01-أغسطس-2019

قائمة السياسيين الذين تعرضوا لحوادث طرد تشمل كل الألوان السياسية والأيديولوجية (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

لا يستطيع جلّ السياسيين في تونس الظهور في الأماكن العامّة دون التعرّض إلى الطرد والمضايقة، هذا ليس مجرّد تخمين أو رهان، إنّما هو حقيقة تؤكّدها الأخبار والوقائع والعيان. فقد بات السّاسة بعد الثورة سواء كانوا في السلطة أو في المعارضة ممنوعين من التنقّل العفويّ في الساحات العامّة، إذ فرضت عليهم فئات من الشعب لونًا جديدًا من الإقامة الجبريّة، وجعلت تنقّلاتهم محدودة مشروطة محميّة.

بات السّاسة بعد الثورة ممنوعين من التنقّل العفويّ في الساحات العامّة إذ فرضت عليهم فئات من الشعب لونًا جديدًا من الإقامة الجبريّة

لا يستأمن هؤلاء السّاسة غير أنصارهم وأتباعهم ومريديهم، ولا يحلّ ركبهم في الاجتماعات الشعبيّة إلّا بعد جهد استثنائيّ لتجنّب الدخلاء والمناوئين من الأعداء أو الخصوم أو من المنشقّين والمغتاظين.

في فترة "الترويكا"، كان اليساريّون ورموز المعارضة يتّهمون رابطات حماية الثورة بإفساد اجتماعاتهم وتعطيل مسيراتهم، لكن سرعان ما اكتشف التونسيّون أنّ السّخط على السياسيين بات بعد الثّورة أعدل آيات الرفض توزيعًا بين الأحزاب والعديد من الشخصيات، وتبيّن للجميع أنّ مصادر هذا الرفض عديدة وروافده متنوّعة وأهدافه متباينة.

"لولا كثرة الباكين حولى لقتلت نفسي"

ليس أخطر من أن يُهان السياسيّ ويطرد بين الجماهير، فهم يمثّلون رأسماله الانتخابيّ والرمزيّ وعليهم رهانه، وإليهم تتّجه تطلّعاته، لذلك يحرص "الزعماء المنبوذون" على التخفيف من حدّة هذا الإذلال إمّا بادّعاء التعرّض إلى مؤامرة واتّهام المحتجّين بكونهم مأجورين، وإمّا باعتبار الموقف ظاهرة عامّة كونيّة، فكأنّ الرفض والامتعاض قَدر لا فكاك منه بالنسبة إلى كلّ السياسيين.

اقرأ/ي أيضًا: اليهود في الحياة السياسية التونسية.. حضور محتشم ومحاولات للتوظيف

هذا التّفسير يُحدث في "المطرودين" ضربًا من العزاء مستأنسين بالمثل الشعبيّ التونسيّ " اخزر (انظر) لغيرك واستراح" ولسان حالهم يردّد كلام الخنساء الشاعرة العربيّة المخضرمة "ولولا كثرة الباكين حولي لقتلت نفسي".

لا شكّ أنّ نبال الطرد قد أصابت جلّ السياسيين بعد الثورة، إذ طالب طالت زعيم حرب حركة النهضة راشد الغنوشي أكثر من مرّة، ففي 25 أفريل/نيسان  2018 سأله بعض الخصوم الرحيل لمّا قدم إلى سيدي بوسعيد بمناسبة الحملة الانتخابيّة للمجالس البلديّة، وتكرّر نفس الحرج بأكثر حدّة في 17 فيفري/شباط 2019 بالمكنين حينما قصدها لتجديد هياكل الحركة.

محتجون يهتفون ضد رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في المكنين

ولم ينج رئيس الجمهوريّة السابق المنصف المرزوقي من هذا الدّحر، فقد منعته مجموعة من المناوئين من دخول إذاعة المنستير في 30 أكتوبر/تشرين الأوّل 2019، وذاقت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين نفس المرارة لمّا تصدّى لها عدد من عائلات شهداء الثورة وجرحاها بالقصرين في جانفي/كانون الثاني 2017.

ورغم ما يتّصف به الاتحاد العام التونسي للشغل من قوّة تنظيميّة وتأطيريّة، فإنّ سيل الامتعاض والاستنكار كاد يجرف العديد من رموزه، ففي ماي/أيار 2012 بمنطقة الحامّة رفع عدد من الشبان شعار "ديغاج" في وجه أمينه العام وقتها حسين العبّاسي، وأردفوه بعبارات من قبل "لا ستالين لا لينين، الاتّحاد ملك الشغّالين"، فتأكّد حينها أنّ دوافع الاحتجاج كانت سياسيّة، وتكرّر نفس السيناريو في نفس المنطقة مع حمّة الهمّامي في 22 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2014.

