كانت الحمامات في الثقافة العربية الإسلامية ذات دور اجتماعي بارز، إذ كان الجامع والسوق والحمّام نواة رئيسية لنشأة المدينة الإسلامية، والمتأمل في خريطة المدينة العتيقة في تونس العاصمة سيلاحظ ارتباط وجود الحمّام بالجامع، فأغلب حمّامات المدينة العتيقة يجاورها مسجد.
يعتقد كثير من التونسيين أنّ الحمّامات منتجعات صحية
يتكوّن الحمّام في تونس من ثلاث غرف أساسية، الغرفة الباردة، والغرفة المتوسطة، والثالثة غرفة ساخنة جدًا. الغرف الثلاث فيها مكان لجلوس المستحم. يشبه مناخ الحمّام مناخ الفصول الأربعة بالتنقل بين وحداته الشكلية، ويعتبر هذا النموذج وريثًا للحمّام الروماني الذي أدخلت عليه بعض التغييرات الطفيفة في الحضارة العربية والإسلامية، بما يلائم الثقافة الإسلامية المحافظة، فنجد المطاهر، وهي غرف صغيرة جدًا أشبه بالخلوة يختلي بها المستحم بنفسه للغسل الكامل، بعيدًا عن الأعين المتطفلة. ولا تزال أغلب الحمّامات التونسية القديمة والحديثة تستجيب إلى مقومات إلى الحمّام الإسلامي ذي الغرف الثلاث والمطاهر وغرفة الاستقبال.
يرتبط الحمّام بدرجة أولى بمفهوم الطهارة، فالطهارة البدنية لها مكانة أساسية في العبادات الإسلامية، فقد اهتم الإسلام بنظافة الجسد. وتمثل الطهارة رمزية شعائرية للإقبال على الله، ويسعى المسلم في حياته إلى ضرورة الطهارة، فكان الحمّام فرصة لاكتسابها فهذا الفضاء يعتبر طقس عبور من الدنس إلى الطهارة.
ورغم التشديد في زيارة الحمّام، في بدايات الحضارة الإسلامية، والنهي عن زيارته واعتبارها من الكبائر، خاصة للنساء، لما يرتبط به من كشف العورات، نلاحظ أنّ الحمّامات كانت عنصرًا هامًا في العمارة الإسلامية رغم تحريمها، ربّما علم المسلمون الأوائل أنّهم لن يستطيعوا زيارة الحمّام، فجعلوا من دوره دينيًا يرتبط بالطهارة والنظافة، وقنّنوا دخوله حتى لا يقعوا في الذنب وارتكاب المعاصي.
يزور عدد مهم من التونسيين، خاصة من الفئات المتوسطة والفقيرة، الحمّامات الشعبية بانتظام، بوصفها إحدى العادات المتوارثة منذ أجيال، والتي لم تندثر في عصر العولمة وانتشار حمّامات الجاكوزي والساونا، ويرجع هذا إلى الثمن الزهيد لهذه الحمّامات، مقارنة بالأخرى الحديثة والتي بقيت حكرًا على الأثرياء دون غيرهم.
ويعتقد عدد غير قليل من التونسيين أنّ الحمّامات منتجعات صحية، تساهم في علاج بعض الأمراض لحرارة المكان ومزايا المياه الساخنة في المداواة من بعض الأسقام، لذلك يحرص الشاب والعجوز والكهل والمرأة والصبيّة على زيارته، إذ تلعب الحمّامات دورًا نفسيًا إيجابيًا في ترضية المريض وإيهامه بالشفاء، رغم وجود بيوت استحمام في كلّ المنازل، لكنّ الحرارة والبخار توحي لكل من يرتاده بالراحة والشفاء من الأسقام.
وللحمّام رمزية كبيرة وإن لم يكن هذا معلنًا بصفة مباشرة، لكنّه فضاء للعبور من الدنس إلى الطهارة، ومن المرض إلى الشفاء، وهو نفس الفضاء الذي يمرّ به الإنسان بكلّ مراحل حياته منذ أن طفلًا، إلى أن يصبح شيخًا، وفي كلّ مرّة يعيد استكشاف الحمّام والاستغراق مع تفاصيله وتفاصيل المكان.
كانت الحمّامات عنصرًا هامًا في العمارة الإسلامية رغم تحريمها
يلعب الحمّام الشعبي دورًا اجتماعيًا في تجميع الأصدقاء، وتجاذب الأحاديث ومعرفة كل جديد، فهو يمثل فرصة للترويح عن النفس وتغيير إيقاع الحياة السريعة الذي يحرم الفرد من الالتقاء بأصدقاءه وتبادل الأحاديث والأخبار، وهو أيضًا فرصة للترفيه بالنسبة للفقراء الذين لا يملكون الأموال لقضاء أوقات ممتعة في الفضاءات الخاصة، إذ يمثل الحمّام انزياحا عن العالم المادي الخارجي لزمن معيّن، زمن الاستحمام، ليشعر فيه لفرد بالانسجام والمتعة في عالم خيالي مريح، يرجع هذا إلى سمات فضاء الحمّام الأسطوري من خلال البناء أو الأبخرة التي تغرق المكان في ضباب كثيف.
ويمكن للحمّام أن يكون فرصة للعازبة أن تتزوج، ففي هذا الفضاء تجتمع النسوة وبعض الأمهات اللواتي يبحثن عن زوجات لأبنائهن، كما يحتفل الطفل ضمن طقوس حفل الختان بالذهاب إلى الحمّام في عرض كرنفالي جميل تتميّز به تونس عن غيرها، حيث يذهب الطفل بصحبة أمّه في عربة يجرها حصان، ويصاحبه في هذا فرقة نحاسية وسط زغاريد النسوة وعبق البخور.
وما يزال حمّام العريس أو العروس ضرورة حتمية ما تزال في المجتمع التونسي، رغم مظاهر التطوّر والحداثة ومازالت الأجيال الشابة تحتفل بهذه الشعيرة بفخر واعتزاز بأصالتهم التونسية التي لم يغيّرها عصر العولمة.
تقلص عدد بناء الحمّامات في مجتمع الحداثة مقارنة بالسنوات الماضية، ولكن بقي فضاء الحمّام مشروعًا مربحًا في المناطق التي تضم الفئات المتوسطة والفقيرة بتونس، إذ بقي معلمًا مهمًا في حياة شريحة كبيرة من الناس التي دأبت على زيارته بشكل منتظم، إذ يلعب الحمّام دورًا مهمًا في حياتهم، إلى جانب الاغتسال فهو فرصة للترفيه في ظل اقتصار الحكومة على إنشاء مناطق الترفيه للأحياء المرفهة والغنية، واستثناء الأحياء الفقيرة منها.