"لا أحد يرحل عن وطنهِ، إلا إذا كان الوطن فم قرش"، وارسان شاي.
انتصف الليل، وهدأت شوارع إزرنيا الإيطالية، الكل يلازم بيته إلّا أ.ج وأربع من أصدقائه الذين تسلّلوا من مركز الإيواء خلسة وجعلوا من سكّة القطار دليلًا للوصول إلى روما. ولكن "هيهات"، فأعين الشرطة الإيطالية ترصد أي تحرّك مريب. حاولوا الهروب، لكن أمسك بأربعة منهم واستطاع واحد الفرار. يغبطه الجميع، لكنهم مصرّون على المحاولة مئات المرّات حتى يجدوا لروما سبيلًا فهي المدينة المفتاح لأبواب دول الاتحاد الأوروبي.
أ.ج: لا نريد العودة إلى تونس، نحن ما يقارب 6 آلاف شخص فينا من هرب من جحيم الفقر وفينا من هرب من أحكام السجن وفينا من تداين على أمل أن تضحك له الحياة
"أرجوك بلّغي صوتنا، لا نريد العودة إلى تونس، نحن ما يقارب 6 آلاف شخص فينا من هرب من جحيم الفقر وفينا من هرب من أحكام السجن وفينا من تداين على أمل أن تضحك له الحياة فيعيد المبلغ أضعافًا. وقد منحنا الله حياة جديدة فلا تنتزعوها منّا"، هكذا كانت كلمات أ.ج المرتبكة من وراء سماعة الهاتف في محادثة لـ"ألترا لتونس" تقاسم فيها معنا رحلة أوشكت على القضاء عليه هو ومرافقيه.
كيف انطلق المركب من الشواطئ التونسيّة؟ كيف نجا الجميع من الغرق المحتوم؟ وماذا كان بانتظارهم في "فردوس" لامبيدوزا؟
شاب ميسور الحال يقرّر "الحرقة"
سنة كانت كفيلة لقلب حياة أ.ج رأسا على عقب. هو شاب عشريني، مدنينيّ المولد وصفاقسيّ المنشأ، تعرّض أخوه لحادث مميت وكانت هذه أولى حلقات سلسلة من الأحداث الأليمة التي جعلته يقرّر مغادرة التراب التونسي ولو كانت التكاليف "حياته".
اقرأ/ي أيضًا: "حمودة".. حكاية أب تحطّمت كلّ سفنه
"كنت أشتغل بصفة منتظمة في تونس واسترزق من كراء السيارات لكني دائمًا ما أتعرض لمضايقات من قبل الأمن سواء بمحاضر يومية، أو إيقاف للسيارة أو خدمات مجانية استنزفتني" مواصلًا "في تونس إذا تحب تخدم بالحلال ميخلوكش"، هكذا كان حديث أ. عن حياته في تونس عبّر فيها عن اختناقه من الأوضاع التي كان يعيش فيها رغم أنّه ميسور الحال.
ولكنّ ما كانت المادّة هي مطمح هذا الشاب بل كان يحلم بدولة يسود فيها العدل ويستطيع فيها التقدّم بخطوات ثابتة نحو حلمه.
لم يكن أ. يفكّر يومًا في ترك عائلته خاصّة وأنّه الابن المدلّل لأمّه، ولكن فكرة "الحرقة" أصبحت ترافقه نهارًا وتؤرّقه ليلًا إلى أن اجتمع مع ثلّة من أبناء "حومته" وبدأ التخطيط للعمليّة.
لم يكن أ.ج يفكّر يومًا في ترك عائلته خاصّة وأنّه الابن المدلّل لأمّه
انطلقوا في جمع المال الكافي لشراء قارب ومحرّكين وما يلزمهم من الوقود والعتاد. كان نصيب الواحد منهم ثلاثة آلاف دينار ولكن "تآزر المحن" جعل ميسور الحال يساعد فاقد المال. وسرّبت المعلومة بين الثقات واكتمل النصاب باثنتي عشرة شخص وثلاثة أطفال من بينهم بحّارة ومحكومين بالسجن وعائلة كاملة الأفراد وثلّة من الشباب الحالمين بالنعيم الأوروبي.
وقع الاتفاق على يوم 23 جويلية/يوليو موعدًا للانطلاق بعد تدارس الطقس وحالة البحر، غير أنّ الأقدار شاءت غير ذلك فـ"تفسكرت الحرقة" بقدوم الأمن الذي كان يحرس الشواطئ.
يحدّثنا أ. عن أولى عثراتهم قائلًا:" فوجئنا ليلتها بتواجد أمني مكثّف، لكن لا مجال للتراجع فالكلّ مصمّم على المغادرة. أمضينا الليلة مختبئين في العشب حتى الثالثة صباحًا، ثم عدنا أدراجنا لمنازلنا متّفقين على الالتقاء في اليوم الموالي".
