هزت صحيفة الشروق اليومية، الساحة التونسية بما كشفته قبل أيام، حول القبض على شبكة استخباراتية يقودها رجل أعمال فرنسي يهودي مقيم في تونس، تضم وزراء ورؤساء أحزاب ومديري بنوك ومديرًا عامًا سابقًا للجمارك، وهو ما يطرح مسألة مدى الاختراق الاستخباراتي للطبقة السياسية والاقتصادية في البلاد، ولينكشف من جانب آخر حجم النشاط الاستخباراتي الأجنبي في تونس.
قبل أيام كُشف عن إلقاء القبض على شبكة استخباراتية في تونس يقودها رجل أعمال فرنسي يهودي وتضم وزراء ورؤساء أحزاب ومسؤولين إداريين
ولازالت ذكرى استشهاد المهندس محمد الزواري، المنتمي لكتائب عز الدين القسام، ماثلة أمام التونسيين، وذلك حينما اغتاله عملاء موساد أمام منزله في مدينة صفاقس نهاية 2016. كما لا يزال يتذكر التونسيون القبض على شبكة موظفين في الحالة المدنية بعدد من البلديات، قبل سنتين، كانت تمد تقارير لعملاء روس، إضافة لقوائم المعطيات الشخصية للتونسيين، بل قامت بإضافة شخصيات وهمية للسجلات المدنية.
اقرأ/ي أيضًا: الشهيد الطيار وعار السلطة التونسية
وحلّ السؤال وقتها، إن ما كان على هذا النحو النشاط الاستخباراتي للروس في تونس، التي لا تعتبر منطقة حيوية في استراتيجياتهم، فماذا عن الاستخبارات الأخرى التي تَعتبر بلدانها أنّ تونس إما امتداد لنفوذها، أو تسعى لوضع قدم فيها.
هل أصبحت تونس منصة إقليمية للمخابرات العالمية؟
ليست أي دولة في العالم بمنأى عن مجال الاستهداف الاستخباراتي، ودائمًا ما تطالعنا أخبار اكتشاف أكبر دول العالم لشبكات استخباراتية وجاسوسية ترعاها الدول الصديقة قبل المعادية، وعليه فتونس ليست استثناءً، وذلك بخصوص ما تكشفه تقارير صحفية بين الفينة والأخرى حول كشف شبكات استخباراتية ناشطة.
ومن المجحف القول كذلك بأن وضع ما بعد الثورة هو الذي أدى لفتح الأبواب للأجهزة الاستخبارية الأجنبية، كما يدعي البعض، خاصة من أنصار النظام السابق، حيث لا خلاف أن هذه الأجهزة كانت تنشط زمن الاستبداد، وربما تبين وثائق ويكيليكس بعض النشاط الاستعلاماتي الأمريكي، وحجم اختراقاته لمراكز النفوذ وقتها.
بل سبق وأن مثلت تونس صيدًا للموساد الإسرائيلي طيلة سنوات إقامة حركة التحرير الفلسطينية في الثمانينات، حيث استطاع الجهاز الإسرائيلي اغتيال قادة صف أول من الحركة، على رأسهم أبو جهاد وأبو إياد، بين نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، في اختراقات لا زالت لليوم تحوم الشكوك حول فرضية تواطؤ نظام ابن علي في حدوثها.
غير أنه ربما زاد فعلًا النشاط الاستخباراتي، أو بالأحرى الاهتمام بتونس، بعد ثورتها، سواء إقليميًا أو دوليًا، على نحو سقوط نظامٍ وبناء آخر، وما يعنيه من تجدد الطبقة السياسية وصعود شخصيات لمراكز السلطة ربما لم تكن محل متابعة من أجهزة الاستخبارات التي دائمًا ما تسعى لتوفير المعلومة أولًا، والعمل على بناء شبكات للحفاظ على مصالح دولها ثانيًا.
إضافةً لذلك، فإنّ اندلاع الثورة باغت عديد الأجهزة الاستخباراتية بما أوقعها في سوء تقدير، بما في ذلك الأجهزة الأكثر نشاطًا على غرار الجهاز الفرنسي، وإلا لما تورطت حكومة ساركوزي وقتها في موقف أقرب للتحفظ على الاحتجاجات، خاصة وأن التونسيين لا زالوا يذكرون لليوم تصريح وزيرة الداخلية الفرنسية حينها وهي تبدي استعدادها لتوفير الغاز المسيل للدموع لأجهزة القمع التونسية.
ولكن ما يعزز حقيقة فرضية تكثف النشاط الاستخباراتي في تونس، هو ما قد باتت تمثله البلاد كمنصة ممكنة لنشاط عديد الأجهزة الاستخباراتية الموجهة تجاه الجارتين ليبيا والجزائر. ففي هذا الجانب، يأتي الحديث عن السفارة الأمريكية الضخمة الموجودة في الضاحية الشمالية للعاصمة التونسية، والتي لا تتطابق ضخامة مقرها مع التموقع التونسي في الاستراتيجيات الأمريكية، حيث اعتبرت منذ نشأتها بأنها في حقيقتها مقر لأنشطة استخباراتية تجاه ليبيا، التي كانت أحد أعداء الولايات المتحدة قبل الثورة، وكذلك الجزائر الخصم العنيد في المنطقة.
