15-أبريل-2023
البرلمان التونسي

"حضور الدبابة أمام البرلمان، كان إعلاناً لمرحلة جديدة تدخلها الساحة السياسية التونسية" (صورة أرشيفية/ياسين محجوب/أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

16 مارس/آذار 2001، كتب الصحفي اللبناني سمير قصير مقاله الشهير "عسكر على مين؟" ونشره في جريدة النهار اللبنانية. وهو مقال انتقد فيه سلطة الجيش، الأمر الذي كلفه مطاردات متعددة انتهت باغتياله في 2 جوان/يونيو 2005.

في جلّ بلدان العالم وخاصة في تلك التي ترزح تحت الديكتاتوريات والحكم الفردي والأنظمة المشوهة، القائمة على صراع مراكز القوى، توجد موضوعات حارقة ومناطق محرمة لا يمكن الولوج إليها.

الجيش والبوليس.. ثنائية تعتبر عنصرًا لتشكيل عصب الدولة ووسيلتها للدفاع عن نفسها في حالة الاعتداء.. قوة السلاح واليد المعلقة فوق الرؤوس لهدف نبيل قد يتحوّل في بعض الأحيان إلى تهديد

مواضيع وتفاصيل تعتبر من التابوهات الخطيرة. أبرزها الجيش والبوليس. هذه الثنائية التي تعتبر عنصرًا لتشكيل عصب الدولة ووسيلتها للدفاع عن نفسها في حالة الاعتداء الخارجي والداخلي. قوة السلاح واليد المعلقة فوق الرؤوس لهدف نبيل قد يتحوّل في بعض الأحيان إلى تهديد.

نتحدث، في تونس، عن الجيش الذي نصفه بالوطني لأنه لطالما وقف لصالح الشعب وانتصر لتحركات الشارع وحمى المواطنين. صورة البوليس/الشرطي الذي يحاول التهجم على متظاهر أيام الثورة التونسية والجندي الذي كان يحميه رسخت صورة في المخيال الجمعي: الجيش التونسي دائمًا في صف المستضعفين.

 

الجيش

محتج في أيام الثورة الأولى سنة 2011 يقدم ورودًا لعسكري (Getty)

 

ماذا لو قاربنا المسألة بعيدًا عن فيض المشاعر والأحاسيس؟ ماذا لو حاولنا فهم واقع المؤسستين الأمنية والعسكرية في بلدنا؟ هل كانتا في حجم اللحظة التاريخية منذ 25 جويلية/يوليو 2021؟ هل تخلصتا من أدران عقود من المخاتلات البوليسية بالنسبة للأولى والركود والجمود بالنسبة للثانية؟ ألم تتحول قوة السلاح بشقيها ذات 25 جويلية إلى وسيلة للتخندق لصالح شق سياسي على حساب الآخر؟ ماذا وراء اتحاد المؤسستين واصطفافهما وراء قيس سعيّد؟ وإلى أي مدى يمكن أن تستمر قواعد اللعبة بالطريقة التي تشكلت بها في 25 جويلية/يوليو 2021؟

  • دبابة أمام البرلمان: العسكر نافضًا غبار صمته في عيون الديمقراطيين

ليلة 25 جويلية، كان المشهد الأبرز هو وقوف رئيس البرلمان حينها راشد الغنوشي أمام باب البرلمان التونسي مع حضور الجيش والباب موصد وجنود يحيطون بدبابة.

حضور الدبابة أمام البرلمان، كان إعلاناً لمرحلة جديدة تدخلها الساحة السياسية التونسية من خلال إقحام المؤسسة التي كانت دائمًا تقف على الحياد من الجميع

حضور الدبابة أمام البرلمان، كان إعلاناً لمرحلة جديدة تدخلها الساحة السياسية التونسية من خلال إقحام المؤسسة التي كانت دائمًا تقف على الحياد من الجميع. فالعسكر كان خيمة تحمي الجميع (أو هكذا قٌدم على الأقل) على امتداد سنوات طويلة.

وهو ما أدى إلى بناء نوع من الخطاب المشترك حول هذه النقطة بين مختلف الفاعلين السياسيين من مختلف التوجهات الفكرية. فالجميع يعترف بتفرد الوضعية التونسية من خلال ثبات الجيش في الثكنات وترك الساحة السياسية للمدنيين. هذه السردية تعززت بتصاعد العمليات الإرهابية التي كان الجيش هو الحاجز المنيع ضدّها. لكن سيرُورة هذه السرديّة لم تصمد طويلًا منذ 25 جويلية 2021، ذلك أنّ الأمر يتعلّق أساساً بقطع مفاجئ مع التموقع المألوف للمؤسّسَة العسكريّة مع ما يحدُث من مستجدّات على الساحة الوطنية.

