25-فبراير-2019

عمال لا يتمتعون بتغطية اجتماعية أو صحية (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

تتذكر فوزية الهمامي (46 سنة) عام 2016 جيّدًا، فهو العام الذي تغيّرت فيه حياتها وانقلبت رأسًا على عقب بعد أن أضحت غير قادرة على العمل أو المشي أو حتى الحركة بشكل جيّد.

كانت فوزية، قبل ذلك العام، تعمل في الضيعات الفلاحية لجمع الخضر أو جني الزيتون والحصاد، العمل الذي امتهنته لأكثر من 15 سنة. لكن خلال عودتها من إحدى الضيعات في جهة منوبة على متن شاحنة لنقل الفلاحات، تعرّضت إلى حادث رفقة 15 امرأة أخرى ما أفقدها القدرة على المشي بسبب إصابة بليغة على مستوى على العمود الفقري.

يعاني العمال في المهن غير المهيكلة من غياب التغطية الاجتماعية والصحية وعدم الحصول على تعويضات حال تعرضهم لحوادث شغل

بقيت مقعدة في البيت غير قادرة على المشي، ولم تحصل على أي تعويض يمكّنها من العلاج لأنّها لم تكن تعمل وفق عقد قانوني يحفظ حقوقها كغيرها ممن يمتهنون المهن المهيكلة ويتمتعون بتغطية اجتماعية وصحية.  

حال محمّد علي (38 سنة) لا يختلف كثيرًا عن حال فوزية، فقط تختلف المهن وتتشابه الحوادث. هو يعمل في مجال البناء على مدى أكثر من 15 سنة، لكنّه تعرض عام 2008 إلى حادث أفقده القدرة على المشي أيضًا. إذ سقط من مكان مرتفع غير محمي وأصيب في ظهره وكتفه.

يقول لـ"الترا تونس" إنّه عمل لسنوات عدّة دون استعمال حواجز تحميه من خطر الوقوع أو الانزلاق، ولم يكن يتوقّع أن يتعرّض إلى حادث كالذي تعرّض إليه، وقد تعوّد سنينًا على التعامل مع الخطر مهما كان. لكن الخطر تلك المرّة جعله مقعدًا، وما يحزنه أكثر هو فقدانه العمل الذي كان يعيل عائلته.

اقرأ/ي أيضًا: الهجرة الداخلية في تونس.. قصص البحث عن فرص شبه منعدمة!

هي حوادث من بين آلاف حوادث الشغل التي تحصل لأصحاب المهن غير المهيكلة أو المهمشة، بعضها جعل أصحابها عاجزين عن القدرة على المشي أو مواصلة العمل، فيما تسببت مئات الحوادث الأخرى في فقدان العملة لحياتهم.

فقد لقي عامل بناء في الأربعينيات من عمره في 17 فيفري/شباط 2019 حتفه إثر سقوطه من مبنى على علو يقارب 8 أمتار حينما كان يقوم بإصلاحات بمبنى بحي الأنس بمدينة الكاف فهوت ساقه ما أدّى إلى سقوطه الذي تسبب في إصابته بنزيف داخلي كان سببًا مباشرًا في وفاته.  وفي نفس اليوم، توفي عامل بناء أصيل منطقة هبيرة، التابعة لولاية المهدية، متأثرًا بإصابته الخطيرة التي تعرض لها جراء انهيار جدار عليه أثناء عمله بولاية القيروان.

 يحتل قطاع البناء والأشغال العمومية المرتبة الأولى ضمن إحصائيات حوادث الشغل القاتلة في تونس

وما يزال قطاع البناء والأشغال العمومية يحتل المرتبة الأولى ضمن احصائيات حوادث الشغل القاتلة وذلك بنسبة 30.4 في المائة أي ما يعادل 28 حالة وفاة من مجموع حوادث الشغل القاتلة، وفق ما كشف عنه وزير التجهيز والاسكان والتهيئة الترابية السابق محمد صالح العرفاوي عام 2017. ويوفر قطاع أشغال البناء قرابة 450 ألف موطن شغل مباشر وغير مباشر، ولكنه يسجل قرابة 3500 حادث شغل، سنويًا، بمعدل 10 حوادث يوميًا مما يجعله من بين أكثر القطاعات خطورة، وفق وزارة التجهيز.

من جهته، أشار الصندوق الوطني للتأمين على المرض إلى أنّ العدد الجملي لحوادث الشغل، المصرح بها لدى مراكز الصندوق تراجع، في التسعة أشهر الأولى لعام 2017، بنسبة 6.6 في المائة، وبلغ 25140 حادثًا، كما شهدت الحوادث تراجعًا سنة 2016 لتبلغ 38045 حادثًا مقابل 40100 حادثًا سنة 2015.

مع ذلك تبقى تلك الاحصائيات خاصة بالمهن المنظّمة داخل مؤسسات متعاقدة مع صندوق التأمين على المرض، لكن وحدهم أصحاب المهن غير المهيكلة خارج الإحصائيات ونسب التعويضات، وخارج أي حسابات ومعادلات تضمن الحدّ الأدنى من حقوقهم في العلاج أو التعويض.

الإطار القانوني لفواجع الشغل

اهتم المشرّع التونسي بمسألة فواجع الشغل منذ الخمسينيات بصدور القانون عدد 73 لسنة 1957 المؤرخ في 11 ديسمبر/كانون الأول 1957 الذي أقحم لأول مرّة إلى جانب واجب تغطية حوادث الشغل ضرورة تغطية حوادث الطريق والأمراض المهنية. وقد كان نظام التغطية موكولًا من ناحية التصرف فيه لمؤسسات التأمين الخاصة التي يقع التعاقد معها حسب اختيار صاحب العمل.

