تحيي تونس بداية شهر جانفي/ كانون الثاني ذكرى انتفاضة الخبز أو أحداث الخبز التي جدّت أواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول 1983 وأوائل جانفي/ كانون الثاني 1984 وكانت شرارتها الأولى في مدينة دوز التابعة لولاية قبلي بمناسبة السوق الأسبوعية في 29 ديسمبر/ كانون الأول 1983 في شكل مظاهرات أسفرت عن مواجهات بين المتظاهرين وقوات النظام العام.
عبد اللطيف الحناشي لـ"الترا تونس": رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان قدّمت إحصائيات دقيقة بخصوص عدد القتلى الذي بلغ 92 شهيدًا في كامل الجمهورية خلال انتفاضة الخبز
اقرأ/ي أيضًا: منور صمادح.. شاعر الحرية الذي ظلمته دولة الاستقلال
واتخذت المظاهرات طابعًا عنيفًا بعد انتشارها في اليوم الموالي في مدينتي قبلي وسوق الأحد المجاورتين لدوز ومن ثمّ اتسعت لتشمل مدينة الحامة بولاية قابس. ومع دخول مشروع الزيادة في أسعار الخبز والمواد الأساسية حيّز التنفيذ في 1 جانفي/ كانون الثاني 1984، وصلت الحركة الاحتجاجية إلى مناطق الشمال والوسط الغربي في الكاف والقصرين وتالة وبقية مناطق الجنوب في قفصة وقابس ومدنين ومعتمدية جبنيانة في ولاية صفاقس.
وإثر إعلان وزارة الداخلية يوم 2 جانفي/ كانون الثاني 1984 عن سقوط قتلى وجرحى دخلت المنطقة الصناعية بقابس في إضراب شامل ومسيرات كبرى. كما تمّ تنظيم مسيرات في مدن تونس وصفاقس تعبيرًا عن رفض إلغاء الدعم عن العجين ومشتقاته.
وبلغت الاحتجاجات أوجها يوم 3 جانفي/ كانون الثاني 1984 وأصبحت المواجهة مفتوحة بين المحتجين وقوات الأمن. كما تمّ الإعلان عن حالة الطوارئ في كامل أنحاء البلاد ومنع تجمع أكثر من 3 أشخاص إلا أن ذلك لم يمنع المواطنين من النزول إلى الشوارع والتظاهر.
وفي هذا السياق، يقول المؤرخ الأكاديمي عبد اللطيف الحناشي، في حديث لـ"الترا تونس"، إن الاحتجاجات التي اندلعت في كامل أنحاء البلاد وكانت بدايته في الجنوب الشرقي وجبنيانة وانتشرت إثر ذلك في عديد المدن وبشكل خاص العاصمة تونس، مشيرًا إلى وجود تباين في الأرقام المقدّمة بخصوص عدد القتلى والجرحى.
المؤرخ عبد اللطيف الحناشي لـ"الترا تونس": محمد مزالي تحدث عن كونه ضحية "مؤامرة الخبز"
ويبيّن الحناشي أن الوزارة الأولى قدمت آنذاك إحصائيات تفيد أن 70 قتيلًا قد سقط وجرح 400 آخرين بما فيهم ما بين 50 و150 عون أمن، لافتًا إلى أن الإحصائيات الرسمية ينبغي التعامل معها بنوع من الحذر. ويوضح في هذا الصدد أن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان قدّمت إحصائيات دقيقة بخصوص عدد القتلى وأعلنت أنه تمّ تسجيل وقوع 92 قتيلًا في كامل الجمهورية في حين لم تتمكن من إحصاء عدد الجرحى باعتبار أنه كان ضخمًا جدًا.
ويشير إلى أن أحداث 1984 كانت عنيفة جدًا وأعنف من تلك التي شهدتها البلاد في جانفي/ كانون الثاني 1978 عند مواجهة الاتحاد العام التونسي للشغل مع السلطة آنذاك.
ويبرز محدثنا أن انتفاضة الخبز لا تعود إلى ارتفاع ثمن الخبز والسميد فقط بل ساعدت ظروف في نشوبها خاصة الصراع الذي كان دائرًا بين أجنحة السلطة حينها وهو ما بيّنته عدّة شهادات مفيدًا أن الوزير الأول آنذاك محمد مزالي كان قد أعلن في مداخلة تلفزية أن حكومته لا تنوي التخلّي عن صندوق التعويض أو الترفيع في أسعار المواد الأساسية.
اقرأ/ي أيضًا: الذكرى الـ60 لاستشهاد مصباح الجربوع.. حمل السلاح ضد المحتل قبل الاستقلال وبعده
ويضيف عبد اللطيف الحناشي أن مزالي تحدث في أحد كتبه عن كونه ضحية ما أسماه بـ"مؤامرة الخبز" وأن وزير الداخلية في ذلك الوقت إدريس قيقة ساعد على خلق هذه الأجواء من أجل إزاحته من السلطة في حين أن قيقة نفى ذلك في شهادة قدمها خلال ندوة احتضنتها مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات.
