"Un des rares"، بهذه العبارة وصف رئيس الجمهورية التونسية الباجي قائد السبسي النقابي والسياسي والوزير الأسبق مصطفى الفيلالي خلال زيارته لمنزل الفقيد لتقديم واجب العزاء، وهذه الصفة تكاد تكون الأسلم لوصف هذا الرجل الذي يجمع جلّ من يعرفه على خصال المناضل الوطني الذي غيّبته المنية يوم الأحد 20 جانفي/ كانون الثاني 2019، في سن الـ97 عامًا.
علاقة مميّزة جمعت الفيلالي بالحبيب بورقيبة جعلت منه أحد أبرز الوزراء الذين يمثّلون الاتحاد العام التونسي للشغل في حكومة ما بعد الاستقلال
سنوات من عمره أفناها خدمة لبلاده التي آمن بها وبأبنائها وعمل جاهدًا حتّى تكون دولة مدنيّة حديثة ومنفتحة. مناضل، نقابي، سياسي، مثقف، أديب وكاتب.. إذا ما اجتمعت هذه الصفات في شخص فلا شك أنك أمام قامة تنحني لها الجباه احترامًا. هي قامة مصطفى الفيلالي التي طالت ربوع المغرب العربي، ربوع طالما سال قلم الفقيد حول فكرة اتّحادها.
اقرأ/ي أيضًا: ساهم في صياغة دستور 1956.. وفاة المناضل والسياسي مصطفى الفيلالي
فيلسوف الحزب
ولد مصطفى الفيلالي بعاصمة الأغالبة سنة 1921. وعن مسقط رأسه، تحدّث الناشط السياسي أحمد المنّاعي في تدوينة له عن طرفة حدثت للفقيد في عيد ميلاد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، قائلًا "ذات مرّة في الستينيات في عيد ميلاد الرئيس أراد بورقيبة أن يذكّره بأنه "جلاصي"، لذا عندما تقدم سي مصطفى لتحيّته سأله الرئيس "سي مصطفى علاش تسميو الهندي سلطان الغلة؟" فأجابه سي مصطفى "لأنه الغلة الوحيدة اللي عندها تاج على رأسها والوحيدة اللي عندها جنود يحرسوها ثم إن حكمه بلا استئناف".
علاقة مميّزة جمعت الفيلالي بالحبيب بورقيبة جعلت منه أحد أبرز الوزراء الذين يمثّلون الاتحاد العام التونسي للشغل في حكومة ما بعد الاستقلال، إذ شغل منصب وزير الفلاحة الذي كان يعتبر من المناصب المهمّة في تلك الفترة، حسب ما أفاد به المؤرّخ الجامعي عبد اللطيف الحنّاشي في حديثه عن مسيرة المرحوم لـ"ألترا تونس".
ويبيّن الحناشي أن الفيلالي صاغ البرنامج الاقتصادي والاجتماعي لمؤتمر الحزب الحر الدستوري الجديد في 1955 وهو من مهّد للجلاء الزراعي من خلال نقل جزء مهمّ من الأراضي التي يسيطر عليها المستوطنون آنذاك إلى ملكيّة التونسيين، مضيفًا أنّه شغل أيضًا مناصبًا في البريد والإعلام.
كان مصطفى الفيلالي يسمّى بـ"فيلسوف الحزب" نظرًا لغزارة إنتاجاته الفكريّة
اقرأ/ي أيضًا: محمود المسعدي.. مؤسس النظام التعليمي والأديب الإنساني
وكان مصطفى الفيلالي يسمّى بـ"فيلسوف الحزب" نظرًا لغزارة إنتاجاته الفكريّة. وكان يكتب كلّ بيانات الحزب في تلك الفترة، ويعتبر من السياسيين القلائل الذين قاموا بنقد لمسيرتهم وعلاقتهم بالحزب الذي شغل منصب مدير له سنة 1970. كما قدّم الفقيد شهادات في مسيرته النضالية والفكرية بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات.
بالإضافة إلى نشاطه السياسي والنقابي صلب الاتحاد العام التونسي للشغل، كان الفيلالي عضوً بالهيئة العلمية لمركز دراسات الوحدة العربية ومسؤولًا في اللجنة الاقتصاديّة والاجتماعية للأمم المتحدة الي تهتم بالمغرب العربي ومديرًا لأهم مركز بحثي في تونس وإفريقيا، مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية.
وفي هذا السياق، يقول عبد اللطيف الحناشي "كان مصطفى الفيلالي متحصّلًا على الأستاذيّة في الآداب العربيّة من جامعة السوربون. ورغم أنه لم يتحصّل لا على ماجستير ولا دكتوراه، إلّا أنه استحقّ بجدارة أن يشغل هذا المنصب الجامعي".
ويؤيّده في هذه النقطة الأستاذ الجامعي والمؤرّخ عبد الجليل التميمي الذي أكد لـ"ألترا تونس" أنه "من المعيب عدم ذكر هذه النقطة المضيئة في مسيرة المرحوم في الإعلام التونسي"، مبرزًا أن الفيلالي استطاع بأسلوبه المرن والمنفتح أن يقنع عديد التونسيين المقيمين في فرنسا بأن يلتحقوا بهذا المركز.
