المتغيرات السياسية الأخيرة والمؤشرات الاقتصادية الخطيرة في تونس، جميعها تعكس بوضوح المخاطر المحدقة بالبلد والتي ينبه إليها خبراء السياسة والاقتصاد على حد سواء منذ فترة، ولعل علاقة التأثر والتأثير بين السلطة السياسية والمؤسسة الاقتصادية، سابقًا وحاليًا، تُطرح بشدة.
فقد شهدت تونس خلال العقود الأخيرة متغيرات جوهرية في أنماط الحكم وسياسات اقتصادية متذبذبة جعلت من الوضع الاقتصادي يتدحرج نحو مؤشرات خطيرة إلى حد تراجع احتياطي النقد الأجنبي وتراجع نسبة النمو وارتفاع نسبة البطالة في صفوف الشباب خاصة من أصحاب الشهائد العليا وتسجيل أزمة في المالية العمومية وارتفاعًا في حجم التداين الأجنبي..الخ.
وقد تزامن تدهور هذه المؤشرات مع الأزمة الصحية التي اجتاحت البلاد منذ مارس/آذار 2020 وتسببت في انهيار اقتصادي غير مسبوق، وما آل إليه الشأن الاقتصادي كان من أسبابه عدم الاستقرار السياسي على مستوى السلطتين التنفيذية والتشريعية فكان التجاذب الذي أطاح بالمؤسسة التشريعية وإعلان التدابير الاستثنائية وقيادة البلاد من خلال الأوامر والمراسيم الرئاسية وتقويض الانتقال الديمقراطي الذي تعيشه تونس منذ سنة 2011.
وما وصلنا إليه في تونس من عدم استقرار المؤسسات السياسية والاقتصادية وانعكاسها مباشرة على الاستقرار الاجتماعي يطرح مجددًا طبيعة "العقد" الذي يجب أن يجمع بين التونسيين أفرادًا ومؤسسات في تفاعل مع السلطة الحاكمة.
اقرأ/ي أيضًا: إنشاء "شركات أهلية" في تونس.. هل تساهم في حل الأزمة؟
والتغيرات السياسية التي نشهدها طرحت مجددًا العلاقة الجدلية بين الاقتصاد والسلطة "علاقة لا تقتصر فقط على تصور وتنفيذ السياسات العمومية ونماذج التنمية والنمو وإعادة توزيع الثروات بل تمتد بشكل عام إلى الدور الهام الذي يضطلع به الاقتصاد في بناء الجمهورية وهو دور يشمل المؤسسة من حيث التنظيم المؤسسي والاستقرار السياسي.
القاضي السابق أحمد صواب لـ"الترا تونس": العلاقة بين المؤسسة الاقتصادية والسلطة السياسية علاقة مخاتلة ونفاق ويتطلب الأمر مزيدًا من توضيح هذه العلاقة
وحول علاقة "السياسة" بـ"المؤسسة" في معناها الاقتصادي العام أو الخاص، يقول القاضي الإداري السابق أحمد صواب، في حديث خص به "الترا تونس" إن "العلاقة بين المؤسسة الاقتصادية والسلطة السياسية علاقة مخاتلة ونفاق ويتطلب الأمر مزيدًا من توضيح هذه العلاقة وخاصة في مسألة تضارب المصالح بين رجل الأعمال والمنصب السياسي الذي قد يتقلده في البرلمان أو الحكومة".
ويضيف صواب: "إن النمو والتنمية بالأساس لا يخلقهما القطاع العام بل القطاع الخاص بشرط تحمل مسؤوليته والسلطة القضائية مرتبطة بالأمان القانوني والتشريعي، كما أن نظام الحوكمة مرتبط بالمنظومة السياسية ويجب أن يتضامن الجميع من أجل التغيير الإيجابي".
ويقول لـ"الترا تونس": الأزمة تعقدت اليوم وقناعتي الشخصية أن تونس قادرة على التغيير من أجل مستقبل أفضل وذلك بمشاركة جميع القوى الوطنية. في تونس نحتاج إلى خيال وعقل والتلازم بينهما ضروري، فالنمو والتنمية في حاجة عضوية للاستقرار السياسي والقانوني وهذا لا نتحصل عليه إلا في إطار ديمقراطي ودولة القانون".
