29-يونيو-2018

المعدل لا يعكس الإمكانيات الحقيقية لأحمد

 

في شهر جوان/يونيو من كل سنة يجتاز الآلاف من التلاميذ في تونس مناظرة الباكالوريا  (الثانوية العامة) ومن المألوف أن نبحث من بين الناجحين في الدورة الرئيسية عن أصحاب المراتب الأولى في كافة الشعب العلمية والأدبية، لنحتفي بنتائجهم وتميّزهم. ولكن نبحث أيضًا عن أولئك التلاميذ الذين تجاوزوا الاختبار رغم محنة الإعاقة الجسدية أو الحالة الاجتماعية التي تدفع الشاب إلى التحدي.

تميّز أحمد نويرة بين الناجحين في باكلوريا 2018 هو قدرته على اجتياز المناظرة بنجاح رغم معاناته الصحية من مرض "الديسلكسيا" الذي أعاقه طيلة مسيرته الدراسية

لم يكن التلميذ أحمد نويرة من بين هؤلاء الذين كنت أذكرهم، ولكنه اجتاز مناظرة الباكالوريا شعبة علوم تجريبية بنجاح بمعدل 10.71 وهو حاصل متوسط فحسب، ولكن أحمد استطاع اجتياز الامتحان رغم صعوبات صحية، وهو ما دفعنا للاتصال به للاطلاع على حالته ومعرفة سر نجاحه.

مساندة عائلية ومدرسية لتخطي الصعاب

يدرس أحمد بمعهد فطومة بورقيبة بمدينة المنستير، وهو شاب يافع مستقيم ثاقب النظرات وله من الرصانة والاتزان ما يدفعنا قسرًا إلى استجلاء ما خفي عنا في تشخيص حالته وخصوصية قواه الذهنية. كان في استقبالنا ببيته رفقة والده وأمه، بادرنا بالتحية وجلست إليه لأول وهلة وأنا أبحث عما أعاق هذا الشاب دراسيًا وجعل منه تلميذًا "مختلفًا".

اقرأ/ي أيضًا: بطولة شاب قهر مرضه النّادر بـ"كمال الأجسام"

أفادتنا والدته أمينة رورو نويرة بأن أحمد يعاني من "الديسلكسيا"، ولذلك هو مختلف عن زملائه مضيفة "ظهرت عليه ملامح هذه الصعوبات منذ سن مبكرة، وقد فطنا إليه خلال دراسته بالصف الثالث بالمدرسة الابتدائية حين خضع لمنهج تفكيك الجملة وتركيبها، وقد رصدنا المعاناة فهو عاجز عن الكتابة وترتيب الحروف والتنسيق بين المفردات وغير ذلك من عدم تنسيق الأرقام وعكسها".

وجد أحمد نويرة الدعم اللازم من والديه لمساعدته على تجاوز صعوباته

تشير محدثتنا قائلة "كنا على إحاطة بابننا أحمد كي يتجاوز شيئًا من صعوبة التعلم التي يعاني منها وهو بحاجة دائمًا إلى مساعدة عائلية ومدرسية واجتماعية، وقد لاقى مساندة من كافة المحيطين به وهو ما مكّنه من التقدم شيئًا فشيئًا بين فصول الدراسة إلى حين بلغ مناظرة الباكالوريا".

وقد كانت تجربة أحمد الأولى مع المناظرة في السنة الفارطة ولكنه أخفق، ولكنه جدد العهد مع التحدي خلال هذه السنة الدراسية فكان له النجاح ليتجاوز محنة الامتحان.

ماهي "الديسلكسيا"؟

بحثنا، في الأثناء، عن مفهوم الديسلكسيا Dyslexia، وهي كلمة يونانية الأصل مكونة من مقطعين: الأول (Dys) وتعني صعوبة، والثاني (lexia) وتعني الكلمة المقروءة، وأول من استخدم هذا المصطلح عالم الأعصاب الفرنسي ( رودلف بيرلين ) عام 1872 م، ثم تتابعت الدراسات في هذا الشأن فأطلق عليها الطبيب الألماني أدولف كسماول بـالعمى "الكلمي" وسماها بعد ذلك جيمس هنشلود بـالعمى الكلمي الخَلْقي.

وحسب الاتحاد العالمي لطب الأعصاب يمكن تعريف عُسر القراءة بكونه" اضطراب يتجلى في صعوبة تعلم القراءة على الرغم من توافر التعليمات التقليدية والذكاء الكافي والفرصة الاجتماعية والثقافية الملائمة حيث يتبع إعاقة إدراكية جوهرية، كثيراً ما تكون من أصل صحي". ويؤثر عسر القراءة dyslexie في قدرة التلميذ على قراءة المكتوب بيسر و نعكس ذلك على القدرة على الكتابة "لارتباطه باضطرابات داخل مركز الإبصار في الدماغ فلا تستقر الحروف أمام القارئ" كما تبيّن مصادر طبية .