وأضاف التميمي أنه في عهد الفيلالي، أنتج هذا المركز من البحوث والدراسات ما شكّل أبرز إنجازات المعرفة في العلوم الاجتماعية والاقتصادية.
وعن الجانب الإنساني لمصطفى الفيلالي، يؤكد عبد اللطيف الحنّاشي أنه شخص بشوش ومعطاء يستقبل الناس بكل أريحية ومنزله في رادس مفتوح للجميع، مضيفًا أنه رجل فكر أكثر منه رجل سياسة ومشيدًا بولعه الشديد بالمطالعة إذ كان الفقيد يطالع حتى آخر أيام حياته ويشتري آخر الإصدارات والكتابات.
الفيلالي وإلغاء الأحباس
أجمع كلّ من عبد اللطيف الحنّاشي وعبد الجليل التميمي عن موقف مصطفى الفيلالي من إلغاء الأحباس، إذ أكّدا أنه نادم على هذا القرار. ويبيّن التميمي أن الفيلالي صرّح في إحدى الندوات بزغوان قائلًا " كنت أول من فكر في إلغاء الأحباس.. سامحني الله".
ويعتبر عبد الجليل التميمي أن هذا الاجتهاد لم يصب فيه الفيلالي واستدلّ بمثال المعهد الصادقي الذي كان يعيش بفضل مئات الأحباس التي وضعت لتسييره وليس بمنحة من الدولة حسب تعبيره.
عبد الجليل التميمي لـ"ألترا تونس": أرجو أن لا يتم نسيان مصطفى الفيلالي بتسمية شارع باسمه، نحن نريد كلّية.. نريد شيئًا هامًّا مثله
قيرواني المنبت ومغاربّي الهوى
" هذا الرجل كان مؤمنًا إيمانًا كليًا بحتمية اتحاد المغرب العربي فكتب حول هذا الموضوع وكتب في مركز الوحدة العربية ببيروت، وكل لقاءاته وأفكاره تصب حول هذا الفضاء المغاربي الذي أعطاه كل طاقته"، هكذا تحدّث عنه التميمي في حديثه لـ"ألترا تونس".
ويضيف أنه كان أحد الفاعلين في حركة المغرب العربي وكان ممثل تونس في الجزائر وأحدث حركية كبيرة من المشاريع المنتمية للمغرب العربي، مؤكدًا أن مصطلح "كلفة المغرب" لم يكن من ابتكاراته الشخصيّة بل كان من ابتكار مصطفى الفيلالي وأنه تبنى هذا المبدأ ونظم حوله عديد المؤتمرات.
ويشير التميمي إلى اهتمام الفقيد بهجرة الأدمغة التي اعتبرها نكسة كبيرة لعدم بناء هذا الفضاء المغاربي باعتبار أن تونس ساهمت في تكوينهم الفكري والجامعي لكنهم خيّروا الالتحاق بالجامعات الغربية.
عبد اللطيف الحناشي لـ"ألترا تونس": كان الفيلالي رجل فكر أكثر منه رجل سياسة
ووجّه التميمي كلمة للسياسيين قائلًا " كان مصطفى الفيلالي يشعر بأهمية الملفات الجيوسياسية والفكرية والدراسات وبالتالي أرجو من القادة السياسيين أن يتوقفوا حول ما فعله الفيلالي بكل نظافة وبكل صدق وبكل إيمان فهو الرجل المؤمن وهو أحد بناة الدولة الوطنية الحديثة وكان متفاعلًا مع بناء الدولة الوطنية".
وختم محدثنا بالقول" أرجو أن لا يتم نسيانه بتسمية شارع باسمه. نحن نريد كلّية. نريد شيئًا هامًّا مثله".
يذكر أنه وبعد سقوط نظام زين العابدين بن علي، انضمّ مصطفى الفيلالي للهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة وشارك في عديد المناظرات العامّة طارحًا كلّ خبرته وتجربته السياسيّة. كما وقع اقتراح اسمه كرئيس للحكومة سنة 2013 إلا أنه اعتذر بداعي التقدّم في السن.
" لا حياة فكرية سياسية أو ثقافية ولا منافسة في انتخابات نزيهة ولا أمان ضامنًا لسلامة الانتخابات ما دامت جحافل العنف والفتنة تعشش بربوع بلادنا وتهدد المجتمع المدني في المدن والأرياف فلا تترك مجالًا مناسبًا لحرية ولا لديمقراطية تفسح السبيل للانتخابات"، هذا ما قاله الفقيد مصطفى الفيلالي ذات صيف 2014 في إحدى مقالاته، كلمات كتبت بماء الذهب مهما تقادمت ومازالت صالحة لإنجاح تجربة ديمقراطية لطالما حلم بها الجميع.
اقرأ/ي أيضًا:
توفيق بكار.. عراب النقد الأدبي الذي أوصى خيرًا باللغة العربية