مِهْذارون، متهوّرون، انتهازيّون، متراخون، "بيّوعة"، سوّاحون بين الكتل والأحزاب، هذه بعض الألقاب التي يتنابز بها عدد كبير من ممثّلي مجلس نوّاب الشّعب في حِواراتهم، خاصّة حينما يضطرم فيها سعير السِّجالِ، وينبعث منها لهيب السِّباب، وقد كان لهم في سابقيهم من أعضاء المجلس الوطني التأسيسيّ أسوة في المُجادلة والمُهاترة، ممّا حوّلهم إلى موضوع سخرية وتهكّم ومفاكهة.
إذْ ترك هؤلاء وأولئك في عامّة الشّعب ومثقّفيه انطباعات مثيرة تنطوي على خيبة ودهشة، خيبةٍ خلّفتها بعض التّجاوزات الخطيرة والمواقف السّخيفة والمشاهد العنيفة التي عرضتها القناة الوطنيّة الثّانية عرضًا مباشرًا وتناقتلها المنوّعات والبرامج التحليليّة والحواريّة ومواقع التوّاصل الاجتماعيّ في شكلٍ مُرَكَّزٍ، أمّا الدّهشة فمردّها المقارنة بين المثالِ والمُنْجَزِ، أو بين الانتخاب مفهومًا وقيمة ومقصدًا وما تُفرزه الصناديق من نوّاب ونائبات فيهم عدد من المضطربين فكرًا وسلوكًا وخطابًا.
لا شكّ أنّ العديد من النوّاب يتّصفون باللّياقة وحسن التدبير وسلامة التّعبير، لكنّ هذه الخصال لا تستحقّ التّنويه والثّناء، فتلك ثوابت لا يقوم الواجب إلّا بها، فلا شُكر على واجب.
اقرأ/ي أيضًا: انتخابات 2019.. ماذا لو لم يحكم أحد؟
كَمَنْ يبني للخراب
جاء في لسان العرب لابن منظور "انتخب الشّيءَ اختاره، ونُخبة القوم خيارهم والانتخاب الاختيار والانتقاء..." ( طبعة الدّار المصريّة للتّاليف والتّرجمة، الجزء الثّاني، ص. 249). بصرف النّظر عن الكثير من التّفاصيل يماثل هذا الضّبط المعجميّ جلّ التّعريفات الاصطلاحيّة في اعتبار "الاقتراع" سبيلًا إلى اصطفاء الأفضل وترشيح الأزكى واجتباء الأنفع والأمثل.
حالنا ونحن نشاهد العيوب في مجلس نواب الشعب بعد كلّ مجهود انتخابيّ كحال من "يبني للخَرابِ" هل يرجع الأمر إلى خلل في النّظام الانتخابيّ أم يعود إلى قصور في النّاخب؟
إذا كان جوهر الانتخاب ومقصده على هذا النّحو، فما الذي يفسّر بعض المخرجات الرّديئة والنتائج المفزعة قياسًا إلى الاحتياطات المتّخذة والاعتمادات المرصودة التي بلغت سنة 2014 حوالي مائة مليون دينار، فحالنا ونحن نشاهد تلك العيوب في مجلس نواب الشعب بعد كلّ مجهود انتخابيّ كحال من "يبني للخَرابِ". هل يرجع الأمر إلى خلل في النّظام الانتخابيّ، أم يعود إلى قصور في النّاخب؟ لكن قبل الإجابة عن هذه الأسئلة التّقيمييّة أحْوِج بنا أن نتساءل عن أوكد المخاطر التي تتهدّد الانتخابات التونسيّة وتنذر بصعودٍ جديد لنوّاب لا يتناسب حضورهم إلّا مع المقامات الهزليّة أو الانتهازيّة؟
هواجس التّمويل والتّزوير
يعدّ التزوير من أشدّ المخاطر التي تحرص المعارضة على التنبيه إلى خطورته خاصّة في الأنظمة الدكتاتوريّة أو الديمقراطيّات النّاشئة، لذلك تتعالى قُبيل كلّ انتخابات أصوات تشير إلى مغبّة وقوع عمليّات تزوير. وقد بدا المنصف المرزوقي رئيس حزب الحراك الأشدّ تحفّزًا لمواجهة أيّ محاولة لتزييف النتائج، عبّر عن هواجسه قائلًا خلال إشرافه على اجتماع شعبيّ ببنزرت يوم 20 أفريل/ نيسان 2019 "لا تُعوّلوا على قبولي التزوير بتعلّة الحفاظ على الأمن العامّ". ولئن ركّز المرزوقي على هذا الخطر الإداريّ والأخلاقيّ، فقد انشغل محمّد عبّو زعيم التيّار الديمقراطي بمعضلة استفادة بعض الأحزاب من التمويلات الأجنبيّة معتبرًا هذا التّجاوز بمثابة التآمر مع مخابرات أجنبيّة على حد تعبيره.
