على الساعة الثالثة فجرًا من صباح الخميس 3 جانفي/كانون الثاني 2018، وتحت جناح الظلمة، وصل إلى مدينة النفيضة، بولاية سوسة، رتل من قوات حفظ النظام وتشكيلات أمنية متعددة الاختصاصات لتحاصر أكثر من ثمانين سيارة أمنية المجمع السكني الحديث على مشارف المدينة ليتم لاحقًا إخلاء المساكن بالقوة العامة.
هي مساكن مشيّدة ضمن إنجاز البرنامج الخصوصي للسكن الاجتماعي تحت إشراف وزارة التجهيز والمجلس الجهوي لولاية سوسة، وضمن برنامج وطني يشمل عديد الولايات في تونس. وهو مشروع بتمويل ميسر من الصندوق السعودي للتنمية، ومقام على أراضي على ملك الدولة التونسية، وقد انطلقت عملية الإنجاز في 29 مارس/آذار 2016 عن طريق مقاولات خاصة بموجب صفقة عمومية أطلقتها وزارة التجهيز. ويضم هذا المشروع بمدينة النفيضة 290 مسكنًا اجتماعيًا فرديًا وتهيئة شاملة للمقاسم من تعبيد وتنوير وكهرباء وغاز وغيرها من مكونات البنية التحتية.
سيارات قوات الأمن قبالة المساكن الاجتماعية في النفيضة (ماهر جعيدان/الترا تونس)
اقرأ/ي أيضًا: السكن في تونس.. حلم المواطن ومشكل الباعث العقاري
وجاء التدخل الأمني بالمجمع السكني إثر بلاغ صادر من ولاية سوسة صبيحة 1 جانفي/كانون الثاني من السنة الجديدة تحدث عن اعتداء على مساكن بصدد الإنجاز ليلة رأس السنة الإدارية واقتحامها "من طرف مجهولين وتحوزهم بها عنوة ودون وجه حق". كما حمل الولاية المواطنين مسؤولية الأضرار التي يمكن أن تلحق بالمساكن، داعية إلى إخلائها فورًا.
وأعلنت ولاية سوسة، في ذات البلاغ، عن مواصلة اللجنة الجهوية لإسناد المساكن إتمام الإجراءات المتعلقة باختيار المنتفعين وفق الشروط والمقاييس المضبوطة بالأمر عدد 1224 بتاريخ 30 أوت 2012 المتعلق بالبرنامج الخصوصي للسكن الاجتماعي، مشيرة أنه سيقع الإعلان للعموم بنتائج فرز المطالب واختيار المنتفعين حال ختم اللجنة أعمالها، مضيفة أيضًا أنه يمكن تقديم الاعتراضات خلال الآجال القانونية التي ستضبط لاحقًا.
تحول "الترا تونس" إلى مدينة النفيضة عشية إخلاء المساكن بالقوة العامة، وتواصل مع المواطنين الذين اقتحموا المساكن، كما تواصل مع الجهات المعنية من عمدة المدينة والبلدية إضافة للمجتمع المدني.
المواطنون المستولون على المساكن: "الزواولة أولى"
انطلقنا من مدينة سوسة نحو مدينة النفيضة، وهي إحدى معتمديات الولاية ذات الاتساع الجغرافي الممتد والمناطق الريفية الشاسعة. وبعد نحو 45 دقيقة، وقفنا في مدخل المدينة على مجمع سكني في طور الإنجاز يعتبر عصريًا بالمقارنة مع البناءات المقابلة، وهي عبارة عن مساكن صفراء وبيضاء متناسقة.
ولاحت لنا من بعيد مجموعات من النساء والشباب والأطفال أمام أبواب المنازل الحديدية، وعلى مرمى البصر كانت الأنظار متجهة نحونا. وأول ما بلغنا أولى المنازل، التقتنا امرأة في مقتبل العمر تحمل ابنتها ذات الثلاثة سنوات في حضنها، واشتكت لنا المرأة سوء الحال وسألناها عن الأسباب الحقيقية عن اقتحامها لمنزل ليس من حقها، فأجابتنا بكل صراحة أنها لم تقدم مطلبًا للتمكن من المساكن ولكنها تعتبر نفسها الأحق بهذا المسكن الذي يمكن أن يأوي ابنتها وزوجها.
