"الحرية تخيف.. الحرية كالنور تخيف أبناء الظلام.."، عبارة ردّ بها أستاذ القانون العام وعضو الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية وحيد الفرشيشي على حملات التشويه والتهديد التي انطلقت فور الإعلان عن التقرير النهائي للجنة الحريات الفردية والمساواة، ونجح بواسطتها في اختزال عديد الأسباب التي دفعت بفئات واسعة من المجتمع التونسي إلى رفض لجنة الحريات وتقريرها.
الخوف من الحريات، وإن بدا غريبًا بالنسبة للبعض، هو أمر طبيعي وغريزي، فالإنسان بطبعه يخشى ما لم يعتد عليه وما لا يفهمه، وهو ما قد يبرّر رفض جلّ فئات المجتمع التونسي لتوصيات لجنة الحريات. فالتونسيون وإن التصقت بهم صفة الحداثة والتقدم مقارنة ببقية الشعوب العربية لازالت ترسبات "الفكر المتحجر" الرافض لأي مبادرة تغيير أو مراجعة، خاصة إن تعلّق الأمر بقضية دينية، تسيطر على الغالبية السوداء منهم.
اقرأ/ي أيضًا: من بينها إلغاء تجريم المثلية: أهم ما جاء في تقرير لجنة الحريات الفردية
حقوقيون، ونشطاء في المجتمع المدني، وفنانون، ومسرحيون، وأكاديميون وصحفيون قدموا من مختلف المشارب لدعم تقرير لجنة الحريات الفردية
فتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة الذي جاء بعد سنوات من نضال عديد الحقوقيين والمفكرين والمصلحين، وجاء كمواصلة لمسيرة "إصلاحية" ليست غريبة على تونس التي كانت سبّاقة في مجال الحريات منذ صياغة عهد الأمان ومرورًا بالإصلاحات التي أتى بها خير الدين باشا وعبد العزيز الثعالبي والطاهر حداد والحبيب بورقيبة، أثار حفيظة شرائح واسعة من المجتمع التونسي وأيقظ فيهم "خوفًا دفينًا على الإسلام"، كما يدعي البعض.
ولئن كان التقرير خطوة أولى في مسار تكريس تونس كبلد يتبنى منظومة الحقوق والحريات الكونية والمساواة التامة بين جميع أفراده، فتحويله إلى نصوص قانونية غير كاف لوحده لإحداث "التغيير الضروري والمطلوب في المجتمع". ومن هذا المنطلق، قرّرت منظمات من المجتمع المدني إطلاق مبادرة لدعم لجنة الحريات الفردية والمساواة وتدعيم عملها لخلق حاضنة شعبية تفهم ما جاء في التقرير وتتقبّله أو على أدنى تقدير تناقش ما جاء فيه بعقلانية وهدوء دون تكفير أو تهديد.
هذه المبادرة صنعت الحدث وفاجأت عديد المتابعين بل المنظمين أنفسهم. فمساء الثلاثاء 24 جويلية/ تموز 2018، وحوالي الساعة الخامسة مساء، بدأت حشود واسعة تتوافد على مدينة الثقافة بالعاصمة تونس للمشاركة في مؤتمر الحريات الفردية والمساواة الذي دعت إليه منظمات عديدة من بينها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية...
عدد الوافدين فاق كلّ التوقعات. منظمو المؤتمر بدورهم بدا عليهم الانبهار والتفاجئ من هذا الحضور. المشهد كان مبهجًا ومنعشًا. شباب وكهول، رجال ونساء جاؤوا من مواقع مختلفة ليعبّروا عن مساندتهم للجنة الحريات الفردية والمساواة ودعمهم لتقريرها الذي يصفه العديد بمؤيديه بأنه "ثوري رغم رغم بعض النواقص".
حقوقيون، ونشطاء في المجتمع المدني، وفنانون، ومسرحيون، وأكاديميون وصحفيون قدموا من مختلف المشارب لدعم تقرير لجنة الحريات الفردية. اكتظت قاعة عمر الخليفي بمدينة الثقافة وامتلأت مقاعدها. بعض الحضور افترش أرضية القاعة. والبعض الآخر لم يجد مكانًا في الأرض فتابع فعاليات مؤتمر تونس للمساواة والحريات الفردية واقفًا. آخرون لم يكونوا محظوظين ولم تتسع له القاعة لكنهم لم يغادروا وآثروا المتابعة من خارج القاعة.
