22-مارس-2024
جامع القصبة

جامع القصبة معلم فريد عصره ووحيد دهره (مصدر الصورة: ويكيبيديا)

 

كانت القيروان عاصمة إفريقية ومدينةً فخمةً ذات زخم حضاري وروحاني يميل إلى القداسة لدى الكثيرين إلى حدود القرن السابع هجري، ومن فرط العلوم والمعارف الفائضة من مدارسها فإن صداها كان يصل نقيًا إلى آفاق العالم.

وفي الوقت نفسه كانت القيروان حاضرة تونس، هناك في أقصى الشمال الشرقي، ووريثة قرطاج التي أبادها الرومان نكايةً، فهي مدينة فاتنة وجاذبة وحالمة بالعودة تحت دوائر الضوء، وينام على خدها البحر المتوسط وتنتظر هبوب الفاتحين والغزاة مع كل ريح لتؤلف الصفحات تلو الصفحات لمن يقرأ ولمن يتعظ.

كان أبو زكرياء الحفصي رجلاً حالمًا إلى حد بعيد وكان يتدبّر أمر الانفصال وإنشاء دولته الخاصة بتونس، وبقرار شجاع كان له ذلك، فانفصل، معلنًا إمارته على تونس والتي سميت بالدولة الحفصية

وإلى حد ذاك التاريخ كان أبو زكرياء الحفصي المنتمي سياسيًا إلى الدولة الموحدية -التي أسسها سنة 1121 ميلادي محمد بن تومرت ومن بعده تلميذه مؤمن بن علي بالمغرب الأقصى وعاصمتها مراكش ووحدت كامل المغرب العربي- يتدبّر أمر الانفصال وإنشاء دولته الخاصة بتونس.

وكان الحفصي رجلاً حالمًا إلى حدّ بعيد، ومازالت صورة إشبيلية الأندلسية التي ساهم في إدارة حكمها قبل ذلك بقليل مضيئةً وتُقيم في مخيلته ولم تغادره للحظة، وبقرار شجاع كان له ذلك، فانفصل، معلنًا إمارته على تونس والتي سميت بالدولة الحفصية لتكون بذلك رابع دولة إسلامية بالبلاد التونسية بعد الدولة الأغلبية والفاطمية والزيرية.

بنى أبو زكرياء الحفصي لنفسه قصرًا بقصبة الحاضرة، لا يزال قائمًا إلى اليوم ويوجد ضمن المجمّع الإداري لمقر وزارة الدفاع التونسية، ثم ألحق به مسجدًا صغيرًا واتخذ له أتباعًا كثرًا

وبنى أبو زكرياء الحفصي لنفسه قصرًا بقصبة الحاضرة، مازال قائمًا إلى اليوم ويوجد ضمن المجمّع الإداري لمقر وزارة الدفاع التونسية، ثم ألحق به مسجدًا صغيرًا واتخذ له أتباعًا كثرًا، ناصروه وبايعوه ودعوا له في المساجد وكان ذلك سنة 1228 ميلادي.

وكان المكان الذي تخيّره أبو زكرياء الحفصي لإقامة قصره على هضبة مرتفعة تشرف من جهة الغرب على النواة الأولى لمدينة تونس، حيث تلوح مئذنة جامع الزيتونة المعمور تسامق السماء كيقين باسق ولا شيء غيرها، سوى لمعان بحيرة تونس هناك في الأفق القريب والذي كان أبو زكريا يطيل تأمله من شرفات قصره المهيب.            

جامع القصبة
قاعة الصلاة في جامع القصبة (المعهد الوطني للتراث )

وعادةً ما يكتفي رواة التاريخ بذكر أبي زكرياء الحفصي كمؤسس للدولة الحفصية بتونس ويستفيضون في الحديث عن توسعاته في اتجاه تلمسان في الجزائر غربًا وبرقة في ليبيا شرقًا، لكن هذه الشخصية تعد استثنائية لذكائها وذوقها الرفيع وحسن تدبيرها التأسيس للملك والقيادة وبسط الاستقرار.