وربما لم تختلف حال الحاجة إلى النشاط من داخل تونس بعد الثورة بالنسبة لعديد الأجهزة كقاعدة تجاه جيرانها، على نحو تدهور الوضع الأمني في ليبيا بالخصوص، وذلك بما أصبحت عليه تونس كغرفة مفاوضات وصفقات في الملف الليبي، حيث غالبًا ما يلتقي الفاعلون الليبيون بالوسطاء والمبعوثين الأجانب في النزل التونسية التي أصبح بعضها أشبه بغرفة عمليات للقرار الليبي.
تمثل تونس الآن رقعة صراع استخباراتي بين عديد الدول الساعية لتعزيز نفوذها ووضع قدم في بيئة سياسية وفاعلين مستجدين في مساحة السلطة
وفي ذات السياق، سبق وأن كشفت صحيفة القدس العربي قبل نحو ست سنوات عن وجود نشاط مكثف للموساد الإسرائيلي في تونس، حيث يوجد فرع له بالعاصمة، مهمته رصد الأهداف في الجزائر، وفرع آخر في جربة، مهمته رصد الأهداف في ليبيا، فيما خُصص فرع ثالث لتونس.
اقرأ/ي أيضًا: "الثور الإماراتي الهائج".. وثائق تكشف خطة أبوظبي لإفشال الديمقراطية في تونس
وهذه الكثافة من الأجهزة الاستخباراتية التي تتجاوز تونس كهدف نحو جيرانها، يزيد من صعوبة المهمة على الأجهزة الأمنية التونسية التي ترهلت بطبعها بعد الثورة، وهي اليوم تعمل على الترفيع من أدائها، إضافة وأنه يصعب مواجهة أعتى الأجهزة الدولية التي لا يكتسب عملها طابعًا أمنيًا بالضرورة، بقدر ما تسعى للتوغل في مراكز السلطة والنفوذ وبناء شبكات مصالح تمثل قوة ناعمة خفية لهذه الدول.
لا شك أنه تنشط الأجهزة الأمريكية والفرنسية والبريطانية والألمانية والإيطالية وغيرها بما في ذلك الروسية، التي خصصت عملاء للحصول على وثائق الحالة المدنية للتونسيين، كما سبق ذكره، بل ربما انضاف لاعبون جدد على غرار الإماراتيين، حيث تواترت تقارير صحفية وتسريبات حول تواصل رجل الإمارات الأول محمد دحلان بعدد من القيادات السياسية التونسية لتجنيدها لصالح الأهداف الإماراتية خاصة منها التخريبية التي تستهدف ضرب مسار الانتقال الديمقراطي.
غير أن ما يثير الانتباه إجمالًا، هو حجم الاختراق المحقق في أعلى مراتب السلطة، على النحو المذكور في التقرير الصحفي الأخير، إضافة لسهولة عملية الاستقطاب وبخس البيع والشراء.
في بؤس اختراق السلطة في تونس
تمثل تونس اليوم رقعة للصراع الاستخباراتي بين عديد الدول الساعية لتعزيز نفوذها ووضع موطئ قدم في بيئة سياسية وفاعلين مستجدين في مساحة السلطة. وكما يرتع عديد السفراء في البلاد ويقابلون رؤساء الأحزاب، بل أحيانًا مسؤولين إداريين، وتتحرك لوبيات للاستقطاب والتجنيد في مختلف المجالات.
ويساعد حقيقة تفتت سطوة الاستبداد والصراع غير المحدود بين مراكز القوى في الداخل والخارج، في كشف أوراق الحرب الخفية بينها، بحيث أصبحت أدوات الممارسة السياسية والصحافة والأعمال تكشف تخندقها نفسها بنفسها في معارك لم تعد خافية في تونس الصغيرة أين تعكس الأضواء ظلمات أغلب كواليسها.
وفي هذا الجانب، يُستذكر إيقاف الحكومة، في إطار ما أسمتها الحرب ضد الفساد، لرجل الأعمال الشهير شفيق جراية وهو أحد ممولي حزب نداء تونس في قضية أمن قومي، في علاقة بليبيا هي اليوم من أنظار المحكمة العسكرية، شملت إيقاف مديرين رفيعين في وزارة الداخلية من بينهم عماد عاشور المدير العام السابق للمصالح المختصة، وهي إدارة تتولى المهام الموكلة لأجهزة الاستخبارات. حيث تظهر هذه القضية، في أحد جوانبها، تصفية حسابات من لوبي تجاه آخر في معركة كسر عظام لم تنته بعد.