المؤتمر تخلّلته كلمات لأستاذ القانون العام وحيد الفرشيشي ورئيسة جمعية النساء الديمقراطيات يسرى فراوس وعضو لجنة الحريات الفردية سلوى الحمروني. وقرأ عدد من الفنانين والإعلاميين فصولًا من الميثاق الذي انكبّ على إعداده خبراء. ولعلّ أكبر حاضر غائب كان المسرحي المخضرم توفيق الجبالي الذي رغم غيابه الجسدي أصرّ على الحضور بصوته الأجش الذي قرأ على المشاركين في المؤتمر فصولًا من ميثاق الحريات.
وقد تضمّن ميثاق تونس للمساواة والحريات الفردية 10 فصول تلتزم بمحتواها أكثر من 90 منظمة وجمعية أمضت على الميثاق. وتؤكد الفصول العشرة على ضرورة ملائمة جميع التشريعات مع الدستور التونسي وإعلاء قيم الحرية والمساواة والحق في الحياة والمساواة في جميع الحقوق وتأمين حرية الفكر والضمير والدين ونبذ كلّ أشكال القمع.
اقرأ/ي أيضًا: لجنة الحريات: تقريرنا ثوريّ ولا يمس من العقيدة.. والمعارضون يردّون: بل هو فتنة
فصول ميثاق تونس للمساواة والحريات الفردية
ورغم الحرّ الذي هيمن في القاعة كانت وجوه جميع الحاضرين مشرئبة تتابع فعاليات المؤتمر بكلّ حماس بأعين غلب عليها شعور بالأمل في غد أفضل والحلم بتونس دولة للحريات والمساواة، "دولة لا يعاقب فيها حبيبان لأنهما تبادلا قبلة في الطريق العام، وبلدًا لا يلاحق فيه المثليون الجنسيون" ولا يخضعون لفحص العار المسمى بـ"الفحص الشرجي"، وبلادًا تتساوى فيها المرأة مع شقيقها فلا تحرم من حقها بعد سنوات تقضيها في العمل المضني، ويحترم فيها المواطن كفرد له خصوصياته وأفكاره ومعتقداته ولا يسير وفقًا لضوابط الجماعة، ودولة تحترم حرمة الإنسان ولا تسلبه حقه فتحكم عليه بالإعدام. هكذا يدعو دائمًا من يدعمون التقرير.
تمّ الإعلان عن إحداث لجنة سفراء المساواة والحريات خلال مؤتمر تونس للمساواة والحريات
المسار لا يزال طويلًا في طريق تحقيق دولة الحقوق والحريات الفردية والمساواة التامة بين جميع أبناء الشعب دون أي تمييز قائم على أساس العرق أو الدين أو اللون أو المعتقدات، ولكنه ليس مستحيلًا ويمكن تحقيقه من خلال تظافر جهود المشرّعين والمسؤولين والسياسيين ولكن أيضًا المجتمع المدني.
ولعلّ هذا ما قد يفسّر الإعلان عن إحداث لجنة سفراء المساواة والحريات خلال مؤتمر تونس للمساواة والحريات والتي تضمّ شخصيات من خلفيات مختلفة وفنانين وأكاديميين وناشطين. مهمة هذه اللجنة لن تكون سهلة فهي ستتوزع في مختلف مناطق الجمهورية وتعمل على تكوين شبان وشابات ينشرون ثقافة الحقوق والحريات الكونية والمساواة ليقنع بها كلّ واحد منهم محيطه الاجتماعي الصغير.
هذه الخطوة الهامة التي قامت بها هذه المنظمات والجمعيات جاءت لتؤكد مجددًا مدى فعالية المجتمع المدني بتونس وقوته والدور الذي يستطيع أن يضطلع به في الحياة العامة والشأن العام، ولكنها جاءت كذلك كدفعة ضرورية لـ"الطبقة التقدمية والحداثية" بتونس والتي لا زال موقفها "محتشمًا بعض الشيء" من تقرير لجنة الحريات كما قيل، فبانت كأنها دعوة له للابتعاد عن الحجج الواهية وعن "حائط المبكى"، كما عبّر عن ذلك الإعلامي مختار الخلفاوي عندما قال في مداخلته خلال المؤتمر "أيها الحداثيون.. ابتعدوا عن حائط المبكى".
اقرأ/ي أيضًا"
كيف علّق النواب على تقرير لجنة الحريات الفردية؟
تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة.. إشكالية الدين والدولة المدنية