أنا سياسيّ إذا أنا مطرود

شعار "ديغاج" لم يعد له لون مخصوص أوجهة أو دين أو حيّز، إذ لم يكُفَّ عن قصف السّاسة مهما علا مركزهم، فقد بلغت إيقاعاته المُربكة رئيس الحكومة يوسف الشاهد أمام مركز ولاية تطاوين بُعيد اجتماعه مع معتصمي الجهة في أفريل/ نيسان 2017. ولم يكد يخلو اجتماع من اجتماعات رئيسة الحزب الدستوريّ الحر عبير موسي من المضايقة، إذ طُردت من القصرين في أفريل/ نيسان 2017 ، وتكرّر المشهد في سيدي بوزيد في مارس/ آذار 2019.

طرد رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي في سيدي بوزيد

ولم يختلف مصير نبيل القروي رئيس حزب قلب تونس عن غيره من الساسة، فقد تمّ إذلاله في حيّ هلال من ولاية تونس في ماي/ آيار 2019 ، وخاطبه شابّ قائلًا:  نموت بالشرّ ( الجوع) وماناكلش من عندك" فحدّ ذلك من تحرّكاته التلقائية خاصّة في الأحياء الشعبيّة.

طرد رجل الأعمال والمرشح الرئاسي نبيل القروي

قائمة المطرودين ظلّت تتّسع شيئًا، فقد طالت بأسلوب أشدّ عنفًا علي العريض وعبد الحميد الجلاصي القياديين في حركة النهضة، وذلك يوم 26 أفريل 2019 بكليّة الآداب بمنوبة في سياق تقديم ندوة علميّة حول الإسلام السياسي.

بيِّنٌ من خلال النماذج المذكورة وغيرها من الأمثلة أنّ الطرد منذ 2011 قد شهد وجهات متحوّلة نسبيًا، فقد طال في البداية رموز النظام السابق ثمّ أخذ قبيل انتخابات 2011 وبعدها منعرجًا آخر ليخنق اليساريين وبعض النّقابيين، وبداية من أواخر 2012 بدأ التّضييق يتركّز على المحسوبين على "الترويكا" والنهضويين خاصّة، أمّا بعد 2014 فقد أصبحت شظايا الطرد تصيب غالبيّة السياسيين من كلّ الأطياف والتّوجّهات حتّى أصبحت لازمة من لوازم اجتماعاتهم وتنقلاتهم، أو قُل هي بمثابة نوع من أنواع حوادث الشغل الحزبيّ، حتّى كدنا نطلق "كوجيتو" جديدا عنوانه "أنا سياسيّ إذا أنا مطرود".

ويبلغ هذا الطرد والنّبذ والاستخفاف ذروته على صفحات فيسبوك، فما من خبر يتصدّره أحد السياسيين حتّى يكون مشفوعًا بمئات التعليقات التي تتمحور حول "فساده وكذبه وتاريخه المظلم وحاضره غير المشرّف" .

شعار "ديغاج" لم يعد له لون مخصوص أو حيّز إذ لم يكُفَّ عن قصف السّاسة مهما علا مركزهم إذ شمل رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي

اقرأ/ي أيضًا: الاختلاف حول تسمية الأنهج والشوارع في تونس: ترف ثقافي أم معركة سياسية؟

تأكيدًا لذلك، يمكن الاستناد إلى عيّنتين على سبيل المثال، ففي 25 جويلية/يوليو 2019 صدر على صفحة فيسبوك لإحدى الصحف عنوان يتّصل بترشّح فاطمة المسدي، البرلمانية على قائمة نداء تونس عن صفاقس، في حوالي عشرين دقيقة أحصينا ما يزيد عن ثلاثين تعليقًا اثنين فقط منها خلت من السباب والتهكّم.

العينة الثانية في نفس الصفحة ترتبط بخبر حول ترؤس أنس الحطّاب، البرلمانية أيضًا عن نداء تونس بالقيروان، فقد لاحظنا أنّ المائة والخمسين تعليقًا الأولى قد غرقت في الكلام الجارح والشتيمة والاتهام السياسي والأخلاقيّ، وبصرف النظر عن مقصد الإثارة والمرمى التّجاري من ترك التعاليق دون غربلة رغم تضمّنها مفردات وعبارات موغلة يحقّ لنا القول إنّ فيسبوك قد مثّل شأنه شأن الساحات العموميّة منبر طرد وثلب وتخوين لجلّ السياسيين.

حينما يعمّ السخط على السياسيين في مختلف مواقعهم ومقاماتهم وهيئاتهم، وعندما تتراجع نسبة المشاركة في التّصويت الانتخابيّ يأخذ التحليل بعدًا أكثر تجريدًا، فلا ترتبط الفرضيات والنتائج بهذا الحزب أو تلك الشخصيّة، إنّما تنحو منحى شاملًا يتّصل بالسياسة والسياسيين عامّة، وبناء على ذلك يمكن الانتهاء إلى تفسيرين لحالة "السياسيّ المطرود" من الساحات والنفوس.