صواب: "النمو والتنمية في حاجة عضوية للاستقرار السياسي والقانوني وهذا لا نتحصل عليه إلا في إطار ديمقراطي ودولة القانون"
من جهة أخرى، اعتبر رئيس حزب آفاق تونس الوزير السابق فاضل عبد الكافي، في تصريح لـ"الترا تونس"، أن "تونس تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد يتأسس على مبدأ التضامن والنجاعة الاقتصادية، وتستطيع بذلك التغيير بتظافر كافة جهود الفاعلين بمختلف مواقعهم ومواكبة الترسانة القانونية للواقع المتغير، فالقوانين معقدة ولا تواكب حاليًا زمن المؤسسة".
واعتبر القاضي العدلي وليد المالكي، في مداخلة ألقاها حول المؤسسة الاقتصادية والسياسة خلال تظاهرة "أيام المؤسسة" المنعقدة بمدينة سوسة في ديسمبر/كانون الأول 2021 أن "العلاقة بين السياسة والمؤسسة علاقة جدلية بالأساس وهي علاقة تأثر وتأثير، فالمؤسسة تتأثر بالخيارات السياسية ولنا في مسألة التعاضديات أواخر السبعينيات مثال على ذلك ثم التأثر بالنظام الليبرالي في الثمانينيات مع حكومة الإصلاح الهيكلي للمؤسسات ثم الانتقال إلى سياسات في إطار العولمة بعد إمضاء اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والانخراط في المنظمة الدولية للتجارة".
ويضيف، في ذات المداخلة، "لابد من إعادة تأهيل المؤسسات والمنشآت التونسية فنحن نعيش أزمة على مستوى القانون الذي لم يعد مواكباً للواقع كما نعيش أزمة إدارة ولابد من رسكلة وتكوين على مستوى أعوان المؤسسة سواء كانت خاصة أو عمومية.. التشريع محدد للتنمية والقضاء هو المدعّم للتنمية ولابد من تأهيل التشريعات والأشخاص على حد سواء".
القاضي العدلي وليد المالكي: المؤسسة تتأثر بالخيارات السياسية ولنا في مسألة التعاضديات أواخر السبعينيات مثال ثم التأثر بالنظام الليبرالي في الثمانينيات ثم الانتقال إلى سياسات في إطار العولمة بعد إمضاء اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والانخراط في المنظمة الدولية للتجارة
اقرأ/ي أيضًا: مختصون في الاقتصاد:"قد نصل إلى مرحلة العجز التام ولا مفرّ من إصدار العملة"
أما المستشارة القانونية لمنظمة "أنا يقظ" آية الرياحي فقد اعتبرت خلال مشاركتها، في ذات التظاهرة، أننا "لما نتحدث عن المؤسسة والسياسة قبل الثورة فهما يعتبران واحدًا، فمن يمتلك الثروة يحكم على المستوى السياسي والاقتصادي في نفس الوقت، في حين أنه بعد الثورة قد تغير المشهد فأصبح المشهد السياسي محتكرًا من طبقة معينة وحديثنا عن طبقة اقتصادية تحول إلى "طبقات اقتصادية" حسب مجموعات ذات دوائر اهتمام مشترك".
وتضيف الرياحي "الطبقة الاقتصادية التي فقدت النفاذ إلى أخذ القرار صارت تسعى إلى البحث عن وسائط تؤثر بها على سلطة القرار من خلال أحزاب معينة أو شخصيات سياسية معينة وذلك من خلال تمويل الحملات الانتخابية وهناك توجه آخر هو المراهنة على الدولة، فالطبقة الاقتصادية تراهن من أجل الانتفاع من المزايا الايجابية التي توفرها الدولة مثل الانتفاع من قوانين الاستثمار ومزايا الرخص ولا نستثني من ذلك الطبقة الاقتصادية التي تمثل الاقتصاد غير النظامي ومارسوا "اللوبينغ" من أجل تشريع القوانين".
إن مدى التأثر والتأثير بين السلطة السياسية والمؤسسة الاقتصادية في تونس يحدد مسارات النجاح والفشل في بناء دولة عادلة تحافظ على حقوق المواطنة والعيش الكريم وتعزز الحوكمة والشفافية وتتجه المؤسسات فيها نحو النمو. وتبقى عديد الإصلاحات ضرورية، من ضمنها سن تشريعات تتماشى والتطور الاقتصادي، وذلك في ظل حكم ديمقراطي ومناخ من الحريات، الخيار الأفضل لمستقبل تونس.
اقرأ/ي أيضًا:
50 عامًا من الليبرالية المتونسة انتهت إلى تقييد كلّي للاقتصاد التونسي
من بينها الحليب والزيت والحبوب: أزمات غذائية "قاعدية" تلوح في أفق تونس