20-مايو-2019

أزمة التعليم العمومي أسهمت في إسهال عدد مؤسسات التعليم الخاص (ناصر طلال/وكالة الأناضول)

 

 

لطالما كان يفخر التونسيون، على مدى عقود طويلة، بجودة التعليم العمومي ودوره في دحر الأمية والترفيع في نسبة التمدرس والوصول بتونس إلى مستوى متقدم جدًا في مجالات عديدة منها الصحة. فتحت الدولة في الأثناء، في حدود سنة 2000، المجال للتعليم العالي الخاص والهدف حينها هو توفير مقاعد للطلبة التونسيين والأجانب الراغبين في مواصلة تعليمهم ومعاضدة الجهود المبذولة في التعليم العمومي إضافة للتخفيض في نفقات الدولة في التعليم. كما استمر مسار الخوصصة بكثافة نحو المدارس الابتدائية والمعاهد.

اقرأ/ي أيضًا: التعليم في خطر: ثقافة "الموازي المدرسي" تهدد المدرسة التونسية

إحصائيات وأرقام

تطور إجمالًا عدد مؤسسات التعليم العالي الخاص من 10 مؤسسات جامعية فقط سنة 2000 إلى ما يقارب 868 مؤسسة تعليم خاص سنة 2018 حسب تصريح رئيسة الغرفة الوطنية لمؤسسات التعليم الخاص لطيفة فرحات بوغطاس، بل وتطور عدد هذه المؤسسات خلال السنوات السبع الأخيرة بنسبة 250 في المائة وهي نسبة مرتفعة.

بلغ عدد مؤسسات التعليم العالي الخاص في تونس ما يقارب 74 جامعة يدرس بها حوالي 32 ألف طالب بينهم 5 ألاف طالب أجنبي

وحسب إحصائيات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وصل عدد مؤسسات التعليم العالي الخاص في تونس إلى ما يقارب 74 جامعة يدرس بها حوالي 32 ألف طالب بينهم 5 ألاف طالب أجنبي. ويمثل طلبة التعليم العالي الخاصّ حوالي 12 في المائة من إجمالي عدد الطلبة في التعليم العالي العمومي. فيما تطوّر عدد خرّيجي التعليم العالي الخاص من 5278 متخرّجًا سنة 2014 إلى 7080 متخرّجًا سنة 2016.

في نفس الإطار، شهد عدد المدارس الخاصة بالمرحلة الابتدائية في تونس ارتفاعًا كبيرًا ليبلغ خلال الموسم الدراسي لسنة 2015 حوالي 324 مؤسسة تعليم خاص في حين كان خلال السنة الدراسية 2010/2011 في حدود 109 مؤسسات فقط. وقد استقر عدد التلاميذ في حدود 60313 تلميذا وتلميذة، فيما قُدّر عدد المدرسين بـ5455 معلمًا ومعلمة.

سؤال الجودة في التعليم العالي الخاص

محمد الشابي (29 سنة)، شاب بدأ حياته الجامعية في مؤسسات التعليم العالي العمومي لكن أنهاها في مؤسسات التعليم العالي الخاص، إذ حصل قبل سنتين على شهادة الهندسة في مجال الإعلامية وهو يعمل اليوم في فرع لشركة عالمية في مجال المحاسبة.

يرى محمد في حديثه لـ"ألترا تونس" أن التعليم العالي العمومي في تراجع متواصل قائلًا: "لقد قضيت 3 سنوات في التعليم العالي العمومي ولكن مقارنة بتجربتي في التعليم الخاص يبدو أن هناك الكثير لإصلاحه فيما يتعلق بالبرامج التعليمية وعدد الطلبة في كل قسم واختيار الأساتذة والطريقة البيداغوجية في التدريس".