الناظر في قائمة المطرودين واجد عددًا من المناضلين عانوا السجن والإقامة الجبريّة في عهد بن علي فحَسبوا أنّ سقوط رأس النظام كفيل بجعلهم يلتذّون بحريّة التنقّل والاحتكاك بالعامّة

الأوّل يتّصل بخيبة الظنّ في الأحزاب التي غرقت في الصراعات الضيقة وأظهرت أشكالًا من التهافت والأنانيّة وتوخّت في خطابها الإيهام والمغالطة ممّا عطّل مصالح المواطنين وعبث بآمالهم وتطلّعاتهم.   

أمّا التّفسير الثاني فهو مرتبط بخلفيّة فكريّة مترسبة في العقل العربيّ منذ قرون، فقد علقت بذهن المواطن صورة نمطيّة للسائس اقترنت بالكذب والفساد ونقض العهود، عبّرت عن ذلك حكم وأمثال ومواقف عديدة منها ردّ مصطفى لطفي المنفلوطي الأديب العربيّ على سؤال حول إعراضه عن الخوض في السياسة قائلًا: "يعلم الله أنّي أبغض السياسة والسياسيين وأهلها بغضي للكذب والغشّ والخيانة والغدر".

"وسترجع يومًا مهزومًا مكسور الوجدان"

الناظر في قائمة المطرودين واجد عددًا من المناضلين عانوا السجن والإقامة الجبريّة والرقابة والتهجير في عهد بن علي، فحَسبوا أنّ سقوط رأس النظام كفيل بجعلهم يلتذّون بحريّة التنقّل والاحتكاك بالعامّة، فكانت النتيجة بعد الثورة الوقوع في ضرب آخر من الحصار والتضييق يبدو أخطر.

فغطرسة الحاكم المستبدّ تخلّف في المناضل جروحًا ماديّة وجسديّة غير أنّها تثمر منزلة اعتباريّة رفيعة، أمّا سطوة الجمهور وسخط الشعب وغضب المواطنين ولذعتهم، فهي ردود أفعال تورث في السياسيّ حرجًا نفسيًا وشعورًا بالخيبة والإحباط. فليس أقسى من تحوّل هذه الشخصيّات من دكتاتوريّة النظام إلى تجاسر "العوام"، فيصبح البحث عن الحريّة أشبه بالسراب، فقد شعر المناضلون بالزهو والانعتاق عشية رحيل بن علي عشيّة 14 جانفي/كانون الثاني 2011، ولكن سرعان ما راودتهم أنشودة الانكسار، كأنّ قارئة الفنجان تردّد على مسامعهم "وسترجع يومًا يا ولدي مهزومًا مكسور الوجدان".

لا شكّ أنّ كلّ السياسيين بعد الثورة قد تأذّوا من الطرد في الساحات العامّة وفي المواقع الافتراضيّة وهذا الانفلات حثّ البعض على هجر الشأن العامّ حفظًا لمقاماتهم الأكاديميّة والثقافيّة والعلميّة والإبداعيّة

ظنّ مناضلو الأمس والكتّاب والإعلاميون والمبدعون أنّ بن علي ونظامه كانا يمثّلان العقبة الوحيدة أمامهم لإدراك الحدّ الأدنى لشروط التواصل السياسيّ والفكريّ والإبداعيّ، فتبيّن لهم أنّ الشعب بمختلف فئاته محكوم بثقافة الإقصاء والمنع والتشهير.

لا شكّ أنّ كلّ السياسيين بعد الثورة قد تأذّوا من الطرد في الساحات العامّة وفي المواقع الافتراضيّة، هذا الانفلات حثّ البعض على هجر الشأن العامّ حفظًا لمقاماتهم الأكاديميّة والثقافيّة والعلميّة والإبداعيّة. كما دفعت فوضى الانتقاد الجارح المتعسّف المبتذل العنيف الكثير إلى المطالبة بتشديد الرقابة ومحاسبة المحتجّين الشتّامين خاصّة على شبكات التواصل الاجتماعيّ.

ورغم وجاهة هذا المطلب، إلّا أنّ المتوجّسين من عودة الاستبداد مازالوا في خشية من تحويل بعض القوانين إلى مطيّة لتكميم الأفواه شعارهم في هذه المرحلة الانتقاليّة حريّة مشوبة بالاضطراب أفضل من نظام متغطرس بلا رقيب ولا حسيب، ذلك أنّ الحريّة حمّالة في ذاتها لجينات التعديل الذاتي والتهذيب والحدّ من شوائب الفتنة والفوضى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن "القوّاد" و"الصبّاب": آفة الوشاية في تونس من الاستبداد إلى الحرية (2/1)

عن "القوّاد" و"الصبّاب": آفة الوشاية في تونس من الاستبداد إلى الحريّة (2/2)