مراسل "الترا تونس" مع المواطنين الذين استولوا على المساكن الاجتماعية في النفيضة (ماهر جعيدان/الترا تونس)
والتحق بنا أحد الكهول وبدت عليه علامات الفقر وشح الحياة، وأفادنا بالقول إنه أعزب ويبلغ من العمر 45 سنة وفي كفالته أم عجوز، وإنه جاء إلى هذه المساكن في ليلة ظلماء مبررًا استيلاءه على المساكن بأنها "للزوالي" (ضعيف الحال)، ولمن لا يملك منزلًا، مشددّا على أحقيته بتملكها. وهناك أمام إحدى المنازل، تحدث شاب قائلًا: "أنا عملت بالجيش الوطني سنة 1994 وخدمت الوطن، فمتى سيخدمني الوطن؟".
فاتن، متزوجة وإحدى الشابات العاطلات عن العمل وهي متحصلة على الأستاذية في الفيزياء منذ 10 سنوات، كانت ضمن المستولين على المنازل، وقالت لنا في حنق: "لا نريد تحوزًا للمقاسم والمنازل بل نريد تحوزًا بطرق قانونية، 5 سنوات ومطالبنا في الرفوف دون تجاوب من السلطة، نحن نعلم أن الأراضي تابعة الدولة ولكن هل نحن لسنا جزءًا من الدولة؟".
المستولون على المساكن الاجتماعية يؤكدون أحقيتهم بها (ماهر جعيدان/الترا تونس)
سامي أيضًا أحد الشباب العاطلين عن العمل تخرج منذ سنة 2011 وهو فرد من عائلة متعددة الأفراد، جاء ضمن عائلته وتحوز أحد المنازل، وقد صرخ عند قدومنا قائلًا: "الزواولة أولى بالسكن وهذه المساكن للمحتاجين، ومن الشروط أن يكون لك عمل للحصول على منزل، اعطني عملًا وسأبني منزلي دون سند منكم".
كانت هذه عينة من المتحوزين على المنازل، وكان قد بلغ عدد المساكن المقتحمة خلال الليلة الأولى 60 منزلًا وقد ارتفع العدد إلى 150 منزلًا إلى حدود الأربعاء 2 جانفي/كانون الثاني 2018، وقد برزت خلال اليوم الثاني فئة لا تمت للفقر بصلة بل هي ميسورة الحال، وذلك مع ملاحظة وجود بعض السيارات الخاصة رابضة أمام بعض المنازل. وقد أكد لنا الجميع أنهم من أصيلي مدينة النفيضة وليسوا من الوافدين عليها.
اقرأ/ي أيضًا: آخر سكّان "الوكايل"... انتظار الموت تحت سقف متداعي؟!
البلدية: نطالب بتمكيننا بحصة من الأراضي الدولية
اتصل "الترا تونس"، مواصلة في استقصاء الموضوع، بمعتمدة المدينة أمل سعداوي شويخة التي أفادت أن مجموعة من المواطنين استولت على 150 مسكنًا ليلة رأس السنة الإدارية 2019، وفق ما سجلته عدل تنفيذ تواجدت بالمكان، وذلك من جملة 292 مسكنًا من المساكن المخصصة لفائدة العائلات محدودة الدخل التي تتوفر فيهم شروط الإسناد.
معتمدة النفيضة لـ"الترا تونس": قائمات المنتفعين بالمساكن الاجتماعية لا تزال في طور الإنجاز وستكون جاهزة خلال الأشهر القليلة القادمة
وأشارت محدثتنا أن هذه المنازل في طور الإنجاز وبلغت نسبة تقدم الأشغال 85 في المائة، مضيفة أن قائمات المنتفعين لازالت في طور الإنجاز وستكون جاهزة خلال الأشهر القليلة القادمة.