 

البرلمان التونسي

صورة إبان 25 جويلية 2021 من أمام مقر البرلمان التونسي (ياسين محجوب/أ.ف.ب/Getty)

 

كانت القطيعة قصوويّة فجّة من خلال بعث رسائل واضحة للجميع بأن المؤسّسة الصامتة - كما تُسَمَّى - تكلمت وأصبحت جزءًا من اللعبة السياسية. هذا الموقف الذي يقطع مع ممارسات تاريخية معتادة للعسكر في الدولة الحديثة منذ الاستقلال، وضع الطبقة السياسية أمام إحراج مرده عاملان أساسيّان، حالة من التخبّط وعدم الفهم والإلمام بكلّ تفاصيل المشهد نظراً لتسارع الأحداث من جهة، وهيبة المؤسّسة العسكرية التي ألقت بظلالها على الخطاب السياسي الذي لم يشر صراحةً إلى أن الجيش منخرط فيما يحصل.

تغيّرت المعادلة السياسيّة في تونس، لا من خلال تواجد الجيش في قلب التجاذبات، ولكن من خلال اجتماع سعيّد بقيادات الجيش علناً مع البث المباشر في التلفزة الوطنية وتنصيب قادة عسكريين على رأس وزارات مختلفة

لقد تغيّرت المعادلة السياسيّة في تونس إذاً، لا من خلال تواجد الجيش في قلب التجاذبات، ولكن أيضاً من خلال إصرار قيس سعيّد على المضيّ قُدماً في خلع عباءة الخارج عن نص الدستور من خلال الاجتماع بقيادات الجيش علناً مع البثّ المباشر في التلفزة الوطنية. كما يكتمل المشهد بعسكرة الدولة بتنصيب قادة عسكريين على رأس وزارات مختلفة وهو ما يمكن اعتباره بداية تطبيع مع وضعيّة كانت تعتبر في الماضي مجرّد استثناءٍ في وزارة الدفاع.

أمام هذه الأزمة السياسيّة التي استفحلت في البلد، كان الشقّ المعارض بمختلف توجّهاته في حالة من التشتّت بسبب الاختلافات الفكريّة التي سمحت بمزيد ترسيخ الوضع الذي تستند فيه سلطة سعيّد على القوى الحاملة للسلاح، مع تحديد جديد لمراكز النفوذ في منظومة جديدة بصدد التشكّل، ومع مجاراة للرّئيس الذي تستثمر كلّ الأطراف المحيطة به في شعبيّته الصامدة.

  • في مجاراة الرئيس: مصلحة وطن أم لعبة لمراكز القوى العسكرية؟

بات واضحاً للكثيرين أنّ منظومة 25 جويلية تقوم على خطاب شعبوي لا يولي أهميّة كبيرة لحقيقة الوضع الاقتصادي والأزمة السياسية. موقفٌ يتعزّزُ معَ صمت للجيش والبوليس. قوّتان تمّت دعوتهما، من سياسيين معارضين، أكثر من مرّة للتدخّل لمحاولة تعديل مسار كانتا من الفاعلين فيه منذ البداية. لكنّ اللافت بعد أكثر من سنتين، لا يبدو أنّ أيّ من الطرفين راغب في التحرّك لصالح إيقاف الانهيار. 

والمتمعّن فيما يحدث في تونس، قد يتساءل: ضمن أيّ آليّات يمكن للجيش أو البوليس أن يتدخّل في المسار؟ طبعاً، تأتي شرعيّة الاستفسار من خلال قراءة تعتمد عناصر قديمة لا تأخذ تغير المعطيات بعين الاعتبار. فمنظومة 25 جويلية كانت مستندة على قوّة السلاح منذ البداية. لذلك، عندما تحوّل الجيش من ظلال الصمت إلى أضواء التوظيف، أصبح جزءًا من المعادلة السياسية.

منظومة 25 جويلية اختارت طريقًا بلا عودة فلا حوار مع المعارضين مع إحكام للقبضة على الدولة من خلال المؤسسة العسكرية الصامتة ووضعية تزداد تعقيدًا مع زيادة العنف البوليسي وسطوة وزارة الداخلية

وبات من البديهي طرح أسئلة حول جدوى هذا الاصطفاف وما يمكن أن يعود به من مصالح شخصية للقيادات التي لطالما كانت في كواليس المشهد السياسي المتغير منذ سنوات واكتفت بالمراقبة حتى يوم 25 جويلية 2021؟

يبدو مما تقدّم أن منظومة 25 جويلية اختارت طريقًا بلا عودة؛ فلا حوار مع المعارضين مع إحكام للقبضة على الدولة من خلال المؤسسة العسكرية الصامتة والمعبدة للطريق أمام رئيس الجمهورية. وهي وضعية تزداد تعقيدًا مع زيادة العنف البوليسي وتواصل سطوة وزارة الداخلية.