الاتحاد العالمي لطب الأعصاب يعرّف "الديسلكسيا" أو  عُسر القراءة بالاضطراب الذي يتجلى في صعوبة تعلم القراءة على الرغم من توفر التعليمات التقليدية والذكاء الكافي والفرصة الاجتماعية والثقافية الملائمة 

وتشير ذات المصادر أن المصابين بالعسر القرائي يكون مستوى ذكائهم عاديا جدًا أو حتى فوق العادي، وبأنه لا يوجد رابط بين العسر القرائي والتخلف العقلي بل إن الطلاب المعسرين قرائيًا يمكن أن يكونوا مبدعين في عديد المجالات مما يجعل الديسلكسيا تستحق تسمية الإعاقة المختفية  (Hidden Handicap) وفق هذه المصادر.

ويحتاج هذا النوع من صعوبات التعلم إلى مساعدة خاصة في الاختبارات الوطنية وذلك بتوفير تلميذ قارئ وكاتب له وتمديد حصة الاختبار بنسبة ثلث الزمن كما ينجز اختباره في فصل بمفرده.

نجحت ولكن معدّلي لا يعكس امكانياتي الحقيقية

حدثنا أحمد عن مسيرته الدراسية فقال: "مررت بصعوبات جدية خاصة في السنوات الأخيرة إذ كنت أتعرض إلى العديد من المشاكل أهمها تلك المعاملة مع رفاقي في الدراسة، كنت أواكب الدروس في الفصل باهتمام شديد لكن لا أغادر الفصل بكراس مكتوب فكنت عاجزًا عن الكتابة وكان ذهني يعج بالتفاصيل التي لا يمكن أن يتخيلها تلميذ عادي". يضيف أحمد لـ"الترا تونس" قائلًا: "كنت أعيش عالمي بخلق تفاصيل في أي صورة ذهنية تخترقني، ففي مادة الرياضيات مثلًا كانت أصعب النظريات لا أرى عائقًا في تحليلها ولكن كلما حاولت تجسيدها يدويًا على الورق كان العجز التام فينقلب الذكاء والصفاء الذهني ذهولًا و كدراً فتكون نتيجة المقروء مخالفة للتصور".

أحمد نويرة: كنت أواكب الدروس في الفصل باهتمام شديد لكن لا أغادر الفصل بكراس مكتوب فكنت عاجزًا عن الكتابة وكان ذهني يعج بالتفاصيل التي لا يمكن أن يتخيلها تلميذ عادي

واصل أحمد قائلًا لم يكن من السهل خلال مسيرتي التلمذية بالمعهد أن أجد رفاقًا يساعدونني على تجاوز محنتي فكلما حاولت أن أستعين بأحد الزملاء أو الزميلات للمساعدة على الفهم كان التجاهل منهم لعدم قدرتهم على المساعدة المستمرة والدائمة".

وبالسؤال عن الإطار التربوي وظروف أداءه لامتحان الباكلوريا، صمت أحمد قليلًا ثم أخبرنا قائلًا: "لاقيت خلال السنة الدراسية الحالية وفترة اجتيازي لمناظرة الباكالوريا مساعدة من أساتذتي والإطار التربوي وذلك بتمكيني من تلميذ قارئ وكاتب حسب التراتيب التي يسمح بها القانون التونسي في مثل هذه الحالات. كما تم التمديد في زمن الامتحان بمقدار الثلث". وأكد أحمد أن كافة الأطراف اجتهدت في تهيئة الظروف الملائمة له لاجتياز الامتحان.

ولكن استطرد أحمد، في سياق هذا الحديث، للحديث عن صعوباته طيلة السنوات الفارطة إذ أفادنا قائلًا: "عانيت سابقًا من بعض المدرسين الذي عاملوني بشكل يتجاهل حالتي وبأسلوب التعامل معها ممًا دفعني للتفكير في الانقطاع عن الدراسة في عديد المرات". يضيف الشاب في حديثه لـ"الترا تونس" قائلًا: "كانت أيامًا صعبة وجدت خلالها معاضدة ومساندة من عائلتي التي ما فتئت تدفعني نحو النجاح دفعًا".