وأراد أبو زكرياء أن تكون مدينة حكمه أجمل من مدن الأندلس المفقود، بما أنه عاش ردهًا من الوقت في الأندلس وساهم في إدارة حكم إمارة إشبيلية، فدعا العديد من الحرفيين والفنانين في مختلف الصنائع والحرف ومن مختلف المدن الأندلسية للاستقرار في تونس.

جامع القصبة كان أول بناء أمر بإنشائه أبو زكرياء الحفصي وأراد أن يكون متاخمًا لقصر حكمه وتتمةً له، وانطلقت أشغال ضخمة سنة 1231 ميلادي لتتواصل طيلة أربع سنوات

وكان أول بناء أمر بإنشائه هو جامع القصبة، وأراد أن يكون متاخمًا لقصر حكمه وتتمةً له، وفي ذلك أكثر من دلالة لعل أبرزها أن هذا الحكم لا يحيد عن الدين الاسلامي وهو حام له، فتخيّر له المسجد القديم مكانًا وانطلقت أشغال ضخمة سنة 1231 ميلادي لتتواصل طيلة أربع سنوات، إذ جلبت الحجارة لأشهر وسنوات على ظهور الدواب من مقاطع جبل الجلاز زمن الآثار الرومانية المنتشرة في الجوار وانشغل مئات الرجال بالحفر ودق الأساسات الصلبة.

وعيّن أبو زكرياء كبير معلمي البناء التونسي علي بن محمد بن قاسم مشرفًا عامًا على بناء الجامع ووضع تحت إمرته المال والرجال من مهندسين ونقاشين وبنائين، حتى يكون المعلم فريد عصره ووحيد دهره.

عيّن أبو زكرياء كبير معلمي البناء التونسي علي بن محمد بن قاسم مشرفًا عامًا على بناء جامع القصبة ووضع تحت إمرته المال والرجال من مهندسين ونقاشين وبنائين، حتى يكون المعلم فريد عصره ووحيد دهره

وبعد سنوات من العمل على أرض منحدر وبعد أشهر طويلة من صقل الرخام والحجارة يدويًا وترصيفها وتبليطها ورفع الأعمدة المنحوتة داخل القاعات وتزويق الأسقف والجدران بالنقائش، بدأ الجامع في البروز كبناية ضخمة بجهة القصبة متماهية مع جمال قصر الحاكم الجديد، واللافت إليها هو تلك الصومعة الفخمة التي جاءت مأخوذة بالمطلق والفناء والأبدية والتأمل والألفة والجمال البسيط والعميق والساحر.

جامع القصبة
صومعة مهيبة لجامع القصبة (المعهد الوطني للتراث )

تتجمع في ذهن الرائي كل هذه المشاعر وهو ينظر إلى هذه الصومعة المهيبة، وكانت هذه المعاني والمشاعر هي ما تحدث عنها أبو زكرياء للبنائين عندما كان يصف لهم تفاصيل صومعات ومآذن الأندلس ومراكش، وهي المشاعر نفسها التي كان يدركها هو بذوقه وعقله وهو ينظر إلى تلك الصومعة البديعة كقصيدة شعر من شرفات قصره.

أبو زكرياء الحفصي كان أول من أذّن بصومعة جامع القصبة، بعد أن اكتمل البناء ونودي للصلاة به لأول مرة سنة 1235 ميلادي وأطلق عليه تسمية جامع الموحدين بالقصبة

ويذكر المؤرخون أن أبا زكرياء كان هو نفسه أول من أذّن بهذه الصومعة، بعد أن اكتمل البناء ونودي للصلاة به لأول مرة سنة 1235 ميلادي.

وأطلق عليه تسمية جامع الموحدين بالقصبة، وكل هذه التواريخ تم الحرص على تثبيتها أثناء مراحل البناء نقشًا على المئذنة وأيضًا داخل الجامع، تمامًا كما في مساجد الأندلس وهي ما أغنت الباحثين مشقة التثبت والتمحيص.

