21-أكتوبر-2018

جدل مستمر حول كيفية معالجة ملف المؤسسات العمومية (الشاذلي بن ابراهيم/Getty)

تعرف المؤسسات العمومية التونسية مصاعب عديدة؛ عجز مالي، وتضخم في عدد الموظفين، وإدارة بيروقراطية غير عصرية إضافة إلى ديون متراكمة لدى الصناديق الاجتماعية، والشركة الوطنية للكهرباء والغاز، والشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه إضافة للصيدلية المركزية.

بدأت كرة الثلج تكبر تدريجيًا خاصة بعد الثورة، وهو ما كشفته بوضوح تقارير دائرة المحاسبات لسنة 2013. لتدفع مشاكل المؤسسات العمومية عديد الخبراء والسياسيين إلى طرح مسألة خوصصتها، وهو طرح لطالما عارضه الاتحاد العام التونسي للشغل مستندًا إلى الدور الاجتماعي لهذه المؤسسات في حماية الطبقة المتوسطة والحفاظ على السلم الاجتماعي، داعيًا إلى إعادة هيكلتها عوض التفويت فيها مثل ما حدث مع البنوك العمومية سنة 2015.

تعرف المؤسسات العمومية التونسية مصاعب عديدة وهو ما طرح مسألة الخوصصة التي ترفضها المنظمة الشغيلة استنادًا على الدور الاجتماعي لهذه المؤسسات

وتفاقم الجدل حول التفويت في المؤسسات العمومية خاصة بعد نشر اتحاد الشغل لقائمة تتضمن المؤسسات العمومية التي تنوي الحكومة بيعها، قائمة نفتها الحكومة نفيًا قاطعًا. لكن بالنظر إلى الجانب التقني المالي، يرى خبراء أن عددًا من المؤسسات العمومية لم تعد للحكومة مصلحة في بقائها ضمن القطاع العام، وأن التفويت فيها لن ينعش الميزانية فقط بل سينشّط القطاع الخاص.

يبلغ، في الأثناء، عدد الموظفين في القطاع العام اليوم أكثر من 600 ألف موظف، فيما بلغت كتلة الأجور أكثر من 14 في المائة من الناتج الداخلي الخام وأكثر من 45 في المائة من ميزانية الدولة، وهو رقم مرتفع جدًا لطالما انتقده صندوق النقد الدولي في تقاريره الدورية. ويعمل عدد هام من هؤلاء الموظفين بالخصوص في مؤسسات عمومية تعاني عجزًا، عدا معاناتها أصلًا من مشكل ارتفاع عدد الموظفين ونسبة الأجور.

اقرأ/ي أيضًا: "ويني فلوس السياحة؟".. سؤال طرحه الشاذلي العياري لا حسم في إجابته

آخر تصريح حكومي رسمي بخصوص عجز المؤسسات العمومية كان من رئيس الحكومة يوسف الشاهد حينما أكد أن عجز هذه المؤسسات وصل إلى 6.5 مليار دينار وهو ما يقارب 16 في المائة من ميزانية الدولة لسنة 2019. وهذه الأزمة جعلت الحكومة تبحث كثيرًا في مسألة التفويت بداية من تصريح وزيرة المالية السابقة لمياء الزريبي عندما تحدثت عن إمكانية بيع حصص من البنوك العمومية، وهو تصريح أثار جدلًا كبيرًا.

وقد عاد الجدل بقوة اليوم مع حديث رئيس الحكومة عن المؤسسات "التي تنتمي للقطاعات التنافسية غير الاستراتيجية"، والتي تمثل 10 في المائة من مجموع المؤسسات العمومية، وهو ما فتح جبهة جديدة بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل.

يعتقد كريم الطرابلسي، الخبير الاقتصادي بمركز الدراسات بالمنظمة الشغيلة، أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تقييم عمل المؤسسات العمومية بطريقة ربحية لأن هناك أهدافًا اجتماعية. وقال في تصريحه لـ"الترا تونس" إنه "لا يمكن مثلًا تقييم قطاعات الصحة والتعليم بطريقة ربحية، فتقييم نجاعة المؤسسة يجب أن يأخذ بعين الاعتبار قيمتها الاجتماعية".

كريم الطرابلسي (خبير اقتصادي بالمنظمة الشغيلة): لا يمكن تقييم عمل المؤسسات العمومية بطريقة ربحية لأن هناك أهدافًا اجتماعية

 يمتلك اتحاد الشغل طرحًا يهدف إلى إعادة هيكلة البنوك العمومية عوض التفويت فيها، تشمل القيام بتدقيق شامل للمؤسسات العاجزة وإطلاق عملية إعادة الهيكلة، كما يؤكد كريم الطرابلسي الذي أشار في حديثه معنا أن مشكلة العجز مطروحة في بعض المؤسسات وليس جميعها، وأن بعض المؤسسات تحقق أرباحًا جيدة على غرار البنوك العمومية.

يتميّز، في المقابل، النظام البنكي التونسي مقارنة بالمغرب مثلًا بارتفاع عدد البنوك مقارنة بعدد السكان، والتي وصلت إلى أكثر من 22 بنكًا دون اعتبار بنك الجهات المزمع إحداثه. وثلاثة من هذه البنوك هي بنوك عمومية وهي: البنك القومي الفلاحي، المختص في تمويل مشاريع فلاحية وتمتلك الدولة والمؤسسات العمومية أكثر من 64 في المائة من رأس ماله، وبنك الإسكان المختص في تمويل مشاريع البناء والتعمير وتمتلك الدولة أكثر من 57 بالمائة من رأس ماله، إضافة للشركة التونسية للبنك التي تمتلك الدولة 83 في المائة من رأسمالها، وتبلغ نسبة ديون القطاع السياحي فيها 80 بالمائة.

اقرأ/ي أيضًا: تونس: هبات ضخمة.. وتأخر إنجاز المشاريع المتفق عليها مع المانحين!

وقد خضعت جميع هذه البنوك العمومية إلى إعادة رسملة عبر عملية تدقيق شامل سبقت رصد الاعتمادات. وتعليقًا على هذه التجربة، يقول عضو لجنة المالية في مجلس نواب الشعب سليم بسباس لـ"الترا تونس" إن تجربة إعادة الرسملة أتت بنتائج جيدة ويجب العمل بها. ودعا بسباس، الذي كان وزيرًا للمالية، لتعميم تجربة رسملة البنوك العمومية على جميع المؤسسات العمومية، موضحًا أنه يجب تصنيف المؤسسات في مرحلة أولى ثم الاستعانة بمكاتب أجنبية في القيام بعمليات التدقيق قبل البدء بعمليات إعادة الهيكلة الادارية والمالية، مضيفًا أنه يمكن التفويت في بعض المؤسسات للقطاع الخاص إن تبين أن هذه الخطوة هي الأسلم حسب تعبيره.

سليم بسباس (وزير المالية السابق): يجب تعميم تجربة رسملة البنوك العمومية على جميع المؤسسات العمومية

وبسؤال "الترا تونس" حول إمكانية إعادة رسملة المؤسسات العمومية العاجزة من أموال دافعي الضرائب وذلك مثلما حصل مع البنوك العمومية، قال بسباس إن إعادة الرسملة ستكون من الأموال المتأتية من التفويت في مساهمات الدولة في المؤسسات غير الاستراتيجية، وأيضًا من خلال التفويت في الأملاك المصادرة التي يؤكد كريم الطرابلسي، الخبير باتحاد الشغل، أنها فقدت نسبة كبيرة من قيمتها ولم تتمكن الدولة إلى الآن من التفويت فيها.

من جهة أخرى وردًا على ما نشره اتحاد الشغل حول قائمة المؤسسات التي تعتزم الحكومة التفويت فيها، أكد وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي في تصريح لـ"الترا تونس" أنه لا نية للحكومة في التفويت في المؤسسات العمومية، داعيًا إلى التثبت من ذلك بالاطلاع على جدول المقابيض المالية التي أشار أنها لا تحتوي على أية خانة تتعلق بالأموال المتأتية من التفويت في المؤسسات العمومية في مشروع قانون المالية لسنة 2019.

وأضاف الوزير قائلًا: "إذا كانت هناك عملية تفويت في المستقبل، يجب أن تكون ضمن استراتيجية كاملة. ونحن في مفاوضات متواصلة مع اتحاد الشغل بخصوص هذا الموضوع"، مؤكدًا على وجود إجماع من مختلف الأطراف على ضرورة القيام بإصلاحات في المؤسسات العمومية العاجزة وبالخصوص على مستوى تسييرها، وماليتها وإعادة هيكلتها.

محمد الطرابلسي (وزير الشؤون الاجتماعية):  لا نية للحكومة في التفويت في المؤسسات العمومية وهناك إجماع على ضرورة القيام بإصلاحات صلبها

وليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيها تونس جدلًا حول التفويت في المؤسسات العمومية، إذ عرفت البلاد تجربة خوصصة طرحها الوزير الأسبق الهادي نويرة وتم تنفيذها في الثمانينيات، حينما عرفت تونس أزمة اقتصادية خانقة دفعت نحو تبني برنامج إصلاحات تضمن التفويت في بعض المؤسسات العمومية كليًا أو جزئيًا.

يعتبر اليوم البعض أن تلك التجربة ناجحة بعدما بلغت نسبة النمو حينها إلى أكثر من 4 في المائة، فيما يؤكد البعض الآخر على اختلاف السياقات الاجتماعية والتوازنات المالية بين تلك الفترة من تاريخ تونس واليوم. بذلك وفي ظل عجز المالية العمومية وتواصل نزيف المؤسسات العمومية إضافة إلى الأزمات السياسية، يستمر تباين وجهات النظر بين الحكومة التي تعتبر التفويت حلًا للخروج من الأزمة الاقتصادية، واتحاد الشغل الذي يعتبره إجهازًا على الاقتصاد الوطني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قانون المالية 2019.. خنق جديد للمواطن أم الانفراج الموعود؟

عدم دفع موظفي الصناديق الاجتماعية لمساهماتهم.. امتياز عمّق أزمة الصناديق