قال الإخصائيون النفسانيون لأحمد: "اختلافك هو قوتك فتمسك بها ولا تفرط في مصدر قوتك"

وأردف قائلًا: "لن ألتفت إلى الوراء فيكفيني اليوم أني نجحت في اجتياز المناظرة وتحصلت على معدل 10.71 دون الالتجاء إلى الإسعاف. اجتهدت خلال السنة الفارطة وهذه السنة وإن فشلت في السنة الأولى فقدت نجحت خلال هذه السنة" ولكن يستدرك أحمد قائلًا "لكني أشعر أن هذا المعدل لا يعكس إمكانياتي الذهنية والإدراكية الحقيقية فلو كنت تلميذًا عاديًا لحصلت على معدل يفوق الخمسة عشرة من عشرين".

يختم أحمد حديثه معنا بالقول بأنه كلما قابل الإخصائيين النفسانيين الذين يرتاد عياداتهم منذ الصغر كانوا يقولون له: "اختلافك هو قوتك فتمسك بها ولا تفرط في مصدر قوتك"، هكذا يختم أحمد بكل ثقة حديثه معنا.

أحمد نويرة: أشعر أن المعدل الذي تحصّلت عليه لا يعكس إمكانياتي الذهنية والإدراكية الحقيقية فلو كنت تلميذًا عاديًا لحصلت على معدل يفوق الخمسة عشرة من عشرين

خلال لقائنا بوالد أحمد ووالدته، أبديا رغبتهما في تثمين كل من ساهم في نجاح ابنهما من إطار إداري وتربوي وأطباء واعتبرا أن "تظافر المجهودات كان سبيلًا لسلوك درب النجاح". غير أن والده أصر على أن الحاصل العلمي الذي حصل عليه ابنه في الاختبار لا يعكس قدراته الفائقة متساءلًا: "هل من سبيل إلى وزارة التربية حتى تأخذ بعين الاعتبار حالة "الدسلسكيا"؟ ابني لا يمكنه بأي حال أن يتوجه إلى الدراسة في علوم الطب بهذا الحاصل المتوسط وأنا على يقين من أنه قادر على بلوغ الأفضل".

اقرأ/ي أيضًا: بحثًا عن لعب لابنه: تونسي يخترع ألعابًا تساعد أطفال التوحد

ضرورة تكوين المدرّسين للتعامل مع الوضعيات الخصوصية

اتصلنا بمدرب المهارات التربوية والتفوق الدراسي رضا بن عائشة وعرضنا عليه حالات الديسلاكسيا Dyslexie لإبداء الرأي فأفادنا قائلًا: "يعاني العديد من التلاميذ صعوبات في متابعة النسق الرسمي النظامي الموحد للتعلم داخل القسم إما لأسباب نفسية مرتبطة بمواقف أو أحداث أو محيط اجتماعي غير مناسب وإما لأسباب عضوية جسدية وإما لأسباب عصبية ومن هذه الاضطرابات ما يعرف بعسر القراءة".

مدرب المهارات التربوية والتفوق الدراسي رضا بن عائشة: الدراسات أثبتت أن ذوي اضطرابات التعلم يتمتعون بقدرات خارقة يكفي أن يتم تحفيزها والتعامل معها من منطلق تعدد الذكاءات لدى الانسان حتى تبرز

وكشف بن عائشة في حديثه لـ"الترا تونس" أن هذه الظاهرة في انتشار مستمر وتمس بين 6 و 10 في المائة من المتعلمين، وقد واكبها تطور مستمر في الدراسات العلمية والتجارب الميدانية المتعلقة بالمرافقة التربوية الملائمة التي تعضد عمل المدرس و الولي. وقال لنا إن الدراسات أثبتت أن ذوي اضطرابات التعلم يتمتعون بقدرات خارقة يكفي أن يتم تحفيزها والتعامل معها من منطلق تعدد الذكاءات لدى الانسان حتى تبرز ويبرز صاحبها.

وأشار مدرب المهارات التربوية قائلًا: "تتعاظم الحاجة اليوم إلى إيلاء هذا الموضوع الاهتمام اللازم من جهة تكوين المدرسين في مختلف مستويات التعليم حتى يتمكنوا من رصد الصعوبات والتعامل العلمي المناسب معها بالتنسيق مع الأخصائيين النفسيين ومرافقي الحياة المدرسية مع وضع برامج مرافقة تربوية مختصة تنتشل هؤلاء التلاميذ البارعين في عديد من المجالات رغم ما يبدو عليهم من صعوبة في مواكبة التعلمات النظامية والتقليل بالتالي من مظاهر الفشل الدراسي الذي يعود في كبير من الحالات إلى أسباب متعلقة بالاضطرابات الخفية التي لا ينتبه لها المدرس بحكم عدم حصوله على التكوين المناسب".

حينما تنتصر إرادة النجاح على كل الصعوبات والعراقيل

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن "فدوى" التي آمنت أن العضلات المفتولة ليست حكرًا على الرجال..

نورس الخلصي.. تحدي تونسية في عالم الكيك بوكسينغ