  • وزارة الداخلية منذ 25 جويلية: الأمن الجمهوري دائمًا "مضمون"؟

وزارة الداخلية كانت ولا تزال على امتداد عقود طويلة "مضمونة" لمن يمتلك السلطة ويعطي الأوامر. وعلى عكس ما يتوقعه الكثيرون، فهذه ليست من ميزات دولة المؤسسات بل هو إرساء لثقافة الخشونة والإفلات من العقاب والتغوّل داخل الدولة.

فالبوليس في تونس بات العصا التي يلجأ إليها السياسيّ الذي يصل لسدّة الحكم لقمع معارضيه. ولنا فيما حصل منذ 25 جويلية 2021 خير دليل على ذلك. فمن توفيق شرف الدين إلى كمال الفقي، كانت حصيلة الاعتداءات والترهيب في ارتفاع، وعادت وزارة الداخلية لاستهداف النشطاء والسياسيين.

وزارة الداخلية كانت ولا تزال على امتداد عقود طويلة "مضمونة" لمن يمتلك السلطة ويعطي الأوامر وعلى عكس ما يتوقعه الكثيرون، فهذه ليست من ميزات دولة المؤسسات

يسارع مساندو مسار 25 جويلية إلى الحديث عن أمن جمهوري يطبق التعليمات لضمان الأمن مهما اختلفت الجهة التي تعطي الأوامر. يأتي  هذا التبرير من مبدأ العنف الشرعي الذي تحتكره الدولة. لكن، ما يمكن أن نلاحظه هو تحوله مع منظومة 25 جويلية إلى مجرد واجهة تخفي انتهاكات وتنكيلًا بالمواطنين من شوارع المظاهرات إلى الملاعب والقاعات الرياضية. لطالما كان البوليس عماد نظامي بورقيبة وبن علي مع تحييد للجيش، لكن الأمور تغيّرت إذ كان تحالف هاتين المؤسستين بداية تشكيل لنظام قمعي يلغي أي اختلاف.

 

قوات أمنية أمام البرلمان

قوات أمنية أمام البرلمان في تونس (صورة أرشيفية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

  • عود على بدء: التّحالف الذي أعاد البلد إلى الوراء

لقد كان التحالف بين الجانب السياسي (ممثلًا في رئيس الجمهورية قيس سعيّد أساساً) والجانبين العسكريّ/الأمني سبباً في مشهديّة مألوفة في تاريخ الدولة الحديثة. فالدستور الجديد يضع الرئيس فوق كل محاسبة ويجعله عماد المنظومة؛ هو نظام رئاسوي يحتكر فيه سعيّد السلطة مع مساندة من القوات الحاملة للسلاح.

مثّلت الثورة التونسية قطيعة مع نظامي استبداد داما أكثر من نصف قرن. وقد شهدت العشرية الماضية العديد من الإشكاليات الاقتصادية والأزمات السياسية التي كانت هناك محاولات لتجاوزها بفضل مؤسسات تم إرسائها لحماية الدولة من الانهيار. لكن اللافت أن تحالف منظومة 25 جويلية أضعف الأجسام الوسيطة التي كانت الرقيب على المسار الديمقراطي.

حملات الإيقافات والتشويه الذي يطول المعارضين عموماً ليسَ سوى بداية إرساء نظام يتقلّص فيهِ هامشُ الحريّة تدريجيّاً

فالاتحاد العام التونسي للشغل، الرابِطة التونسية للدّفاع عن حقوق الإنسان وعمادة المحامين لم تعد تلعب نفس الدور تحت الضغط المسلَّط عليها من طرف السّلطة.  ولعل دعوات الحوار التي لم تجد تفاعلًا من الرئيس خير دليل على ذلك.

يسوّق رئيس الجمهوريّة - ومن ورائه من يدعمه - إلى ضرورة شنّ حرب ضروس على الفساد. لكن اللافت أنّ المنجز لم يكن في حجم التوقّعات ولنا في تراجع الرضا على منظومة 25 جويلية خير دليل على ذلك. لقد أحسّ سعيّد بالخطر وسرّع في عمليّات القمع مستخدمًا أحد ذراعي التحالف وهي وزارة الداخليّة مع تواطؤ جزء من القضاء التونسي، فحملات الإيقافات والتشويه التي تطول المعارضين عموماً ليست سوى بداية إرساء نظام سلطويّ يتقلّص فيهِ هامشُ الحريّة تدريجيّاً.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"