ويشدد الحناشي على أن الأمر لم يتعلّق بالخبز فقط بل بصراع سياسي داخل السلطة بين جناحين مضيفًا أن أحداث الخبز كانت قد انطلقت من المناطق الأكثر تهميشًا في الجنوب التونسي وانتقلت إلى مدن أخرى خاصة الأحياء الفقيرة فيها وأن الخسائر المادية كانت كبيرة جدًا إذ وقع نهب المغازات وحرق سيارات تابعة للشرطة وأخرى لمواطنين كانوا مارين بالجهات التي شهدت احتجاجات.
ويلفت إلى أن الأوضاع عادت إلى الهدوء بعد تدخل رئيس الجمهورية الراحل الحبيب بورقيبة الذي قال في كلمة متلفزة شهيرة "نرجعو كيما كنا" لتعود الأوضاع كما كانت عليه ويتمّ إلغاء قرار الزيادة في أسعار الخبز والسميد.
وبخصوص التداعيات السياسية لانتفاضة الخبز، يقول المؤرخ الجامعي إن هذه الأحداث مثّلت بداية نهاية عصر محمد مزالي الذي جاء في فترة دقيقة بعد مرض الهادي نويرة وحاول أن يصنع مرحلة جديدة خصوصًا في الإعلام حيث كانت تلك الفترة تسمى بـ"ربيع الإعلام" في تونس وتميزّت بنوع من الحرية، كما كان له برنامج كامل للانفتاح على العالم الخارجي على غرار روسيا والصين ودول الخليج العربي وكانت له سياسة جديدة، على حدّ تعبيره.
عبد اللطيف الحناشي لـ"الترا تونس": المعارضة والسلطة يسعيان لتدارك أي شيء قد ينزلق بالبلاد نحو المجهول
ويتابع قائلًا إن وجود محمد مزالي في السلطة دام 3 سنوات لكن وقع التخلي عنه فيما بعد واعتماد سياسة أخرى خصوصًا مع وصول زين العابدين بن علي الذي قام بما يسمى بــ"إعادة هيكلة الاقتصاد" من جديد.
وفيما يتعلّق بإمكانية تكرّر أحداث مماثلة في تونس اليوم في ظلّ الاحتقان الشعبي على خلفية ارتفاع أسعار عديد المواد والصراع بين رأسي السلطة التنفيذية، يؤكد عبد اللطيف الحناشي أن الأوضاع اليوم تمتاز بديمقراطية وتعددية حزبية وإعلامية مشيرًا إلى أن الأزمة التي تعيشها البلاد شبيهة بما كانت الأوضاع عليه سنة 1984 حتى إن العلاقات مع ليبيا مقطوعة أو شبه مقطوعة وهناك أزمة اقتصادية كبيبرة لكن الفارق هو النظام السياسي الذي يختلف عما كانت عليه الأوضاع آنذاك.
ويضيف أن الشعب اليوم يعبّر عن نفسه بطرق مختلفة دون وقوع مواجهات مع الأمن بالضرورة موضحًا أنه رغم ارتفاع الأسعار لم تقم السلطة بعد الثورة بالمس من سعر الخبز الذي يعتبر المادة الأساسية أو بصندوق الدعم الذي يهم المواد الأساسية.
ويبيّن الحناشي أن الاجتماع الأخير الذي دعا إليه رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي بحضور الأحزاب الحاكمة والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية خفّف نسبيًا من نسبة الاحتجاجات التي شهدتها تونس في الآونة الأخيرة مذكرًا أن انتفاضة الخبز كانت بهدف محدّد يتمثل في إلغاء الأسعار الجديدة للمواد الأساسية في حين أن الأزمة اليوم بتونس مركّبة وهناك ظروف تمنع التحركات خصوصًا أن الصراع السياسي كان محركًا لأحداث الخبز في حين أن الأزمة داخل السلطة اليوم ليست بالكيفية ذاتها مقارنة بـ1984.
كما أن الاحتجاجات التي جدّت بتونس في الأيام الماضية تتعلّق بالبطالة والتنمية لا أسعار المواد الأساسية.
ويختم محدثنا بالقول إنه رغم أن الأزمة مختلفة إلا أن اتحاد الشغل كان قد حذّر من مخاطر الانزلاق نحو المجهول خصوصًا أن تونس على أبواب إضراب عام وطني يوم 17 جانفي/ كانون الثاني الجاري لافتًا في الآن ذاته إلى أن المعارضة والسلطة اليوم على وعي بخطورة ما يجري وتسعى لتدارك أي شيء يمكن أن ينزلق بالبلاد نحو المجهول، وفق تقديره.
اقرأ/ي أيضًا:
يناير تونس الساخن دائمًا.. احتجاجات مثيرة للجدل ضد غلاء المعيشة