ونظرًا لتداخل العديد من الأطراف من مكونات المجتمع المدني والمجلس البلدي، اتصل "الترا تونس" أيضًا بابراهيم بلقاسم، رئيس لجنة الأشغال والشؤون العقارية ببلدية النفيضة، الذي اعتبر أن الحل لا بد أن يقترن بحل الإشكال العقاري قائلًا: "لا نطالب عاجلًا بحل للرسم العقاري 6648 الذي يمكن أن يأخذ وقتًا طويلًا، بل نحن نطالب وزارة أملاك الدولة، بما أنها فوتت للخواص والقطب التكنولوجي وشركة إيطالية خاصة ووكالة العقارية للسكنى لإنشاء مناطق صناعية، أن تفوت لبلدية النفيضة أيضًا في مساحة من الأراضي الدولية في منطقة "ريقوتا" ومنطقة القرنة ومنطقة أخرى على طريق القيروان بمساحة جملية تقدر بـ30 هكتارًا وذلك لتتكفل البلدية بتهيئتها كمقاسم سكنية".
بلدية النفيضة تطالب بتمكينها من أراضي دولية لبناء مساكن (ماهر جعيدان/الترا تونس)
وأضاف المستشار البلدي أن هذا الحل المقترح سيحل مشاكل السكن والفوضى الحاصلة في النفيضة والاستيلاء غير المشروع على الأراضي الدولية.
أما بالنسبة للمساكن الاجتماعية محل الاشكال، أشار أن الملف بيد وزارة التجهيز والمجلس الجهوي للولاية مؤكدًا أن المجلس البلدي لم يكن طرفًا في اللجنة الجهوية لإسناد المنازل، مضيفًا أن المجلس إثر انتخابه طالب السلط، قبل الاعلان عن قائمة المنتفعين، بدراسة مطلب البلدية في التفويت بأراضي دولية، وهو المطلب الذي تم تجاهله وفق ما يؤكد محدثنا.
ويضيف إبراهيم بلقاسم لـ"الترا تونس" أن النتيجة هي هذه الفوضى المشهودة وفق تعبيره، مشيرًا أن منح عمدة المدينة لشهادة تصرف في الملكية لمواطنين على ملكهم بناءات فوضوية وعشوائية تتضمن قرارات هدم قد ساهم في الفوضى باعتبار وجود تحوز أملاك بشكل غير قانوني على أمل التسوية اللاحقة.
وشدد محدثنا، رئيس لجنة الأشغال والشؤون العقارية ببلدية النفيضة، على ضرورة تفهم الوضعية الاجتماعية الكارثية لمواطني النفيضة، مؤكدًا أن السبب يكمن في ملف الأراضي الدولية، ومضيفًا أن الحل لا يكون إلا عبر الدولة.
المجتمع المدني: ماذا بعد استعمال القوة العامة؟
في سياق متصل، التقى "الترا تونس" بالناشط في المجتمع المدني معز دبش، وهو رئيس جمعية النفيضة 6648، الذي أكد على رفض الحلول الأمنية في التعامل مع المسألة الاجتماعية في النفيضة معلقًا بالقول: "نحن ضد الفوضى والحركات غير القانونية لكن ماذا بعد خروج المواطنين بالقوة العامة؟ لا شيء. هناك تجاهل تام من السلطة الجهوية والمركزية لمطالب النفيضة التاريخية".
معز دبش (رئيس جمعية النفيضة 6648): هناك تجاهل تام من السلطة الجهوية والمركزية لمطالب النفيضة التاريخية
ووصف معز دبش النفيضة بأنها تعتبر "غنيمة" مبينًا أن وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية تمنح الأراضي الدولية إلى رؤوس الأموال من صناعيين، مؤكدًا أن خواص انتفعوا بهذه الأراضي وتصرفوا فيها بالكراء خلافًا للقوانين الجارية في حين حرمت بلدية النفيضة من أي قطعة أرض رغم المطالب الملحة، وفق تأكيده.