بصرف النّظر عن نوايا المرزوقي وعبّو من هذه التّصريحات، فإنّ الجامع بينهما التركيز على مسائل يمكن التّصديّ لها بتشديد المراقبة وتفعيل القوانين، في المقابل يُفترض في هذا المقام التّحليليّ التوسّع في مخاطر نراها مزمنة وأعمق وأشدّ تشعّبًا وتعقيدًا سمّيناها "الجيمات الثلاث" إشارة إلى الحرف الأوّل الذي يجمع بينها، وهي الجوع والجهل والجشع.
الجوع خزّان انتخابيّ
باتت الخصاصة أعدل الهموم توزيعًا بين جلّ المواطنين خاصّة في المدن الداخليّة وقُراها، إذ بلغ عدد المحتاجين في القيروان وفق أرقام رسميّة حوالي 200 ألف أكثرُ من رُبعهم تحت خطّ الفقر أي مهدّدون بالجوع. ولا تختلف عاصمة الأغالبة عن القصرين فقد تخطّت نسبة البطالة في هذه المدينة العشرين في المائة، وبلغ عدد الفقراء 145ألف ساكن ثلثهم في عداد البؤساء، وما تزال مدن سليانة وباجة وجندوبة تتخبّط في قاع العَوَزِ منذ عقود رغم كرم الأرض وجود السّماء.
الفقر في تونس يثير شفقة النّفوس الصافية غير أنّه يمثّل ثروة سياسيّة بالنّسبة إلى المتنافسين في الانتخابات البرلمانيّة والرئاسيّة
الفقر في تونس يثير شفقة النّفوس الصافية غير أنّه يمثّل ثروة سياسيّة بالنّسبة إلى المتنافسين في الانتخابات البرلمانيّة والرئاسيّة، فالنّاظر في خطاب اليساريين والإسلاميين وحتّى الّليبراليين يلاحظ الحضور المكّثف لعبارات التضامن مع هذه الفئة التي باتت لكثرتها الكتلة الاجتماعيّة المساهمة في تحديد مسارات الاقتراع ومصيره، وهو ما يرقى إلى مرتبة الخطر الذي يهدّد سلامة التّصويت وموضوعيّته. جاء في مقدّمة كتاب "صناعة الجوع" للباحثين فرانسيس مولارييه وجوزيف كولينز ما معناه أنّ "من يتحكّم في قوت المواطن قادر على التّحكّم في فكره".
اقرأ/ي أيضًا: لماذا لم يقع حلّ الأحزاب التي لم تكشف مصادر تمويلاتها؟
يؤكّد العديد من المتابعين متاجرةَ السياسيين بهموم المحتاجين. فقد اتّهم خصوم النّهضة الحركةَ بتقديم مساعدات للفقراء قبل الاقتراع سنتي 2011 و2014 منها "علّوش العيد وقفّة رمضان" وغيرها من "الصدقات التي تؤتي أجرها أضعافًا في الانتخابات". ورأى بعض المحلّلين أنّ الباجي قائد السّبسي رئيس الجمهوريّة قد تعمّد التّكلّف والتّصنّع حينما خاطب جمهورًا من المحتاجين أثناء حملته الرئاسيّة قائلًا: "قَلْبِي يِبْكِي عَلَى الوَضْعْ اللِّي نَحْنَ فِيهْ... النساء، قفه فارغة، وحده مِنْهمْ قالتلي أحنا ثلاثة أشهر ما كليناش اللحم" ثمّ مسح دموعه في تأثّر بالغ.
وقد ًتوخّت الجبهة الشعبيّة نفس السّرديّة تقريبًا، فلطالما نبزها مناوؤوها بحكاية زعيمها حمّة الهمّامي عن "ارتفاع سعر الفلفل وتذمّر الخالة امْباركه من غلاء المعيشة". أمّا الحديث عن الزّوّالي (الفقير) فقد مثّل العنوان الأكثر تواترًا في مداخلات الهاشمي الحامدي رئيس تيّار المحبّة، وهكذا أصبح هذا المُرتكز الاجتماعيّ أقوى تأثيرًا في النّاخبين من وعد المتديّنين بالجنّة الإلهيّة وإغراء النّساء ببلوغ منتهى المساواة والحريّة.
ارحمهم ولا تؤمن بهم
تفطّن نبيل القروي صاحب قناة "نسمة" كسابقيه إلى هذا الخزّان الانتخابيّ السّحريّ، فراهن على "استجداء" أصوات الفقراء والمساكين والمعوزين، وبلغ هذا الرّهان ذروته حينما دخلت "قناة العائلة" في معركة مع الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السّمعي والبصريّ في أفريل/ نيسان 2019، إذ عمد القروي إلى تمرير تذمّرات المحرومين وحسرتهم على "مُطعم الجياع". وصاغ المتدخّلون احتجاجاتهم في عبارات تقطر حزنا ووشجًا وتنضح مدحًا وثناءً من قبيل" نْحبّو نِسْمَهْ اللِّي تْعاون الزوّالي و"ثمّه ناس تْعَيْدِلْهَا نسمة".
هذه الخطّة ذات المنحى الإشهاريّ الانتخابيّ سرعان ما آتت أكلها، فقد كسب نبيل القروي "صوت الجياع" في وقت قياسيّ إذ صعد أثناء هذه "المحنة الإعلاميّة" إلى المرتبة الثّانية في سلّم المرشّحين لرئاسة الجمهوريّة بنسبة 8.1 في المائة متقدّمًا على قيس سعيّد أستاذ القانون الدّستوريّ، ومنافسًا يوسف الشّاهد صاحب المرتبة الأولى وفق نتائج البارومتر السّياسيّ لمؤسّسة "أمرود كونسلتينغ" لشهر ماي/آيار 2019.
تفطّن نبيل القرويّ صاحب قناة نسمة كسابقيه إلى هذا الخزّان الانتخابيّ السّحريّ فراهن على "استجداء" أصوات الفقراء والمساكين والمعوزين
هذا الصّعود المفاجئ يؤكّد أنّ "الجائع" لا يفكّر في البرامج التي تضمن ديمومة التنمية ولا تعنيه كثيرًا الخطط بعيدة المدى، شعاره "أحييني اليوم، واقتلني غدوه"، وهو ما يمكن أن يمثّل مصدر إحباط بالنّسبة إلى العديد من المتحمّسين لتحويل مقاومة الفقر في تونس من مجرّد شعارات انتخابيّة أو مواقف عاطفيّة إلى خطّة وطنيّة. ففي كلّ مرّة يخذل الفقراءُ أنصارهم من المتحمّسين لمبادئ العدالة الاجتماعيّة، فتنكسر طموحات الحالمين بثورة الجياع، ويُعلن عدد منهم بعض المواقف الفكريّة المتطرّفة اليائسة من العامّة والمساكين في كلمات تُحاكي عبارة "ارحمهم ولا تؤمن بهم" التي قالها البطل بعد أن خذلته الجماعةُ في رواية "حدّث أبو هريرة قال.." للأديب محمود المسعدي.
