في آخر زيارة لنا لقصر الجم (جنوب شرق العاصمة تونس)، كانت الحمائم تجوب أجواء المسرح الروماني آناء غروب الشمس التي أسدلت خيوطها الذهبية على أروقة القصر وتسللت إلى أقبيته المظلمة تسترق شيئًا من صخب الماضي، وكنا نستمع إلى تغاريد الطير بين نتوءات الصخور. وكان صدى أصواتنا يتردد بين جنبات المدارج والأقواس الشاهقة.
مسرح الجم أو كما كان يسمّى عند المؤرخين العرب "قصر الكاهنة"، أو كما كان يحلو للرومانيين تسميّته بـ"كُولُوسِّيُومْ تِيسْدْرُوسْ Colosseum Thysdrus"، يعتبر ثالث أكبر مسارح العالم بعد كولوسيوم روما العظيم و"كابو". وقد وشّح هذا المعلم تاريخ الحضارة الرومانية في إفريقية وكان قبلة الرحالة والمكتشفين عبر الزمن، ونظرًا لأهميته في تاريخ الإنسانية أدرج سنة 1979 على لائحة مواقع التراث العالمي من طرف اليونسكو.
مسرح الجم أو كما كان يسمّى عند المؤرخين العرب "قصر الكاهنة" يعتبر ثالث أكبر مسارح العالم بعد كولوسيوم روما العظيم و"كابو"
مسرح الجم يضمّ حلبة ويقع تحتها رواقان يصلهما ضوء من الفتحة الوسطى. كما يضم فتحتين من جانبي الحلبة لرفع الوحوش والمصارعين المأسورين في غرف تحتها. الحلبة لم تكن مجرّد ساحة للقتال بين الوحوش والمصارعين فحسب بل اختزالًا لثقافة الرومان وتصنيفًا طبقيًّا بين الأسياد والشعب، فنجد الشرفة الملكية وبقية المدارج الشعبية على ارتفاعات شاهقة.
وقد قام "جورديان الثاني" ( قائد روماني انتفض على إمبراطور روما) بتصميم قصر الجم بشكل تجاوز فيه كل الأخطاء الهندسية الموجودة في نظيره بروما على مستوى الشكل. وتبلغ أبعاده الخارجية 148 مترًا على 122 مترًا وأبعاد حلبته 65 مترًا و39 مترًا وتتسع مدارجه لـ35 ألف متفرج.
اقرأ/ي أيضًا: مسرح قصر الجم في تونس.. من فضاء للموت إلى منبع للحياة
وقد شهد هذا المعلم الضخم عدة معارك. وتشير مصادر إلى "أنه أثناء الفتح الإسلامي لإفريقية أوائل القرن الثامن ميلادي احتمت به الملكة البربرية "ضميا" الملقبة بالكاهنة مع جيشها لمدة أربع سنوات إثر هزيمتها في المعركة الثانية أمام القائد حسان ابن النعمان. وفي سنة 1695 تم هدم الجانب الغربي للقصر بأمر من باي تونس بعد أن اتخذ السكان هذا المعلم حصنًا لهم في ثورتهم ضد حكم الباي آنذاك".
هكذا نزلت نوائب الدهر على هذا القصر الضخم فلم يصمد كثيرًا أمام قوة الطبيعة وطبيعة الحروب، كان علامة لعظم الطموح الإنساني وصار ضحية للعنف البشري على مرّ الزمن. كما لم يسلم القصر من النهب وسرقة محتوياته وفسيفسائه ونقوشه ورخامه عبر القرون الخالية إذ كان يزخر بالقطع الأثرية النادرة التي تم نقلها فيما بعد إلى المتحف الأثري بالجم. كما تم نقل أرضيات من الفسيفساء تعكس رسوماتها الحياة اليومية لسكان روما ونمط حياتهم الاقتصادية نحو متاحف وطنية.
ولما قد أصاب هذا المعلم ما أصاب، فقد لحقه على مدى القرن الماضي بعض العناية والحفاظ على ما بقي منه وتظهر بعض الصور التاريخية سنة 1900 أن مسرح الجم كان مهملًا وقد غطت الجزء السفلي منه ركامًا من الأتربة أخفت الشكل الذي عليه اليوم.
تحول قصر الجم إلى فضاء فني باحتضانه سنويًا سهرات موسيقية تؤثثها الفرق السمفونية وقد أعطاه ذلك بعدًا عالميًا جديدًا
غير أن تحول قصر الجم إلى فضاء فني باحتضانه سنويًا سهرات موسيقية تؤثثها الفرق السمفونية قد أعطاه بعدًا عالميًا جديدًا، وصار علامة فارقة في النشاط الثقافي في تونس، و لعب أدواره المتميزة في العصر الحديث كما كان له دور في الماضي. وبقيت حلبته مكانًا للتنافس وانقلبت القيم في حلبته من إرادة الموت نحو التوق إلى الحياة.
هذا المكان الحاضن للفن والحضارة صار مؤتمنًا على وجوده من طرف كيانات عدة محلية ووطنية ودولية، لذلك صنف ضمن قائمة مواقع التراث العالمي لدى منظمة اليونسكو، فتمّت عملية الصيانة والترميم على مراحل وتحت إشراف الهياكل الرسمية المعتنية بالتراث وآخرها المعهد الوطني للتراث بوصفه مؤسسة علمية وفنية.
مدينة الجم صارت نقطة استقطاب للسياحة العالمية والداخلية، إذ يناهز عدد زوار القصر 500 ألف سنويًا
وباعتبار مدينة الجم صارت نقطة استقطاب للسياحة العالمية والداخلية، إذ يناهز عدد زوار القصر 500 ألف سنويًا، فإنه كان لزومًا معالجة المشاكل الهيكلية والمعمارية بصفة عاجلة والتخلص من بعض الرواسب الطبيعية وقساوة المناخ التي خلفت أضرارًا جسيمة بهذا المعلم.
اقرأ/ي أيضًا: أوذنة تنتفض من رماد النسيان: "مسرحي أفضل من قرطاج لكنها أحكام السياسة"
وضمن مشروع تونسي أمريكي رصدت حوالي 430 ألف دولار للقيام بإصلاحات على مستوى البنية التحتية والمعمارية وذلك للحفاظ على جمالية قصر الجم. ومن ضمن النقاط التي برمجت للتدخل حسب وزارة الشؤون الثقافية فهي ترميم وإعادة تأهيل شبكة المياه القديمة لحماية قاعدة المبنى، وترميم الأروقة التحتية الموجودة تحت الحلبة وتهذيب أرضيتها، كما سيتم ترميم و تعزيز الأقبية والأقواس الشاهقة، وتنظيف مفاصل الحجارة واستبدال التالفة منها، كما يعاد تأهيل المسالك المؤدية للطوابق العليا لتسهيل دخول وخروج الزوار.
ضمن مشروع تونسي أمريكي رصدت حوالي 430 ألف دولار للقيام بإصلاحات على مستوى البنية التحتية والمعمارية وذلك للحفاظ على جمالية قصر الجم
وستقام أيضًا جسور صغيرة للجزء المحاذي للمنصة الملكية وسيقع إنشاء مصعد لتسهيل زيارة المعلم لأصحاب الحاجيات الخصوصية علاوة على ترميم أجزاء من واجهة المعلم الأثري.
وقد صرح محمد زين العابدين، وزير الشؤون الثقافية، على هامش انطلاق أشغال الترميم في السادس من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، أن "الشراكة التونسية الأمريكية المثمرة تعكس تواصلًا مهمًا بين البلدين وتسلّط الضوء على قواسم عمل مشتركة بين وزارة الشؤون الثقافية ووزارة السياحة والصناعات التقليدية. وهدفها إعادة تموقع التراث التونسي على الصعيد العالمي، كما تعتبر فرصة لإبراز المخزون التراثي لشعوب العالم عبر التقارب الحضاري الثقافي".
ومثل هذه الشراكات الدولية قد تثير أسئلة حول دور المجتمع المدني في حماية المواقع الأثرية والمكتسبات الفنية الحضارية المميزة للمنطقة. وقد التقى "ألترا تونس" مدير مهرجان الأيام الرومانية "تيسدروس" رضا حفيظ الذي تحدث عن دور مكونات المجتمع المدني في حفظ الذاكرة والاعتناء بالتراث المادي واللامادي للمنطقة، وذلك من خلال إحياء المواريث الثقافية ومحاكاتها مثل إحياء المصارعة الرومانية وتأثيث أدوار للمصارعة بنفس المواصفات التي كانت عليها في الحقبة الرومانية وإحياء الأشكال الرياضية، بالإضافة إلى إتقان الشباب فن الفسيفساء والرسم، كل هذا ضمن الفضاء الأصلي وهو قصر الجم الذي يحتضن هذه التظاهرات مع الحرص على ترشيد العناية بمرافق القصر المادية من أسوار وأقبية ونقائش وغير ذلك، حسب تعبيره.
سفيان موسى (أكاديمي) لـ"ألترا تونس": نعتبر أن دور المجتمع المدني هو حلقة مهمة ووجب إدماجها في المنظومة التراثية في تونس
ويمكن الإشارة إلى أن مدينة الجم تعتبر من أكثر المدن في تونس التي تنتشر فيها ورشات صناعة اللوحات الفسيفسائية. وقد زوّدت السوق الداخلية والعالمية بالآلاف من اللوحات وشغلت اليد العاملة المحلية وساهمت في تعزيز الدخل الفردي، وذلك من خلال ورشات خاصة أو جمعياتية ساهمت في النشر التراث اللامادي للمدينة.
ومن النقاط المطروحة في السنوات الأخيرة دور المجتمع المدني في حماية المواقع الأثرية حتى نحمي مواريثنا من الضياع، ففي الفترات السابقة هذا الإشكال لم يطرح بالشكل الكافي. وفي هذا الإطار، اتصل "ألترا تونس" بالأكاديمي سفيان موسى رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الانسانية بسوسة الذي قال " كيف ينظر المهتمون بالتراث إلى هذا المواطن أو مجموع المواطنين حول المواقع الأثرية؟ كانت النظرة تقريبًا نظرة دونية باعتبار أن قرب فرد أو مجموعة من موقع أثري يعتبر مصدر خطر أكثر منه مصدر لحماية هذا الإرث".
وأضاف سفيان موسى "نعتبر أن دور المجتمع المدني مؤخرًا هو حلقة مهمة ووجب إدماجها في المنظومة التراثية في تونس لأن المجتمع المدني لا يزال مقصى في مجال حماية التراث وهذا الدور يقوم أساسًا على التشاركية بين المؤسسات المهتمة بالتراث وهذه المكونات. ولابد أن يضبط كل هذا في مجال القانون، فالقانون التونسي لا يزال يحدّ من دور المجتمع المدني ونلمس ذلك في مجلة حماية التراث التي تمنع المجتمع المدني من دوره في عملية الحفاظ على هذا التراث وعملية الإحصاء والترميم".
تبقى العناية بالآثار مسألة في غاية الأهمية وتحتاج إلى تظافر جهود جميع الأطراف المعنية من وزارات ومجتمع مدني وربما إلى إعادة نظر في بعض القوانين
كما نبه موسى إلى أن دور المجتمع المدني يجب أن يكون في إطار اللامركزية مشيرًا إلى أن اللامركزية مشكلة عويصة لأنها تفوق التصور. وختم بالقول "في جامعة سوسة لنا تجارب مع الجمعيات في الساحل التونسي وقمنا بعديد الندوات وخاصة في مجال الإحصاء على الأقل لكي نقوم بتوعية الفاعلين الرسميين بالأخطاء التي تحوم حول هذه الآثار".
وتبقى العناية بالآثار مسألة في غاية الأهمية وتحتاج إلى تظافر جهود جميع الأطراف المعنية من وزارات ومجتمع مدني وربما إلى إعادة نظر في بعض القوانين حتى يتمكن المجتمع المدني من القيام بدوره في هذا المجال.
اقرأ/ي أيضًا:
حديث في أحضان "سيدي محرز".. سلطان المدينة
مهرجان قرطاج الدولي.. السّياق التاريخي ومراكمة الذاكرة الثقافية