وأضاف الناشط في المجتمع المدني أن جمعية النفيضة 6648 أودعت ملفًا لدى هيئة الحقيقة والكرامة وانعقدت جلسة استماع، مضيفًا أنه لا يعرف للآن مآل هذا الملف. وأكد، في الأثناء في خصوص المساكن الاجتماعية، عدم استشارة أو إشراك المجتمع المدني وسلطة الحكم المحلي من طرف اللجنة الجهوية متوجهًا بالقول :" أتحدى أي شخص يعرف مكونات هذه اللجنة".
اقرأ/ي أيضًا: أحياء الآجر على ضفاف المدينة.. بوصلة الفقر في سوسة
توتر بين الولاية والبلدية
بناء على هذه الأحداث الأخيرة في النفيضة من استيلاء مواطنين على منازل بالقوة وثم إخراجهم باستعمال بالقوة العامة وجدل حول ملف المساكن الاجتماعية، يُلاحظ وجود توتر بين سلطة الحكم المحلي المتمثلة في المجلس البلدي من جهة، والسلطة الجهوية ممثلة في الولاية من جهة أخرى. وقد أدى هذا التوتر إلى انسداد أفق الحوار والتعامل السلس، وهو ما أثر سلبًا على طبيعة العلاقة السائدة.
ومن جهة أخرى، يبدو أن المجتمع المدني والأحزاب السياسية انكفأت على نفسها في المدينة بين منحازة للقاعدة الانتخابية والشرائح الاجتماعية من جهة، وبين الالتزام بالقوانين والخضوع لسلطة الدولة من جهة أخرى. غير أن تشنج الخطاب على المنابر الإعلامية خاصة من بعض أعضاء المجلس البلدي قد يفهم منه التأثير على السلطة الجهوية والمركزية للأخذ بعين الاعتبار مصالح البلدية التي تتخبط في قلة الموارد رغم ثراء المنطقة بحكم الأراضي المترامية الأطراف التي تبقى خارج سلطة البلدية وذلك بالتزامن مع جدل ملف السكن الاجتماعي.
ملف السكن الاجتماعي في النفيضة هو ملف شائك ومرجح لمزيد من التطورات (ماهر جعيدان/الترا تونس)
وتُطرح، في هذا السياق ومن جديد، مسألة شفافية مداولات اللجان الجهوية للمساكن الاجتماعية رغم ضبطها بأمر يقضي في الفصل التاسع منه بالاعتماد على المعايير التالية بالترتيب وهي حالة المسكن، والدخل الشهري للعائلة، والترسيم بقائمة العائلات المعوزة وقائمة المنتفعين بالعلاج بالتعريفة المنخفضة، والعائلات المسجلة بقائمة الانتظار، وعدد الأفراد المعاقين بالعائلة، وعدد الأبناء والأصول في الكفالة.
أما في حالة وجود الكوارث الطبيعية، لا يتم يعتمد الترتيب التفاضلي المشار إليه وذلك بإعطاء الأولوية للمتضررين من الكوارث. ولذلك يطالب المجتمع المدني بنشر المداولات وإعادة فتح تقديم المطالب وتعزيز استفادة أبناء الجهة من بين المنتفعين دون غيرهم.
ومع عدم ضبط روزنامة واضحة من السلطة الجهوية لتسليم المساكن لمستحقيها، سيبقي هذا الملف الإشكالي قائمًا ومنفتحًا على مزيد من التطورات خلال الفترة القادمة.
اقرأ/ي أيضًا:
التاكسي الجماعي في سوسة.. فوضى وبلطجة وتحميل متبادل للمسؤولية
"الكوفواتيراج" في تونس.. "إذا أوقفتنا الشرطة سنقول إننا أصدقاء"