اقرأ/ي أيضًا: ملف خاص: كيف سننتخب؟
رأسُ المالِ جَشِعٌ
لئن فرّط العديد من الفقراء في أصواتهم مقابل بعض المساعدات العينيّة والحلول الآنيّة، فقد بدا رجال الأعمال أحرص على ضمان أوفر الثروات وأدوم المكاسب. فمنذ انتخابات 2014 شرعوا في تأمين مصالحهم بطرائق ذكيّة وناجعة، فبعد أن كان تأثيرهم في مراكز القرار خفيًا سِرّيًا نافذًا من وراء السّتار أقدموا على التدخّل المعلن المباشر.
فقد أصبح أكثر من عُشُر مجلس "نوّاب الشعب" يتكوّن من رجال أعمال وشكّلوا "كتلة مُضْمَرَةً" مبثوثة في جلّ الأحزاب بنسب متفاوتة (نداء تونس، تحيا تونس، النهضة، آفاق تونس إلخ). ويقوم دليلًا على ذلك حفل الاستقبال الذي نظّمه الاتحاد التونسي للصناعة والتّجارة والصناعات التقليدية "لممثّلي منظّمة الأعراف في مجلس النوّاب"، وقد دعتهم وداد بوشمّاري آنذاك، إلى مساندة التّشريعات التي تخدم مصالح رجال الأعمال، فتمكّنت هذه الفئة من بسط سلطانها التّشريعيّ بهدوء وبرود من خلال مراجعة مجلّة الاستثمار وبعض المشاريع الجبائيّة.
الاستثمار في الجهل
يراهن بعض المتعطّشين إلى السّلطة على الاستثمار في الجهل، فنسبة الأميّة في سليانة والقيروان والقصرين وجندوبة تفوق الثلاثين في المائة، لكنّ الأخطر من ذلك يتمثّل في حرص أصحاب المصالح على "إدارة الفهم" والاستفادة من تراجع الفكر النّقدي وانتشار التهافت والسّطحيّة والفتنة والمغالطات والفبركة والتّضليل. وقد بلغ هذا الانحدار التّواصليّ والإعلاميّ مبلغًا جعل بيانات الرّدّ والتّكذيب الأكثر تواترًا في ما يصدر عن الأحزاب والشخصيّات العامّة. ويقول أحد الباحثين في "صناعة الجهل": "الجهل ليس انعدام المعرفة فقط بل هو منتج يتمّ صنعه وتوريده لأهداف مخصوصة غالبا سياسيّة أو تجاريّة".
يراهن بعض المتعطّشين إلى السّلطة على الاستثمار في الجهل ويحرص أصحاب المصالح على الاستفادة من انتشار المغالطات والتّضليل
تُفضي هذه الصناعة في الغالب إلى شحن ذهن المواطن بأفكار متضاربة متداخلة من خلال بعض المنوّعات والبرامج الحواريّة، فيخلّف فيه ذلك المشهد المرتبك خوفًا وشكًا وحيرة يدفعه إمّا إلى الإعراض عن الانتخاب، أو إلى التّصويت بأسلوب عشوائيّ، أو اختيار الأقدر على إيهامه بالنجاة والاستقرار.
بناء على هذه المعطيات، يحقّ لنا القول إنّ حماية الانتخابات تقتضي قبل العناية بالجانب التشريعيّ والتّنفيذيّ إخراج المواطن التونسيّ من الخصاصة حتّى لا يظلّ صوته سِلعة تُباع وتُشترى، والعمل على النهوض به ذهنيًا حتّى يمتلك فكرًا نقديًا يخوّل له الاختيار الحرّ، فلا حريّة ولا ديمقراطيّة في ظلّ "الجيمات الثلاث" أي جوع الفقراء، وجهل العامّة، وجشع السّاسة ورجال الأعمال.
اقرأ/ي أيضًا:
عن "القوّاد" و"الصبّاب": آفة الوشاية في تونس من الاستبداد إلى الحرية (2/1)
عن "القوّاد" و"الصبّاب": آفة الوشاية في تونس من الاستبداد إلى الحريّة (2/2)