وفي ذات السياق، قد لا يخرج الكشف عن الشبكة الاستخباراتية مؤخرًا عن هذا الإطار، حيث إن الصحفية صاحبة التقرير الصحفي، منى البوعزيزي، معروفة بقربها من بعض دوائر صنع القرار خاصة داخل وزارة الداخلية، بل إن برهان بسيس، بوق الدعاية السابق لابن علي وأمين السياسات الحالي بحزب نداء تونس، أصدر ما أسماه بلاغًا شخصيًا للرأي العام، يؤكد رواية التقرير الصحفي، وأضاف تفاصيل بأن رجل الأعمال الفرنسي، الذي نشر صورته على حسابه، قام بتجنيد "شخصيات سياسية من أعلى مستوى كانت تمده بكل ما يجري في أعلى مستويات القرار السياسي في تونس"، وبأنه ساهم في تأسيس بعض الأحزاب.
بتجاوز هذا العنصر في التحليل، تطرح، أساسًا، مسألة اختراق الطبقة السياسية العليا، والحديث عن وزراء ومستشارين، إضافة للطبقة الإدارية، والحديث عن موظفين سامين في عدد من الوزارات، إضافة للطبقة الاقتصادية، والحديث عن مديري بنوك، مدى التوغل الاستخباراتي والقدرة على توجيه القرار الوطني في تونس.
وقد كشفت بعض التفاصيل المتداولة عن كيفية عملية الاستقطاب عبر عطايا مالية وعينية للمجندين، بما فيهم رؤساء أحزاب. ويذكر برهان بسيس أن رجل الأعمال، يرسل رسالة إلى رئيسه بعبارة "أنا اشتريته"، كلما نجح في تجنيد شخصية جديدة للشبكة الاستخباراتية.
وأخطر ما ذكره بسيس، وهو للتذكير مرة أخرى، أمين عام سياسات حزب نداء تونس، أي حزب رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان، أن الشبكة زرعت منظومة معلوماتية في المراكز السيادية العليا في تونس بما فيها قصر قرطاج، وهو ما يكشف خطورتها على الأمن القومي للبلاد.
وشملت قائمة المجندين، وفق ما أورده برهان بسيس مرة أخرى، مستشارين من محيط الرئيس السابق المنصف المرزوقي وكذلك من محيط الرئيس الحالي الباجي قايد السبسي، تم ذكرهم بالأحرف الأولى، بما يكشف عن حجم اختراق هذه الشبكة.
الغريب أن الناطق الرسمي باسم النيابة العمومية، دخل على الخط على وسائل الإعلام، ونفى وجود شبكة استخباراتية، معتبرًا أنها شبكة فساد مالي فقط، وهو ما يطرح السؤال عمّا إذا ما كان ثمة سعي لقبر القضية في مهدها، أم أن الناطق الرسمي تدخل لتهدئة الرأي العام، رغم عدم اكتمال التحريات. وقد اعتبر برهان بسيس، تعليقًا على هذا النفي، أن "الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت".
في الأثناء، بقدر ما تؤكد هذه الشبكة عن حجم اختراق الطبقة السياسية، فإنه لا يمكن متابعة هذه القضية حقيقة إلا في سياق فرضية حرب لوبيات داخل السلطة، أو على الأقل تصفية حسابات وهو ما قد جعل برهان بسيس، أمين عام حزب نداء تونس، يتحمس بشكل لافت لها، بل ويذكر تفاصيل تكشف علمه بخفايا ملف ربما لا زالت تتصارع حوله مراكز القوى في الكواليس، وسط فرضية أنه سيطيح برؤوس كبيرة تشمل شخصيات نافذة في المشهد السياسي اليوم.
بقدر ما تؤكده هذه الشبكة عن حجم اختراق الطبقة السياسية فإنه لا يمكن متابعة هذه القضية إلا في سياق فرضية حرب اللوبيات داخل السلطة
الضمنية المؤكدة في تونس، أن تعدد مراكز القوى واللوبيات وتصارعها على نحو الحراك السياسي وتمظهره أساسًا تفتت حزب نداء تونس، وصراع رجال الأعمال؛ جعل من الصعب التهدئة والقيام بتوافقات ترضي الجميع، وهو ما جعل كذلك المعارك المعلومة في الكواليس منذ سنوات تخرج في الفترة الماضية، من الغرف السرية إلى العلن، في حرب كسر عظام فيها بالضرورة غالب ومغلوب.
بهذا المعنى، وبالمستجدات الأخيرة، قد يعرف المشهد التونسي مستقبلًا تقلبات وانقلابات في العلاقات، بشكل ربما أكثر مما فاجأ التونسيين حين القبض على رجل الأعمال شفيق جراية الذي كان يفاخر أمام العلن بشرائه لولاءات نواب وإعلاميين.
اقرأ/ي أيضًا:
محمد دحلان والأربعين حرامي.. القلب النابض للمؤامرات والثورات المضادة