مغامرة الموت إلى "الجنة"
في يوم 24 من جويلية/يوليو على الساعة السابعة مساء، انطلق المركب مثقلًا بأحلام راكبيه ومعتمدًا على بوصلة بحاريه وثابت بدعوات مَكلوميه.
يصف لنا أ. حيثيات الخروج: "كانت انطلاقتنا مفعمة بالحماس والأمل، تؤنسنا ضحكات أطفال لم يبلغ عمر الكبير فيهم الثلاث سنوات. ألم أقل لك أننا بلغنا من اليأس عتيًا؟ فكيف لأب أن يمضي بأطفاله للمجهول لولا ضنك المعيشة".
هاجر أ. ج ورفاقه إلى لامبيدوزا عبر قارب صيد في جويلية 2020
عند الوصل لمياه الشابة، كانت العثرة الثانية في انتظارهم فالحرس البحري مرابط يحرس البحر. فهل سيعود المركب أدراجه؟ هل وُئد الحلم في المهد؟
يجيبنا محدثنا قائلًا: "لبثنا في البحر ما يقارب الأربع ساعات، كانوا بطول أربعة أيام، بين تردد وخوف من أن يقبض علينا إلى أن جاءت ساعة الفرج عند حضور دورية المناوبة، وقتها فقط استطعنا التوغل".
أربع وعشرون ساعة كانت كفيلة بوصول المركب للمياه الإقليمية رغم أن المعدل العادي للوصول هو سبعة عشرة ساعة.
عشرة أميال تفصلهم عن لامبادوزا، عشرة أميال تفصلهم عن تحقيق الحلم المنشود ولكن قانون البحر كان عثرتهم المميتة. وإله البحر هو الطقس يحركه كيفما يشاء، وهنا كانت المفاجأة على حسب سرد محدثنا للأحداث:" تغيرت الأحوال الجوية وتلاطخنا الموج من كل صوب، موج كاد أن يكتم أنفاسنا ويدفن قصصًا من فرط ما أوجعت ما عادت تعنيها الحياة".
الشاب "الحارق": بلادنا ليست سيئة لكن أناسها ومسؤوليها هم السيئون، ولا يقامر بحياته إلا من خسر كل شيء
اقرأ/ي أيضًا: "الحرقة" في تونس: بين انتشارها كثقافة شبابية جديدة.. وظاهرة "الفراريزم"
"النفس عزيزة"، ومهما بلغ اليأس بصاحبه فلحظة الموت جليلة تجعلك تنتظر معجزة من السماء، إذ تعالت الصرخات والدعوات مع تعكر الطقس، مشهد سريالي موجع يتعانق فيه الأب والأم ويتوسطهما الأبناء، الكل خائف ويبكي، وينتظر رحمة من السماء.
وكان الرحمة في شكل فكرة، حيث قام أ. ورفاقه بربط ملابسهم بعصي وأشعلوا النار بها لمدّة ساعتين علّ الطرف الإيطالي يتفطّن لوجودهم، وبالفعل كان النجاة بقدوم السلطات البحريّة الإيطاليّة لانقاذ الجميع.
استرجع أ. هذه اللحظات قائلًا:" لقد منحنا حياة جديدة والحمد لله فقد نظر الله لتلك الملائكة التي ترافقنا، وقد عاملونا بكلّ لطف ووفّروا لنا كلّ الظروف لإقامة مريحة. فكلّما كنت ليّن الطباع معهم كلّما أحسنوا معاملتك ولكنهم يستعملون العنف فقط عندما يقع استفزازهم".
الطريق إلى روما
الوصول إلى التراب الإيطالي لم يكن نهاية رحلة العذاب، فهناك "ذراعك يا علاّف" الكلّ يسعى للهرب وتأمين حياة أفضل له.
نُقل أ. ومن معه لمدينة سيسيليا من ثم لمدينة ايزرنيا التي تبعد قرابة الألف كلم على روما، وهناك قام بعديد المحاولات للهرب وباءت أغلبها بالفشل.
مازال يسعى للوصول إلى روما
وواصل محدّثنا حديثه قائلًا :"جائحة الكوفيد جعلت مسألة تنقلنا صعبة جدًا فالكل خائف من العدوى ولكننا مسألة وصولنا إلى روما حتميّة لأنها مفتاحنا لبلدان الاتحاد الأوروبي، فهي مليئة بالجاليات العربية".
يستمرّ: "فور وصولك لروما، يعرفون أنّك "حراق" لذلك يساعدك الجميع إما بالأكل أم بالمبيت أو يساعدونك لإيجاد "خيط" لمغادرة البلد. وليس الكل سليم النيّة، فهناك من يستدرجك لطريق الخطر، طريق"البيضاء والبياسات" ولك حريّة اختيار عاقبتك".
وختم أ. ج مكالمته معنا بعبارة قد تجد بين حروفها مبرّرًا لهذه المقامرة :"بلادنا ليست سيئة لكن أناسها ومسؤوليها هم السيئون، ولا يقامر بحياته إلا من خسر كل شيء".
اقرأ/ي أيضًا: