"عاش عاش الاتحاد.. أقوى قوة في البلد" هو شعار دائمًا ما يرفعه النقابيون في تونس فخرًا بالاتحاد العام التونسي للشغل، وليس هذا الشعار من قبيل المديح بالتعظيم، ذلك أن الاتحاد ليس فقط أكبر منظمة نقابية في البلاد، بل كذلك أكبر قوة تأطيرية بحوالي 700 ألف عضو. وحين يقال اتحاد في تونس، فالمقصود عرفًا اتحاد الشغل، رغم أنه توجد منظمات تبدأ مسمياتها باسم الاتحاد، في مقدمتها اتحاد الصناعة والتجارة، وهو أكبر منظمة للأعراف.
الاتحاد العام التونسي للشغل، هو أكبر منظمة نقابية في البلاد، وأكبر قوة تأطيرية بحوالي 700 ألف عضو
وعمومًا الحديث عن الاتحاد ليس بحديث عن النقابي فقط في تونس، بل حديث عن تاريخ البلاد، حيث كان له دورًا فارقًا في مختلف محطاتها بداية من الاستقلال وصولًا للثورة. فقد نشأ الاتحاد ليس فقط صوتًا للشغالين، بل كذلك صوتًا باسم التونسيين، وهذا الدور السياسي أو الوطني كما يسميه قادة الاتحاد، لا يقل أهمية وثقلًا عن دوره النقابي أو الاجتماعي.
اقرأ/ي أيضًا: ما هي ملامح الأزمة بين حكومة تونس و"اتحاد الشغل"؟
وظل السؤال خاصة لدى غير التونسيين: كيف أصبح اتحاد عمالي يتمتع بهذا الثقل، حتى قاد حوارًا وطنيًا إثر الأزمة السياسية بعد الثورة، وهو ما جعل تونس تفوز لأول مرة في تاريخها بجائزة نوبل للسلام؟
ازدواجية الاجتماعي والسياسي
ساحة محمد علي الحامي، أمام مقر الاتحاد بتونس العاصمة، هي معقله الذي شهد مواجهات بين النقابيين والسلطة زمن الاستبداد، وظلت الساحة لليوم مكانًا يعبق بالرمزية، حتى أن الاتحاد رفض التحول لمقره الجديد والعصري بإحدى ضواحي العاصمة، مفضلًا البقاء في مقره التاريخي بساحته التي تحمل اسم أول من زرع بذرة العمل النقابي في العالم العربي عمومًا وفي تونس خصوصًا.
أسس محمد علي الحامي أول نقابة سنة 1924 بجامعة عموم العملة التونسيين، متأثرا بأشكال التنظيم الجماهيري التي عاينها خلال فترة إقامته في ألمانيا، و كذلك في مواجهة الاتحاد النقابي الفرنسي، ولكن لم يعمر هذا المولود النقابي إلا بضعة أشهر حيث حاصره الاحتلال الفرنسي وتوفي الحامي شابًا بعد أربع سنوات، ولكن لم يمت معه الحلم النقابي.
ففي خضم تصاعد النضال الوطني التونسي ضد الاحتلال الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، وهو نضال قاده الحزب الدستوري بقيادة الثنائي الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، أسس الموظف فرحات حشاد الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946، الذي أصبح لاحقًا بمثابة ركن ثابت في المشهد التونسي لا يمكن تجاوزه.
وانطلقت الحركة النقابية في منبتها تأثرًا بالحراك النقابي النشط في فرنسا، وزادت البؤر العمالية خاصة في موانئ صفاقس وبنزرت ومناجم الفوسفات في الجنوب الغربي، في انتشار الحس النقابي، ولكن تأسيس اتحاد الشغل لم يكن في جوهره فقط بعنوان مطلبية العامل التونسي ودفاعه عن حقوقه تجاه المستعمر الفرنسي، ولكن كذلك بعنوان الالتحام العمالي الجماهيري بالحراك النضالي ضد الاحتلال، ولذلك ارتبطت بسرعة العلاقة بين اتحاد الشغل والحزب الدستوري، وتصدر حشاد، الذي يبدو اليوم الشخصية الأكثر اعتبارًا بين التونسيين، ساحة المقاومة المدنية، وسافر للولايات المتحدة، وبذلك اكتسب شهرة محلية ودولية خاصة بفضل الكاريزما وقدرته على التحشيد.
مثل حشاد خطرًا حقيقيًا على مصالح المحتل الفرنسي الذي قام باغتياله سنة 1952 على يد العصابة الحمراء، الجناح السري للمخابرات الفرنسية، وهي عملية لا زالت لليوم لم تبح بأسرارها في ظل استمرار المطالب بكشف الحقيقة والمحاسبة واعتذار الفرنسيين. وإجمالًا، تطبعت منذ اغتيال حشاد مكانته السامية كرمز للنضال الوطني.
وهكذا كانت نشأة الاتحاد بجمع بين النضال الاجتماعي والنضال الوطني السياسي، بحيث رافقته هذه الازدواجية منذ نشأته إلى الآن، ولكن في ظل علاقة مركبة مع السلطة.
الاتحاد وسلطة الاستبداد.. بين المواجهة والتدجين
تراوحت العلاقة بين الاتحاد والسلطة السياسية ما بين الشد والجذب، وبدأت شراكتهما مبكرة، حيث دعم الاتحاد الحبيب بورقيبة في صراعه ضد غريمه بن يوسف قبيل الاستقلال، وتشارك التنظيمان في قائمة موحدة فازت بجميع مقاعد أول برلمان بعد الاستقلال، ثم استنجد بورقيبة الذي بات رئيس البلاد بأمينه العام أحمد بن صالح لتنفيذ البرنامج الاقتصادي الاشتراكي الذي يعرفه التونسيون جيدًا بالتجربة التعاضدية، والتي دامت لبضع سنوات بداية الستينات، قبل أن تنتهي قسرًا بتعلة فشلها وليلاحق النظام وقتها بن صالح بتهمة الخيانة العظمى.
كانت العلاقة في حقيقتها قبل السبعينات، هي أقرب لسيطرة الحزب على الاتحاد منه للشراكة بينهما. ولكن مع بداية تنفيذ السياسات الاقتصادية الليبرالية في السبعينات، ومع اشتداد استبداد النظام البورقيبي، بدأت العلاقة في التصدع حيث ظهر الاتحاد كمعارض طبيعي للنظام في غياب أي معارضة سياسية بما أنه لم يسمح بورقيبة بتشكل أي تنظيم معارض له.
حيث ظهر الأُجَرَاء كأكبر الخاسرين من السياسات الليبرالية التي قادها الوزير الأول الهادي نويرة، في المقابل برز أمين عام للاتحاد الحبيب عاشور، الذي تظهر اليوم صورته في مقرات المنظمة إلى جانب صورة حشاد، كجدار صد أمام النظام الذي كان في أشد هوجته ضد أي نفس معارض، حيث تجندت مليشيات الحزب ضد المعارضين وهاجمت مقرات الاتحاد، وبلغت المواجهة وقتها ذروتها في أحداث الخميس الأسود سنة 1978 التي خلفت عشرات القتلى.
وأجبر النظام الاتحاد على تنحية عاشور وتنصيب شخصية أخرى، ولكن فرض تدهور الوضع الاجتماعي نفسه ليظل الاتحاد كشوكة في حلقة النظام. فلم تمر سنوات على أحداث الخميس الأسود، حتى اندلعت انتفاضة الخبز سنة 1984 بسبب غلاء الأسعار وتحديدًا ارتفاع سعر الخبز، وذلك بالتزامن وقتها مع انتفاضات الخبز في مصر والمغرب بداية الثمانينات، فيما بدت ضريبة السياسات الليبرالية المتجاوزة لمصالح العمل والطبقات المتوسطة والفقيرة لحساب البرجوازية خاصة الصناعية منها.
ولاحقا، حينما صعد بن علي للسلطة بعد انقلاب 1987، استطاع تدجين الاتحاد العام التونسي للشغل عبر شراء ولاءات قياداته من امتيازات نقدية وعينية افتضحت بعد الثورة، وذلك نظير رضوخهم وقتها لسياسات النظام، غير أن الاتحاد لم يكن حقيقة كتلة موحدة، بين تيار غالب يُعرف بالبيروقراطية النقابية، يسيطر على مقاعد المكتب التنفيذي، لم يدخل في مواجهة مع ابن علي، وكان دائمًا ما يحل مطالبه الاجتماعية بتوافق مع النظام، مقابل تيارات ذات ألوان سياسية من اليساريين والقوميين تحديدًا، كانوا أبعد على الخضوع التام، وكانوا الأكثر إقدامًا في المواجهة.
حينما صعد بن علي للسلطة بعد انقلاب 1987، استطاع تدجين قيادات الاتحاد التونسي للشغل، لكن ظلت تيارات داخل الاتحاد معارضة للنظام
مثلت، في هذا الجانب، نقابات التعليم صداعًا أحيانًا لبن علي، ولكن بالنهاية كان يعقد المخلوع صفقاته مع قيادات الصف الأول. وحين الحديث عن خضوع الاتحاد لبن علي، غالبًا ما يأتي الحديث عن رجلين هما إسماعيل السحباني أمين عام الاتحاد منذ 1989 حتى 2000، وعبد السلام جراد الأمين العام الذي لحقه، والذي تولى منصبه حتى 2011 بعد الثورة.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا تعرف عن أحداث الخميس الأسود في تونس؟
الاتحاد والثورة.. ترميم العلاقة
حينما اندلعت شرارة الثورة في سيدي بوزيد، المحافظة الداخلية ضحية سياسات الإقصاء والتهميش، كانت المركزية النقابية مرتبكة بين الشارع والنظام، وفي الواقع كانت المكاتب الجهوية لاتحاد الشغل في المحافظات أكثر تحررًا ومبادرة في الالتحام بالحراك الشعبي، ولكن ظل موقف القيادة المركزية رهينًا لصف السلطة.
وحينما هرب بن علي، ظهرت هذه القيادة في موقع حرج حيث تعرت أمام التونسيين، ولذلك كان رهانها وقتها إثبات عدم خيانتها للثورة الوليدة، فقادت وقتها التحركات الاحتجاجية، ليس فقط محاولةً للبحث عن ولائها للشارع، ولكن كذلك لفرض تأطيرها على شارع منفلت بالكاد استرجع مساحاته.
وفي نهاية 2011، صعد مكتب تنفيذي جديد بقيادة حسين العباسي، لم يكن تغييرًا نوعيًا على المكاتب السابقة زمن بن علي، فالعباسي هو ابن المكتب التنفيذي السابق أصلًا. وظلت مقاعده موزعة بين المحسوبين على اليسار والقوميين من جهة والنقابيين التقليديين الذين يخف عندهم الثقل الأيديولوجي على غرار العباسي.
ظهر الاتحاد في 2012 و2013 في مواجهة حكومة الترويكا بقيادة النهضة الإسلامية، وليست مواجهة مطلبية اجتماعية فقط، بل اعتبر الاتحاد نفسه لواءً في مواجهة أي خروج عن الدولة المدنية، حيث صعد بقوة صوت المنظمة الشغيلة في عديد القضايا غير النقابية، وظهر دوره المحوري في اغتيال المعارضين الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ولكن العلاقة في جوهرها بلغت قبل ذلك مستوى المواجهة نهاية 2012، في واقعتين لازالتا آثارهما متوارثة في الذاكرة السياسية، الواقعة الأولى هي أحداث الرش في محافظة سليانة باستهداف الأمن للمحتجين برصاص الرش، أما الواقعة الثانية فهو مهاجمة مجموعات محسوبة على حركة النهضة لمقر اتحاد الشغل.
ولكن موقف الاتحاد لم يكن راديكاليًا ضد السلطة الجديدة، حيث حاول في الحقيقة لعب دور الموفق السياسي للأحزاب، وذلك منذ مبادرته للحوار الوطني سنة 2012، والتي أخذت شكلها النهائي سنة 2013، والتي انتهت بتوافق سياسي لازال لليوم يحكم المشهد التونسي، وهو توافق جعل الاتحاد وشركائه الثلاثة يفوزون بجائزة نوبل للسلام.
وفي خضم ذلك، تُوجه الاتهامات للاتحاد بركوبه على تصاعد المطلبية بفرض نسق زيادات تاريخية في الوظيفة العمومية على حساب الاقتصاد الوطني، وهو ما يواجهه الاتحاد بمشروعية هذه الزيادات أمام تدهور القدرة الشرائية للتونسيين.
رهان البقاء فوق الجميع
في النهاية، يسعى الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر قوة تأطيرية في تونس، لتعزيز مسلكه اليوم بعيدًا عن المواجهة مع السلطة، وبعيدًا أيضًا عن تدجينها له، حيث موقع الشراكة كما يريد ويعلن، وهو موضع البقاء فوق الجميع كما يضمر، وهو ما يسمح له بدور المحايد الإيجابي، أو الشريك الفاعل للمشهد العام في إطار مسؤوليته الوطنية كما يسميها دائمًا في أدبياته.
وفي هذا السياق، يشارك الاتحاد مثلًا في وثيقة قرطاج، ولكنه يرفض في نفس الوقت المشاركة في الحكومة، وذلك للحفاظ على مسافة التحرك الذي يحبذها دائمًا. فلقد ورث نورالدين الطبوبي الأمين العام الحالي للاتحاد، من سابقه العباسي، منظمة استطاعت بناء إرث ينظر إليه جزء كبير من التونسيين بفخر، ولكن السؤال دائمًا هو رهان المحافظة على مسافة متوازنة مع السلطة خاصة مع عودة النظام القديم لرأس السلطة الذي قد يستبطن عودة الوصاية على الاتحاد، وهو ما يصعب تحقيقه في فضاء ما بعد الثورة الذي استعادت بفضله المنظمة الشغيلة مكانتها.
ولكن في المقابل تأتي أسئلة عديدة حول سيطرة البيروقراطية النقابية والتشكيلات اليسارية على الاتحاد الذي يرنو أن يحظى بثقة جميع الفاعلين السياسيين، وحول الخشية من لعب الاتحاد لدور شاهد الزور على فشل منظومة الحكم، وكذلك حول سؤال قدرة المنظمة الشغيلة على نكران الذات أحيانًا، وما قد يعنيه من تحديات داخلية بالنسبة إليها، وذلك بعنوان التضحية لانتشال البلاد من أزمة تختلف الرؤى حول حلولها.
يسعى الاتحاد التونسي للشغل، تعزيز مسلكه كشريك محايد بين السلطة والشارع، أو بالأحرى باعتباره "فوق الجميع"
وفي المقابل فإن الدور الإيجابي للاتحاد هو بتمثله جدار صد أمام مشاريع الخصخصة وبرامج المانحين الدوليين المكلفة اجتماعيًا. في النهاية الاتحاد أكثر من مجرد نقابة، وأكبر من حزب، هو الكيان الأكثر قدرة على التأثير في تونس، إنه الوتد لا يمكن أن تشتد الخيمة التونسية دونه.
اقرأ/ي أيضًا: