27-أكتوبر-2016

سوق دوز هو تجمع ثقافي قبل كل شيء (الترا صوت)

هناك أكثر من مكان في مدينة دوز، 540 كيلومترًا جنوب تونس العاصمة، يمكننا أن نختزلها فيه، ويأتي في طليعة هذه الأماكن سوقُها الذي يقع في قلبها، فمنه الانطلاق إلى أزقتها وضواحيها ومنها إليه، فكأنه القافية في القصيدة العربية القديمة.

المرازيق، وهم سكان دوز، من العرب الأقحاح، يتغنّون بالسيف والبندقية في أشعارهم ليلًا، ويستعملونهما صباحًا

سور متوسط الطول وثري بالأقواس والمحالّ التجارية، يمكنك الدخول إلى ساحته المبلّطة والمزيّنة بشجرتي طرفاء معمّرتين من أربعة أبواب، ممّا يعطيك انطباعًا بأنك تغشى زمنًا من القرون المنصرمة، أو زمن الأبيض والأسود في الأفلام الشرقية، خاصّة حين تغزو أنفَك رائحةُ القهوة المعدّة على الجمر، تسمّى "الجزوة"، من مقهى الأقواس، الذي يستقطب نخبة المدينة من الفنانين، وتغزو عينيك مناظرُ الأفرشة والألبسة والأحذية التقليدية من دكاكينها المتعدّدة.

اقرأ/ي أيضًا: اللاقمي في الجزائر وتونس.. مشروب بوجهين

أنجزت السوق في الفترة الفرنسية عام 1910، بالموازاة مع إطلاق "مهرجان الجمل"، الذي أصبح يُسمى "مهرجان الصحراء"، في فترة الاستقلال الوطني، حتى يتمّ تجميع الأهالي في مكان واحد، ويسهل التحكم فيهم، بعد أن أثبتوا أن لديهم نزعة إلى الثورة، فالمرازيق، وهم سكان المنطقة من العرب الأقحاح، يتغنّون بالسيف والبندقية في أشعارهم ليلًا، ويستعملونهما صباحًا، إذ لا فرق عندهم بين القصيدة والحياة.

تحتضن ساحة السوق جوانبَ من المهرجانات الفنية التي تعرف بها المدينة، منها "مهرجان الصحراء" و"مهرجان المسرح العربي"، الذي تشرف عليه "فرقة بلدية دوز للتمثيل"، وسهرات في موسمي الصيف ورمضان، فتتحوّل إلى ركح كبير، يضجّ بالحركة والألوان والأعمار، ذلك أن الفوارق بين الأجيال تنتفي فيها، تمامًا كما تنتفي بين الألبسة واللغات.

من مهرجان دوز(الترا صوت)

تقول سائحة من أوروبا الشرقية: "ما هذا المكان الذي يمكنك أن ترى فيه آخر طراز من السيارات المهرّبة من ليبيا، بالموازاة مع مرور بعير أو حصان أو حمار؟ وترى شيخًا طاعنًا في السن واللباس التقليدي، رفقة شاب موغل في الموضة؟". تسارع إلى دكان قريب، وتطلب من صاحبه الشاب الذي "يتسلّق" أكثر من لغة، طالبة منه أن يجعلها تبدو مرزوقية. بعد نصف ساعة تخرج من عنده في كامل أناقتها المحلية، وهي تبدي أسفها: "ليتني أستطيع أن أشتري وجهًا أسمر".

اقرأ/ي أيضًا: مهرجان دوز المسرحي.. ظلال الرّبيع العربي

يبدي أصحاب المحال التجارية في السوق، امتعاضهم من تراجع السياحة في المنطقة، بعد الانفجار الإرهابي الذي عرفته مدينة سوسة في الصيف الفائت، ممّا جعل السوق يفقد النكهة التي يوفرها اختلاف الوجوه واللغات. يقول ماهر: "في دوز، تطغى الرّوح الإنسانية على الروح التجارية، وهمّنا أن يأتي الأجانب لاكتشاف ملامحنا الثقافية، أكثر من اهتمامنا بأن يتركوا لنا نقودًا".