محمد الشابي (29 سنة): التعليم العالي العمومي بحاجة للإصلاح خاصة على مستوى البرامج التعليمية والطريقة البيداغوجية للتدريس

تحصل والد محمد على قرض بنكي من أجل مساعدة ابنه على إكمال دراسته ليختار من المؤسسات التعليمية الخاصة الأكثر شهرة في ميدان الإعلامية. يرى محمد أن نظام التدريس في الجامعة الخاصة هو سبب نجاحه، موضحًا "لقد تجاوزنا طريقة التعليم التقليدية أي أن يعطي الأستاذ درسًا والطلبة يكتبون على كراساتهم، أصبحنا نقسم السنة الدراسية إلى مشاريع توزع بين الفرق وكل فريق يجب أن ينهي مشروعه قبل الوقت المحدد ويشاركنا الأستاذ الذي يصبح صديقًا وليس أستاذًا. كما تمكننا الجامعة من المشاركة في دورات على غرار مشاركتنا في مسابقات أطلنطا بالولايات المتحدة".

تجربة خليل الذي قدم إلى العاصمة في 2013 من أجل استكمال دراسته في إحدى الجامعات الخاصة لم تكن بأهمية تجربة محمد، يؤكد خليل في حديثه إلينا أن مؤسسات التعليم الخاص تعاني من نفس مشكلة مؤسسات التعليم العالي العمومي وهي مراقبة الجودة. ويؤكد أن إدارة الكلية الخاصة التي درس بها تعمل على إنجاح جميع الطلبة "حتى أنه يمكنك أن تتغيب كما شئت وتتدارك في دورة المراقبة" وفق قوله. وأضاف أن الدروس التي تلقاها خلال السنوات الثلاث لم تكن بحجم الفائدة التي توقعها، حسب تأكيده.

خليل (درس في جامعة خاصة): كانت إدارة الجامعة الخاصة تعمل على إنجاح جميع الطلبة والتكوين لم يكن بحجم الفائدة التي توقعتها

ودائمًا ما تُطرح مسألة جودة التكوين في مؤسسات التعليم العالي الخاص ومدى ملاءمته للبرامج الرسمية المعتمدة من طرف وزارة التعليم العالي البحث العلمي وللنصوص الضابطة لنظام الدراسات وشروط الحصول على الشهادة الوطنية.

وتخضع الوزارة كلّ هذه الضوابط لمراقبة قبلية وبعدية لضمان تطبيق كراس الشروط، غير أنه دائمًا ما تٌسجّل الإخلالات والتجاوزات سواء فيما يتعلق بالتدريس أو بمطابقة الشهادات للمواصفات المطلوبة من الدولة، وينسحب ذات الأمر على المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية الخاصة.

منجي بن محمد، وهو أستاذ رياضيات، يقول لـ"ألترا تونس" إن المدارس الخاصة قبل الثورة كانت محدودة وتلتزم بتطبيق البرنامج الوطني العمومي، ويؤكد، في المقابل، أن الرقابة باتت اليوم غير موجودة "ولذلك نجد أن عددًا من هذه المدارس تدرّس برامج لا علاقة لها بالبرنامج التونسي" وفق تأكيده.

إقبال العائلات على التعليم الخاص

لم يعد التوجه إلى التعليم الخاص، خاصة بعد الثورة، مقتصرًا على العائلات الميسورة، فسليم، وهو موظف بفرع بنكي، اختار قبل سنتين أن يدرّس ابنه بأحد مؤسسات التعليم الخاص وهو خيار نتيجة وضعية التعليم العمومي وفق قوله. ويقدّر، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أنه يتأكد مع مضي كل يوم أن اختياره كان صائبًا بالنظر إلى عدد الإضرابات في مؤسسات التعليم العمومي والحوادث المسجلة عدا عن جودة التعليم المقدم إلى التلاميذ".