وتجدد التنظيم القانوني للحوادث الشغل والأمراض المهنية في التسعينيات بصدور القانون عدد 28 لسنة 1994 المؤرخ في 21 فيفري/شباط 1994 المتعلق بالتعويض عن الأضرار الحاصلة بسبب حوادث الشغل والأمراض المهنية في القطاع الخاص، ثم بعد بسنة بصدور القانون عدد 56 لسنة 1995 المؤرخ في 28 جوان/يونيو 1995 المتعلق بالنظام الخاص للتعويض عن الأضرار الحاصلة بسبب حوادث الشغل والأمراض المهنية في القطاع العمومي.

حادث الشغل هو الحادث الحاصل بسبب أو بمناسبته لكل عامل عندما يكون في خدمة صاحب عمل أو أكثر وذلك مهما كان سببه ومكان وقوعه

وعُرّف حادث الشغل طبقًا للفصل الثالث من قانون 1994 بأنه "الحادث الحاصل بسبب أو بمناسبته لكل عامل عندما يكون في خدمة صاحب عمل أو أكثر وذلك مهما كان سببه ومكان وقوعه".

ويمثّل حادث الطريق الصنف الثاني من فواجع الشغل وقد تبنى كل من تشريعيْ 1994 و1995 نفس التعريف باعتبار حادث الطريق هو "الحادث الحاصل للعامل أثناء تنقله بين مكان شغله ومحل إقامته بشرط أن لا ينقطع مسيره أو يتغير اتجاهه لسبب أملته مصلحته الشخصية أو لسبب لا صلة له بنشاطه المهني".  

اقرأ/ي أيضًا: عقود العمل الوهمية.. تجارة الرق الحديثة

فيما تم تعريف المرض المهني، في القانونين معًا أيضًا، بأنه كل "ظاهرة اعتلال وكل تعفن جرثومي أو إصابة يكون مصدرها بالقرينة ناشئًا عن النشاط المهني للمتضرر ". يُذكر أنّ قائمة الأمراض تضم 84 مرضًا ذا صبغة مهنية يقع تحيينها بصفة دورية كل ثلاث سنوات بمقتضى قرار مشترك من وزير الصحة العمومية ووزير الشؤون الاجتماعية.

وينص الفصل 62 من قانون 94 بأنّه يجب على المتضرر من حادث شغل مهما كانت خطورته أن يعلم بنفسه أو بواسطة غيره صاحب العمل أو أحد مأموريه وذلك في نفس يوم وقوع الحادث، أو في أجل أقصاه ثمان وأربعين ساعة من أيام العمل الموالية لحصول الحادث ما لم تحل دون ذلك قوة قاهرة أو عذر شرعي.

وتترتب عن حوادث الشغل جملة من التعويضات منها ذات الصبغة الفورية الغاية منها مجابهة حالة الضرر التي وقع فيها المتضرر ولو حينيًا إلى أن يقع التحديد النهائي لنسبة الضرر الحاصل. وتتمثل هذه المنافع في منافع العلاج ومصاريف النقل مع حرية اختيار الطبيب والصيدلي.

ضحايا دون تغطية اجتماعية أو صحية

يهدف تشريع التعويض عن حوادث وأمراض الشغل لحفظ كرامة الشغيل وحقّه في الرعاية والتعويض اللازم، لكنّه يشمل فقط المتعاقدين أو المرسمين في القطاعين العام والخاص، فيما يبقى آلاف الأشخاص العاملين في المهن غير المهيكلة دون تأمين لاسيما أولئك الذين يشتغلون كعمال يوميين. تجد بعضهم اليوم في ورشة حدادة وغدًا في حضيرة بناء أو ورشة نجارة، يمتهنون مهنًا متعددة لتحصيل لقمة عيش ذاك اليوم دونا عنه في غياب تغطية اجتماعية أو صحية أو عقد يحفظ كرامتهم.

وعبثًا تبحث عن إحصائيات عن حجم حوادث الشغل في هذا الصنف من المهن التي تشمل أصنافًا من المزارعين والعمال والحرفيين، فمن الصعب أن يحصل هؤلاء على تعويض بسيط يكفل لهم العلاج اللازم لاسيما وأنّ أغلبهم يعملون دون تغطية اجتماعية أو صحية أو حتى دون عقد عمل.  

أنور مصباح (عامل فقد يده اليمنى في حادث شغل): أي عامل بسيط لا يتمتع بأي تغطية أو كفالة سيتكفل بعلاج نفسه بنفسه في حالة تعرضه لحادث شغل

أنور مصباح (31 سنة) كان عاملًا بأحد ورش تصليح السيارات، تعرّض إلى إصابة خلال تصليح إحدى السيارات على مستوى يده اليمنى كلّفته علاجًا دام ستة أشهر وانتهى ببتر يده، ليصبح اليوم غير قادر على مزاولة تلك المهنة التي عمل فيها منذ كان عمره 18 عامًا.

يعمل اليوم مصباح في دكان صغير لبيع المواد الغذائية، لكنّه لا ينسى تلك الحادثة التي أفقدته يده اليمنى، دون أو يحصل على تعويض أو حتى علاج مجاني نظرًا لوضعيته الاجتماعية. يقول في حديثه معنا إنّ أي عامل بسيط لا يتمتع بأي تغطية أو كفالة يواجه العديد من المشاكل إذا تعرّض إلى حادث شغل لأنّه سيتكفل علاج نفسه بنفسه في نهاية المطاف.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أحياء الآجر على ضفاف المدينة.. بوصلة الفقر في سوسة

هل تفضح مقابلات العمل سوق الشغل في تونس؟ (شهادات)