قرية "اللاّس" تنام وحيدة شرق "سيكافينيريا" (الكاف)، هناك في عمق سهول "سيراس" (السّرس) منبت الخصب والعطاء، تضع تاجًا من أوراق الزيتون هناءً ورجاءً في ربى أبدية الاخضرار. وتتوسط قرية اللّاس مدينتي "مكتريس" و"زنفور".
تنبت اللّاس القديمة كزهرة برية في أرض الأزل تتوسد زياتين خالدة وتغازل وادي "عمّير" الذي يخترق السّهل السّيراسي الفسيح بهدوء وشجاعة نادرة ليلتحم بشقيقه وادي "تاسة" ويكوّنا معًا ضفافًا من الخصوبة لا حدود لها، وقد نهل منها الزمان "فشاخ وهي بعد شباب". ويلمس الواقف على هضابها بعينيه غربة قديمة شبيهة بغربة زهرة "الآس" تلك الزهرة التي أرادت قديمًا أن تبصر جمالها لكن الآلهة عاقبتها فظلّت حزينة رغم جمالها وفتنة رائحتها، بذلك فـ"اللّاس" و"الآس" شقيقتان في الجمال وأخيّتان في الغربة.
اللّاس هي أقدم قرية تونسية على الإطلاق فعمرها يناهز الثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد وتحتوي على معلم "القبور الجلمودية"
إن اللّاس هي أقدم قرية تونسية على الإطلاق فعمرها يناهز الثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد والدليل على ذلك واضح كالشمس فالقرية تحتوي معلمًا أثريًا منسيًا يمتد على مساحة آلاف الأمتار وهو "القبور الجلمودية". وتُعتبر هذه القبور أو "الميغليت" أي الآثار الصخرية أقدم فعل تشييدي بشري على وجه الأرض، وهي دليل على استقرار الإنسان في أعقاب العصر الجليدي بعد قرون من التّرحل والتيه بحثًا عن بياريق الحياة الآمنة. وأشهر هذه الصروح "أحجار ستونهنج" البريطانية الدائرية الشهيرة، وأهرامات الجيزة، وجلاميد بعلبك بلبنان.
المقابر الجلمودية باللًاس مصنّفة ضمن أقدم الآثار العالمية (جمال الحيدري/ الترا تونس)
اقرأ/ي أيضًا: الكاف.. "أزيز أبواب الجنة" ونفحات الآلهة "فينوس"
والمقابر الجلمودية بقرية اللّاس صامدة لقرون رغم الإهمال والتناسي فهي تقف أمام عواصف الزمن بثبات وجلد. والموقع محدد ضمن الخارطة الأثرية التونسية ومصنف من أقدم الأثريات العالمية، وقد تعرضت حجارته للنهب والسطو في جلّ المراحل التاريخيّة وخاصة المرحلة الرومانية حيث نقل الرّومان الحجارة من اللّاس إلى مدينة "زنفور" التي كانت مركز السلطة في السهل السّيراسي الفسيح وذلك لاستكمال بناء معالم المدينة كالمسرح النصف الدائري والحمامات والساحة العمومية والمساكن والمقبرة. وهو ما أثبتته النقوش الموجودة في الموقع الاثري "بزنفور" وخاصة "قوس النصر" الذي شيّد في عهد الامبراطور الروماني " كاركلا " تخليدًا لبطولاته. ولكن يقف هذا القوس الشهير والذي يعرفه القاصي والداني بمنطقة "السرس" بصعوبة جراء الإهمال والسرقة المتواصلة لحجارته وقد ينهار في أي لحظة.
