع العاطفة. في تلك الفترة تقرّبت مني فتاة "ملتزمة" دينيًا تدرس معي في نفس الفصل وصرنا أصدقاء واتسعت دائرة أصدقائي "الملتزمين" دينيًا إلى أن صرتُ أراني هجينة بينهم بسراويلي الضيقة وقمصاني القصيرة نوعًا ما وألوان حجابي الفاقعة.

ودون تفكير اتخذتُ قرارًا بأن أصبح مثلهم، يومها رابطتُ عند الخياطة في حيّنا وكان أن خاطت لي عباءتين واحدة سوداء والأخرى بنفسجيّة داكنة واستعرتُ قفازين من جارتنا التي كانت تستعدّ للزواج وتحتمي بهما من حر الشمس، وصرتُ أشبه صديقاتي على مستوى المظهر.

ولتكتمل الصورة وأصير "ملتزمة" زيّنتُ أحاديثي بمفردات من قبيل "بارك الله فيك" و"جازاك الله كل خير" و"أحبك في الله" و"أحبّك في الله الذي أحببتني فيه" دون أن أنسى تحيّة الإسلام التي لا أبدلها بتحيّة أخرى، وهذا لا يعني أنني لم أكن ألجأ إلى بعض هذه العبارات من قبل لكن كل ما في الأمر أنّني كسوتها صبغة إلزامية.

في خضم كل هذه التغييرات التي شهدها شخصي ظاهرًا كنتُ أتغير من الدّاخل لا سيّما وأنني كنتُ حديثة العهد بتجربة عاطفية فاشلة وكانت الأجواء التي وجدتُ فيها نفسي ملائمة كيلا أعيد التفكير بتجربة أخرى جديدة فالأمر بالنسبة لي فيه كثير من المجازفة ويمكن أن يزيغ قلبي إلى الحرام.

سنتها شهدت كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة أحداثًا ساخنة على خلفية مطالبة المنقبات بكشف وجوههن، وساندتُ حقهن في ذلك لا أعلم إن كانت مساندتي حينها بمنطق العصبية أو الديمقراطية التي تضمن حقّ اللباس.

أمضيتُ أسبوعًا لا أكشف عن وجهي وأرتدي البرقع تضامنًا مع المنقّبات حتى أنني كنتُ أحضر دروسي في معهد الصحافة مرتدية "السفساري" لأذكّر البعض أن جدّاتنا كنّ يلبسنه ويخفين وجوههن، لا أدري لما كنتُ أفعل ذلك ولكن فعلته وقُضي الأمر. وفيما أذكر نعتتني إحدى المنقّبات بـ" الكاراكوز" لأنّني كنت أرتدي "السفساري" ولم أكن أشبههنّ ويبدو أنّني لن أكون ولو خرجتُ من جلدي.

في الأثناء تفجّرت مزيد الاحتجاجات في سوريا ولكن الأمور سرعان ما أخذت منحى آخر وبدأت قوافل الشباب التونسيين تتدفّق إلى سوريا للمشاركة في "قيام دولة الخلافة"، وكنتُ حينها أنتشي حينما أحرج بعض الزملاء الذين يريدون مصافحتي، لا أعلم لماذا كنتُ أعرض عن مصافحتهم ولكنني كنت أفعل وحسب.

انقطعت عني أخبار صديقي خالد إلى أن غصت مواقع التواصل الاجتماعي بصور إرهابي يُكنى بـ"أبو عبد الله التونسي" وقد تناثرت أشلاؤه في عملية تفجيرية في سوريا

في نفس الفترة كانت تربطني علاقة صداقة بطالب اسمه خالد، يزاول تعليمه بمعهد التوثيق الذي يحاذي معهد الصحافة، ملتح هادئ الطباع لا يتكلم إلا لمامًا نتبادل التحية أحيانًا ونتناقش في بعض المسائل الدينية أو الدنيوية ثمّ نفترق بعد دقائق معدودات. وفي آخر لقاء جمعني بخالد تحادثنا عن الوضع في سوريا، كان يبتسم وهو يحدّثني عن "استشهاد" صديقه في إحدى المعارك ويدعو الله أن يرزقه الشهادة في أرض الجهاد، يومها لم أهتم كثيرًا بكلامه ولم أكن في وضع نفسي يسمح لي بنقاش طويل.

كنتُ حينها أفكّر كيف أستعيدني وكيف أوقف سيل السواد المتدفّق إلى داخلي وكيف أرسم البسمة على شفتي من جديد، تعجز صديقاتي أحيانًا عن إضحاكي. كنت أعجز عن تحريك شفتيّ كنتُ أتآكل ولا أعلم السبب. وفيما أنا أفكّر في طريقة لاستعادتي لم تنقطع لقاءاتي بأصدقائي وصديقاتي "الملتزمين" وكانت كل النقاشات تدور حول سوريا ودولة الخلافة ومشروعية الجهاد في أرض الشام من عدمها، كنتُ أسمع ولا أتكلّم.

اقرأ/ي أيضًا: حوار في السياسة الاتصالية لـ"داعش" مع محمد المعمري مؤلف "في كلّ بيت داعشي"

وكان أن نزعتُ العباءة السوداء والخمار الأسود والقفازات وارتديتُ سروالًا بلون البرتقال وقميصًا أبيضًا زينته ألوان الربيع وحجابًا فاقع اللون وذهبتُ إلى المعهد، مظهري لم يعجب أصدقائي "الملتزمين" جدًّا حتى أنّ أحدهم سألني "ماهذا ؟" فاكتفيتُ بالإجابة "نفسيتي تاعبة".

عدتُ إليّ، واسترجعتُ حماستي وإقبالي على الحياة. ربّما حينها قد استنفذت ردّة فعلي على فشلي العاطفي آنذاك وتحسّن وضعي النفسي، ولم أعد مقرّبة من أصدقائي "الملتزمين"، ولكن هذا لم يثنني عن السؤال عن سبب بكاء صديقتي "الملتزمة" التي ما عادت صديقتي وما عادت ملتزمة بحرقة في ساحة معهد الصحافة فأجابتني "شمس ولد خالتي استشهد.. شمس استشهد".

ابن خالة صديقتي سافر إلى سوريا مع عائلته الصغيرة ليلتحق بتنظيم "الدولة الإسلامية" و"للجهاد في سبيل الله"، فقضى تاركًا وراءه أطفالًا صغارًا.

من غير المنطقي أن نتحدّث عن نموذج يجسّد عمليّة تطرّف الأفراد حدّ الإرهاب ولا يوجد نموذج واحد للمتطرّف أو الإرهابي ذلك أنّ الخلفيات والأسباب غير متجانسة وتختلف من ثقافة إلى أخرى ومن فرد إلى آخر. لذلك لم يكن ليتبادر إلى ذهني أنّ صديقي سيفجّر نفسه في سوريا.

انقطعت عني أخبار خالد إلى أن غصت مواقع التواصل الاجتماعي بصور إرهابي يُكنى بـ"أبو عبد الله التونسي" تناثرت أشلاؤه في عملية تفجيرية في سوريا، ترى ما المسحوق الذي غسلوا به دماغك يا خالد؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

حينما كان "الجنّ" يسلّينا!

النهاية: هل حان وقت موت الصحافة على يد الإعلام؟