تحتضن ساحة سوق دوز جوانبَ من المهرجانات الفنية التي تعرف بها المدينة، منها "مهرجان الصحراء" و"مهرجان المسرح العربي"

بعد المغرب، تنتعش جلسات المقاهي، وتنتعش معها الأغاني الطربية المعتقة التي تطلقها مكبرات الصوت، وتتعالى الأحاديث المعجونة بدخان الشيشة، وضحكات أناس يتلقون القليل ماديًا، ويعطون الكثير إنسانيًا، ولا يتركونك تستعمل جيبك إذا كنت ضيفًا، وكأنك لست في بيئة سياحية تتحكم فيها قيم الطمع والجشع.

مع عصر يوم الأربعاء، تظهر حركة مختلفة في السوق، شباب وكهول وشيوخ ينصبون طاولاتٍ لهم، ويضعون أكياسًا مختلفة تحوي سلعًا مختلفة، استعدادًا لصبيحة الخميس، حيث السوق الأسبوعي للمدينة. أخبرنا الفنان التشكيلي والباحث في التراث الشعبي للمنطقة صالح الصويعي المرزوقي: "في هذا اليوم، يمكنك أن تجد كلّ شيء ما عدا الموت"، وفعلًا فقد فتحتُ عينيَّ صبيحة الخميس على كلّ الأشياء.

الألبسة والمواعين والتوابل والأفرشة والخضر والفواكه والهدايا القديمة والحديثة والحيوانات، نعاجًا وكباشًا وخرافًا وماعزًا وجداءً ونوقًا وجِمالًا وبغالًا وحميرًا وأحصنة ودجاجًا بلديًا وإوزًّا وأرانبَ وحمامًا، فكأنك في حديقة حيوانات في الهواء الطلق، وينتابك إحساس بأن المدينة خرجت كلّها إلى السوق، فإمّا بائع وإمّا مشترٍ، مع تسجيل ملاحظة اقتصار المرأة في المدينة على الشراء، فنادرًا ما لاحظت امرأة تبيع، عكس مناطق أخرى في البلاد.

سوق دوز(الترا صوت)

في سوق الحيوانات، يسمّى "سوق السعي"، تكتشف أن الحيوان شريك في الفضاء والعطاء، بالنظر إلى الطابع الفلاحي للمنطقة، فهي إحدى جنان النخيل في تونس، ولا تزال حاجتها قائمة إلى الحيوان، خاصة الجِمال التي تتعدّى علاقة "الإنسان المرزوقي" بها حاجته إلى عضلاتها في صحراء ممتدّة، وممّا يمكن أن تلاحظه أن فعلي البيع والشراء لا يقتصر على كبار السن، فقد تجد شابًّا دون العشرين يبيع رأسًا/قطيعًا أو يشتريه، وله من المهارة في ذلك ما يُثير الاندهاش.

ما يُثير الاندهاش أيضًا، وجوه مليئة بالصّبر والارتياح في الوقت نفسه، تجلس في زوايا السوق وتبيع غرضًا بسيطًا، من غير أن تبدر منها كلمة أو حركة، فكأنها مرسومة أو مصوّرة. إنه التصوّف فعل فعلته في الأرواح والأجساد، فباتت شبيهة بصلاة لا تنتهي، في بقعة باركها الجدّ الأوّل "سيدي حمد الغوث".

إن سوق دوز بأقسامه المختلفة، تتعدّى العلاقاتُ داخله المعطى التجاريَّ إلى المعطى الإنساني، فهو تجمّع ثقافي قبل كلّ شيء، فيه تنتعش المحكيات والأشعار الشعبية والأمثال والحكم وأنماط العيش والتفكير، بما يجعله ساحة ثرية بالألوان والروائح والتوابل والأذواق التي يمكن أن تغذّي عملًا مسرحيًا أو روائيًا أو قصصيًا أو سينمائيًا عميقًا، فهل من خطوة باتجاه السوق يا معشر الفنانين في تونس وخارجها؟.

اقرأ/ي أيضًا:

السياحة الصحراوية في الجزائر.. إهمال متواصل

من منسيات تونس.. قبر الجندي المجهول