02-ديسمبر-2018

توجد 4 محاذير لاعتماد نسبة عتبة بـ5 في المائة في الانتخابات القادمة (أمين الأندلسي/وكالة الأناضول)

لا يوجد نظام اقتراع أفضل من آخر على النحو المُشار إليه في الجزء الأول، فلكل نظام إيجابياته وسلبياته، بيد أن صفة التفضيل تنسحب حقيقة على التناسب الذي يتحدد مع خصوصية المشهد السياسي والحزبي، ولذلك دفعت خصوصية الفترة التأسيسية نحو تبني نظام اقتراع بالتمثيل النسبي وفق أكبر البقايا لضمان أكبر قدر من التمثيلية لمختلف الحساسيات السياسية والفكرية.

اقرأ/ي أيضًا: العتبة الانتخابية.. لعبة الأحزاب وسلاح ذو حدين (2/1)

وتجاوزًا للمصالح الحزبية لتغيير نظام الاقتراع أو تحديد نسبة عتبة، تنجلي صفة التناسب على أساس عوامل موضوعية بخصوصية السياق السياسي، وطبيعة المشهد الحزبي، ومدى توفر ضمانات انتخابات نزيهة، وضمان تمثيلية عادلة للناخبين، وكذا مدى جدية ادعاءات كل فريق في دعم أو رفض نسبة العتبة المقترحة.

وفي هذا الإطار، تأتي 4 محاذير لاعتماد عتبة بنسبة 5 في المائة في الانتخابات التشريعية القادمة:

1- تعديل قبل أقل من سنة من الانتخابات مس من النزاهة

يطرح تغيير قواعد اللعبة الانتخابية قبل أقل من سنة من الانتخابات، إشكالًا سياسيًا وأخلاقيًا، ولعل الإشكال القانوني ليس ببعيد أيضًا. إذ يفرض القانون الانتخابي، في هذا الجانب، أن يتم تقسيم الدوائر الانتخابية وتحديد مقاعدها بقانون يصدر قبل سنة من الانتخابات. لا يوجد منع صريح لتغيير نظام الاقتراع قبل سنة من الانتخابات، ولكن تغيير قواعد اللعبة قبل أقل من سنة يظلّ من غير النزيه. وقد دعت لجنة البندقية في دليل حسن القيادة في المادة الانتخابية الصادر سنة 2002 لعدم تغيير القواعد الأساسية في القانون الانتخابي وبالخصوص النظام الانتخابي قبل سنة من الانتخابات.

يطرح تغيير قواعد اللعبة الانتخابية قبل أقل من سنة من الانتخابات إشكالًا سياسيًا وأخلاقيًا ولعل الإشكال القانوني ليس ببعيد أيضًا

لا يتعلق الأمر أن تحديد نسبة العتبة سيقلص فقط من حظوظ الأحزاب المتوسطة والصغرى، بل المشكل أيضًا أن هذا التحديد يأتي في ظرف أقل من سنة من الموعد الانتخابي، بحيث لا يترك هامشًا زمنيًا لهذه الأحزاب للتحرك وفق هذا المعطى المحوري، الذي سيغيرّ قطعًا من أجنداتها وخططها السياسية المستقبلة. ومثلًا، قد تشمل هذه الخطط خيارات جوهرية كالانصهار في حزب آخر، أو تكوين حزب جديد مع أحزاب قريبة، أو الانضمام لجبهة سياسية، وهي خيارات تحتاج لنقاش داخلي مع قواعدها، وقد تفرض أحيانًا تنظيم مؤتمر انتخابي لضمان سلامة الخيار الحزبي كي لا يكون مسقطًا.

ولكن، عامل الزمن سيعسّر من حسن تقديرات هذه الأحزاب، والحال أن السنة الأخيرة قبل كل انتخابات من المفترض أن تكون سنة إعداد ماكينة حزبية انتخابية وضبط الحملة الانتخابية لوجيستيًا واتصاليًا، وليست سنة تفكير ونقاش حول الخطط السياسية العامة واللوائح الاقتصادية والاجتماعية والتوافق للتقارب أو التحالف أو الانصهار مع أحزاب أخرى. وبهذا المعنى، سيتعمق أكثر تفاوت الحظوظ بين الأحزاب الكبيرة من جهة، والأحزاب المتوسطة والصغيرة من جهة أخرى، وهو ما يمسّ تباعًا من نزاهة المسار الانتخابي.

2- رفض هيئة العليا المستقلة للانتخابات

أبدت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات رأيها أمام اللجنة البرلمانية المختصة، وقدّرت أنه من الأنسب اعتماد نسبة 3 في المائة بدل 5 في المائة.

ويكتسي رأي الهيئة أهمية بالغة إذ يوجب الفصل 3 من القانون المحدث لها استشارتها في القوانين المتعلقة بالانتخابات، وهي استشارة وجوبية لإبداء الرأي وإن لا يجب الأخذ به. ويكتسب هذا الرأي مكانة اعتبارية بما يفترض الاستئناس به وأخذه بعين الاعتبار لدرجة قصوى من منطلق دور الهيئة في ضمان نزاهة الانتخابات.

إذ يوكل الفصل 126 من الدستور للهيئة العليا المستقلة للانتخابات واجب "ضمان سلامة مسار الانتخابات ونزاهته"، فلا يقتصر دور الهيئة على الجانب التنظيمي التقني للانتخابات بل كذلك توفير ظروف انتخابات نزيهة، وتحديد نسبة عتبة بـ5 في المائة قبل أقل من سنة من الانتخابات قد يمسّ من مبدأ النزاهة، وكذا من سلامة المسار الانتخابي إجمالًا، وهو ما دفع الهيئة لتفضيل نسبة عتبة لا تتجاوز 3 في المائة كما الحال في الانتخابات البلدية.

بذلك يمثل رفض هيئة الانتخابات، التي تتولى الإشراف على تنظيم الانتخابات، للمقترح الحكومي الذي تبنته اللجنة البرلمانية أحد المحاذير الجوهرية التي تمس من سلامة المضي في تحديد نسبة العتبة المقترحة في الانتخابات القادمة.

اقرأ/ي أيضًا: عتبة انتخابية بنسبة 5%.. ماهو موقف الأحزاب والمجتمع المدني؟

3- عدم إرساء المحكمة الدستورية

يمثل عدم إرساء المحكمة الدستورية من أبرز المحاذير التي تمسّ من نزاهة تحديد عتبة بنسبة 5 في المائة، إذ مثلت قوانين انتخابية تتعلق بالعتبة على وجه الخصوص محل طعن في عدم الدستورية أمام المحاكم الدستورية في عديد بلدان العالم وبالخصوص في ألمانيا وبلجيكا. توجد حاليًا هيئة وقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، ولكن تمرير العتبة في ظل غياب المحكمة الدستورية، التي من المفترض أن تضم أعضاء أكثر قدرة على الحسم في دستورية القوانين، سيجعل القانون الانتخابي مشكوك في مشروعيته السياسية ونزاهته بالتوازي مع عدم التسليم بشرعيته الدستورية حال تمريره، والحديث دائمًا عن قانون سيكون بمثابة حجر الأساس لإعادة بناء المشهد الحزبي والسياسي في المستقبل.

مثلت قوانين انتخابية تتعلق بالعتبة على وجه الخصوص محل طعن في عدم الدستورية أمام المحاكم الدستورية في عديد بلدان العالم وبالخصوص في ألمانيا وبلجيكا

وإجمالًا، يمكن حال مصادقة الجلسة العامة على العتبة بنسبة 5 في المائة، أن توجه كتل المعارضة طعنًا للهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين على أساس ما ورد في التوطئة من إرساء "نظام جمهوري ديمقراطي تشاركي" وعلى "التعددية"، وعلى أساس مبدأي "إرادة الشعب" و"سيادة الشعب" في الفصل 2 و3 من الدستور، ومبدأ "نزاهة الانتخابات" في الفصل 55، وكذلك مبدأ المساواة بين المواطنين على ضوء تفاوت فرص المرشحين بين الأحزاب الكبيرة والصغيرة. ويمكن إجمالًا العودة في هذا الجانب لمحكمة التحكيم في بلجيكا التي قضت سابقًا بعدم دستورية عتبة 5 في المائة في بعض قراراتها على أساس خرق مبدأ المساواة بين المواطنين/الناخبين فيما قضت في قرارات أخرى بالدستورية، وكذا الحال بالنسبة للمحكمة الدستورية الفيدرالية في ألمانيا التي اعتبرت قرار وجود عتبة في الانتخابات الأوروبية مشوب بعدم الدستورية.

4- الخشية من التغول.. الانتقال الديمقراطي لم ينته

تنص المواثيق الدولية على 5 معايير كبرى لوصف انتخابات بأنها نزيهة أم لا، وهي معايير مرتبطة بالاقتراع نفسه من حيث العمومية والمساواة والدورية أساسًا، ومعايير مرتبطة بنظام الاقتراع وحق كل المواطنين أن يكونوا ممثلين في الهياكل الانتخابي، ومعايير مرتبطة بالجوانب التنظيمية، ومعايير مرتبطة بالجوانب المالية واللوجيستية، وأخيرًا معايير مرتبطة بالمناخ العام.

ويتعلق تحديد عتبة انتخابية بنسبة 5 في المائة بجانبين من هذه المعايير، الأولى حول حق التمثيلية والثاني حول توفر المناخ العام السليم. وفي ظل سياق انتقال ديمقراطي، وفي مناخ سياسي مضطرب يعكسه تغير موازين القوى داخل البرلمان، تطرح العتبة مخاوف عبرت عنها أحزاب المعارضة حول رغبة الأطراف الحاكمة في التغول على المشهد السياسي وتحجيم دور قوى المعارضة بل وإقصاءها.

يتسم المشهد الحزبي في تونس بعدد وافر من الأحزاب وبعدم استقرار في وزنها السياسي، وإن بدأت بعض مؤشرات الترشيد الذاتي على غرار انصهار التيار الديمقراطي والتحالف الديمقراطي، وأيضًا ما عكسته مثلًا التحالفات والائتلافات في بلديات 2018 على غرار تجربة "الاتحاد المدني" التي جمعت 11 حزبًا منها أحزاب بارزة على غرار مشروع تونس، وآفاق تونس، والمبادرة والجمهوري، وكذلك رفض أحزاب المشاركة في الانتخابات لوعيها بأن العبرة ليست بالمشاركة على الاتحاد الوطني الحر والتكتل الديمقراطي وأحزاب عمومًا ترشحت في دوائر ورفضت الترشح في دوائر أخرى لعلمها بضعف حظوظها فيها.

لم تنته مرحلة الانتقال الديمقراطي وهي البوصلة الموجهة في إدارة الشأن العام إجمالًا في تونس بعد الثورة وذلك مع عدم إرساء المحكمة الدستورية 

اقرأ/ي أيضًا: بعد استقالة بعض أعضائها.. هل يؤثر الصراع الحزبي على عمل البلديات؟

لم تنته في الأثناء مرحلة الانتقال الديمقراطي، وهي البوصلة الموجهة في إدارة الشأن العام إجمالًا في تونس بعد الثورة، وذلك مع عدم إرساء المحكمة الدستورية وأغلب الهيئات الدستورية، وعدم إتمام تركيز الحكم المحلي مع عدم تنظيم الانتخابات الجهوية والإقليمية بعد، وعدم الانتهاء من مسار العدالة الانتقالية من زاوية أن التوصيات النهائية لهيئة الحقيقة والكرامة ستشمل المقترحات والتدابير الضامنة لضمان عدم تكرار الانتهاكات وعدم عودة الاستبداد، وكانت قد تناولت الهيئة في جلسة استماع علنية حول تزوير الانتخابات زمن الاستبداد في صيف 2017 العلاقة العضوية بين نظام الاقتراع قبل الثورة وتغول النظام الحاكم حينها.

وإن خصوصية المرحلة التأسيسية التي قضت باعتماد نظام التمثيل النسبي بأكبر البقايا، لم تنقض بتمامها، إذ لازالت تربة الديمقراطية في تونس غير مثبّتة على النحو السابق عرضه. وإن حجة أن التمثيل النسبي سبب مجلسًا فسيفسائيًا في البرلمان غير وجيه من زاوية مثلًا أن حزبي النهضة والنداء المتحالفين بعد انتخابات 2014 حازا معًا على 70 في المائة من المقاعد، وقد تجددت حاليًا الأغلبية البرلمانية رغم تفتت حزب نداء تونس، ولم يسبق أن سقط مشروع قانون بسبب عدم توفر الأغلبية، كما أن حضور المعارضة في البرلمان ضعيف لدرجة صعوبة تحصيل 30 نائبًا أحيانًا للطعن في دستورية مشروع قانون.

وعليه الحديث عن ترشيد المشهد البرلماني غير وجيه، إلا إن كان المقصود هو تحصيل حزب ما للأغلبية المطلقة ليتمكن من تشكيل حكومة لوحده دون الحاجة لتحالف مع أي حزب آخر، وهو خيار يصعب على أي حزب أغلبي المضي فيه لوحده مستقبلًا لعديد الاعتبارات. كما توجد قناعة لدى المتابعين للشأن العام في تونس للحاجة الدائمة لاستمرار تكوين حكومات ائتلافية لا حكومات حزب أغلبية في مناخ تثبيت الديمقراطية الناشئة.

الخلاصة

تستدعي كل المحاذير السابق عرضها أن تُأخذ بعين الاعتبار من طرف الكتل الكبرى وتحديدًا حركة النهضة، ونداء تونس والائتلاف الوطني، من أجل اعتماد عتبة بنسبة 3 في المائة بدل 5 في المائة، لضمان انتخابات نزيهة غير مشكوك في سلامتها، بعيدًا عن منطق المغالبة والهروب إلى الأمام. ويمثل خيار عتبة انتخابية بنسبة 3 في المائة، على غرار الانتخابات البلدية، هو الخيار الأنسب راهنًا إذ تقترحه الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وتدعمه أغلب الجمعيات المهتمة بالشأن الانتخابي، بل والأهم أنه يحظى بدعم من بعض قوى المعارضة وتحديدًا كتلة الجبهة الشعبية.

ورغم محدودية فاعلية عتبة نسبة 3 في المائة عن عدم اعتماد عتبة بصفة إجمالية، تظل الخيار الأفضل لضمان نزاهة الانتخابات وتوفر مناخ ثقة بين المتنافسين، على أن تكون هذه النسبة خطوة تدريجية قبل إرساء نسبة 5 في المائة في انتخابات 2024، وهي النسبة المعمول بها في أغلب دول العالم، حينما تكون قد انتهت مرحلة الانتقال الديمقراطي، في معناها المؤسساتي على الأقل، وتعقلنت طوعيًا الخريطة الحزبية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الانتخابات الجهوية.. انتخابات منسية

آفاق تونس.. حزب ضبابي الآفاق