المقابر الجلمودية بقرية اللّاس صامدة لقرون رغم الإهمال والتناسي وهي مصنفة ضمن أقدم الآثار في العالم
فيما لم يبق من "الميغليت " باللّاس إلى الآن إلا ثلاثة صروح وكل واحدة تحتوي على سبعة غرف، ستّة منها متناظرة ولها تقريبًا نفس المساحة وكل غرفة هي مقبرة مستقلّة بنفسها قد تضم أكثر من عشرين ميّتًا. أمّا الغرفة السابعة فموقعها يكون في نهاية الرواق المبلّط بحجارة سميكة والذي يفصل الغرف عن بعضها البعض، ويتمثل دور هذه الغرفة السابعة في تجميع عظام الموتى كلما امتلأت غرفة من الغرف فكأنها ذاكرة المقبرة.
وقد أثبت الباحث علي إمطيمط الذي خصّ هذه المقابر الجلمودية ببعض البحوث أن عملية الدفن وتحويل العظام تتم ضمن طقوس وآداب وتراتيب بعينها يُحترم فيها الميت ومسيرته فتوضع معه بعض الأدوات والحليّ والرسائل اعتقادًا من الإنسان الأول بأن الميّت يذهب إلى حياة أخرى وبالتالي من واجب أهله أن يرتبوا له كل متطلّبات الرحلة اللائقة.
اقرأ/ي أيضًا: قصص الزيتون في تونس.. قدم التاريخ وبركة الجغرافيا
كانت اللّاس فناءً خلفيًا لـ"زنفور" الرومانية فلاحة واستجمامًا فاستغلّوا عيونها الجارية في بساتينهم الغنّاء وتربية الدّواب وزرعوا زيتونًا بلا عدد مازال بعضه شاهدًا عليهم إلى الآن. فعندما تتجول في قرية اللاّس، تندهش لعتاقة الزيتون البادية على جذوعه وأغصانه المحمّلة بقصص الأجداد فتقف إجلالًا لتتأمل الماضي السّحيق، فزيت الزيتون باللاس مميز في مكوناته ونكهته ومن شدة الطلب عليه وطنيًا ودوليًا وقد بات نادرًا وذلك حسب معطيات الدّيوان الوطني للزيت.
مطالبة بتثمين التراث الأثري في اللّاس (جمال الحيدري/ الترا تونس)
تنتمي قرية اللّاس إداريًا لمعتمديّة السّرس من ولاية الكاف تحرسها صروحها الصخرية من النسيان، حيث بات الموت والفناء في هذا المكان عنوانًا للحياة والبقاء فكل من يزور اللّاس يندهش لروعتها ومكوّناتها الجمالية الطبيعية أو تلك التي قدّها الإنسان على مرّ القرون.
وتشبه مطالب متساكني اللّاس تقريبًا أغلب مطالب قرى الشمال الغربي التونسي لكن لهم مطلب مختلف وهو إعادة الاعتبار التراثي والثّقافي لقريتهم القديمة وخاصة للقبور الجلمودية بجعلها ضمن المسلك السياحي الثقافي الوطني، ولم لا إنشاء متحف وطني يحفظ ذاكرة عصور ما قبل التاريخ لما لذلك من فوائد تنموية قد تنعكس على حياة المواطنين. ويطالبون أيضًا بتثمين الزياتين القديمة والعتيقة والمحافظة عليها كأقدم زياتين الأرض التونسية والمتوسّطية والترويج لزيتها كأبهى نكهة تونسية.
يطالب متساكنو قرية اللاس بإعادة الاعتبار التراثي والثقافي لقريتهم وجعلها ضمن المسلك السياحي الثقافي الوطني وإنشاء متحف وطني
في الأثناء، يجب على الجميع، ساسة محليين وجهويين ونخبًا وجمعيات ومنظمات، أن يقطعوا بجدّ مسافة الصعود نحو اللّاس وذلك ليعود لهذه القرية مجدها التليد وجمالها الآسر، أو ليست هي أقدم قرية تونسية؟
اقرأ/ي أيضًا:
قصور منوبة البديعة: عزلتها الجمهورية الأولى.. فهل تنصفها الجمهورية الثانية؟