يرى سليم (وليّ) أن خياره تدريس ابنه في مدرسة خاصة هو خيار صائب بالنظر إلى الإضرابات في التعليم العمومي وتراجع جودة التكوين

اقرأ/ي أيضًا: فوضى وامتحانات غير مراقبة: أيّ مصداقية للتعليم العالي الخاص؟

ويؤكد سليم أن مؤسسات التعليم الخاص لم تعد وجهة للعائلات الميسورة فقط بل أيضًا للعائلات متوسطة الدخل، مضيفًا: "أعرف أن تكلفة التعليم الخاص مرتفعة مقارنة بالتعليم العمومي لكن فاتورة مالية أقل أهمية عندي من فاتورة تعليم ابني، وأن أتحمل اليوم تكاليف باهظة ويحظى ابني بتعليم جيد خير من أن يدرس تعليمًا مجانيًا ويتخرج بمستوى رديء".

وأوضح أن عائلات عديدة تضطر للاقتراض من البنوك من أجل تدريس أبنائها.  وتتراوح كلفة تعليم طفل في مدرسة خاصة بين 3 و7 آلاف دينار سنويًا، وتختلف هذه التكلفة من مدرسة إلى أخرى، وأيضًا حسب الخدمات التي يختارها الآباء لأبنائهم داخل المدرسة.

إقبال العائلات على تعليم أبنائها في مدارس خاصة يعود إلى أسباب عديدة منها نوعية التعليم والبيداغوجيا المعتمدة وهي من العوامل الأساسية التي جعلت التعليم الأساسي الخاصّ تحديدًا محلّ اهتمام الأولياء.

أي خطر على التعليم العمومي؟

لا يمكن الجزم أن مؤسسات التعليم الخاص تلعب دور المنافس للتعليم العمومي على اعتبار أن عدد الطلبة المسجلين بالتعليم العالي الخاص مثلًا لا يتجاوز نسبة 12 في المائة من مجموع الطلبة، كما أن نسبة المدارس الخاصة لا تمثل سوى 6.6 في المائة من عدد المدارس الابتدائية العمومية.

محمد الناصر عمار، مدير جامعة خاصة معروفة في تونس، اعتبر في تصريح إعلامي أن التعليم الخاص هو مكمل ومساعد للنظام التعليمي في تونس، ويقول إن الجامعات الخاصة "تساعد بكل بساطة الطلبة الذين لم يخدمهم نظام التوجيه الجامعي العمومي والذين يريدون الحصول على تكوين في مجال ما  دون أن تتوفر لهم هذه الفرصة في المؤسسات الجامعية العمومية". لكنه يقدّر أن الخطر الأكبر على منظومة التعليم العمومي هو ضعف رقابة الدولة على هذه المؤسسات، ويعتبر أن الدولة تقوم بخطأ كبير حينما تراقب المؤسسات التعليمية الخاصة أكثر من المؤسسات العمومية على اعتبار أن هذا الخطأ يؤدي وفق تأكيده إلى تراجع جودة التعليم العمومي وهو ما نعيشه اليوم على حد تعبيره.

 عاينت دائرة المحاسبات ضعف الدولة في مراقبة التعليم الخاص وقد تحول التعليم إلى مشروع تجاري بعد أن كان مشروعًا استراتيجيًا للدولة

في الأثناء وإلى جانب ما تعانيه مؤسسات التعليم العمومي من تراجع للجودة، كشف تقرير دائرة المحاسبات العديد من التجاوزات صلب مؤسسات التعليم الخاص سواء فيما يتعلق بالامتحانات أو الترفيع في معاليم التسجيل بطريقة غير قانونية وغيرها من المسائل. وقد أعاد هذا التقرير إلى السطح ملف ضعف دور الدولة في مراقبة التعليم الخاص والإسهال في بعث المؤسسات التعليمية الخاصة ما جعل التعليم اليوم بمثابة مشروع تجاري للربح الخاص بعد أن كان مشروعًا استراتيجيًا للدولة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

التعليم الديني الموازي في تونس.. لماذا الإقبال عليه؟ وماهي مخاطره؟

الخبير محمد بن فاطمة: منظومة التربية منهارة ولا بدّ من منهجية للإصلاح (حوار)