جامع القصبة
زخرفة منفذة من الحجر على مئذنة جامع القصبة  (المعهد الوطني للتراث )

ويتحدث الدكتور محمد الباجي بن مامي وهو باحث تونسي مختص في العمارة الاسلامية عن جامع القصبة في مقالة تلخيصية ضمن قسم اكتشف الفن الاسلامي بمتحف بلا حدود، قائلاً إن "مع اكتمال الإنشاء والبناء أصبح جامع القصبة يستقبل صلاة الجمعة على غرار الجامع الأعظم في الزيتونة الذي بقي يلعب وحده هذا الدور حتى ذاك الوقت".

ويصف ابن مامي معمار جامع القصبة بدقة فائقة قائلاً "تتخذ قاعة الصلاة ذات المخطط المستطيل تصميمًا أكثر عمقًا منها عرضًا، خلافًا للنماذج السائدة في المساجد الإفريقية التونسية، وقسمت هذه القاعة إلى سبع بلاطات وتسعة أساكيب.

قاعة الصلاة ذات المخطط المستطيل تتخذ تصميمًا أكثر عمقًا منها عرضًا، خلافًا للنماذج السائدة في المساجد الإفريقية التونسية، وقسمت هذه القاعة إلى سبع بلاطات وتسعة أساكيب

ويتكون سقف جامع القصبة من قباب متعامدة تفصل ما بينها أقواس على شكل حدوة حصان، وهو يرتكز على أعمدة تيجانها حفصية الطابع وعلى رجل عقد ذو سطوح متوازية طويلة، أمّا محراب الجامع فتكسوه لوحات من الرخام وتعلوه قبة صغيرة جميلة من المقرنصات الجصية وتحيط به أعمدة صغيرة تيجانها منحوتة ومذهبة.

ويصف الدكتور الباجي بن مامي مئذنة جامع القصبة قائلاً "تبقى المئذنة هي العنصر الأكثر أهمية بشكل لا يقبل الجدل، فقد استوحت زخرفتها من التقسيمات الأساسية لمئذنة القصبة في مراكش التي تتقدمها بخمسين عامًا، وتمددت هذه الزخرفة المنفذة من الحجر  -وليس من الآجر كما في النموذج المغربي- بعقود مفصصة تبدأ من الأسفل وتمتدّ وتتشابك فيما بينها مشكّلة شبكةً من التشبيكات المعينية المتنوعة الألوان والبارزة على خلفية من الحجر الأمغر، لتنتشر على الواجهات الأربع للمنارة المربعة، وتزين نقيشة كتابية تؤرخ للمعلمة معينين اثنين على الواجهة الشرقية للبرج".

محراب جامع القصبة تكسوه لوحات من الرخام وتعلوه قبة صغيرة جميلة من المقرنصات الجصية وتحيط به أعمدة صغيرة تيجانها منحوتة ومذهبة

ومع دخول الأتراك إلى تونس في القرن 16 ميلادي وإنهاء الحكم الحفصي سنة 1574 ميلادي والذي امتد قرابة ثلاثة عقود، أُزيل المنبر الخشبي ذي الطراز الموحدي الحفصي لجامع القصبة وتم استبداله بمنبر من الطراز العثماني ملبّس بالرخام، وأصبحت الصلاة تُقام فيه حسب المذهب الحنفي الذي هو مذهب الحكام الجدد لتونس، إفريقية آنذاك.

جامع القصبة
 محراب جامع القصبة (المعهد الوطني للتراث )

وتبقى القصبة المكان الدائري في حاضرة تونس، الموقع الأكثر زخمًا بالتاريخ والقصص والروايات السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية، ولكن جامع القصبة الذي مازال صامدًا أمام كل شيء تحوّل مع مرور القرون إلى شاهد أساسي عما حدث في المكان وهو واجهة أساسية للحكم الحفصي، ورمز العمارة الأندلسية الأكثر جمالاً وجاذبيةً في تونس.

جامع القصبة لا يزال صامدًا أمام كل شيء وتحوّل مع مرور القرون إلى شاهد أساسي عما حدث في المكان وهو واجهة أساسية للحكم الحفصي، ورمز العمارة الأندلسية الأكثر جمالاً وجاذبية في تونس

ويشار إلى أن جامع القصبة هذا المعلم التاريخي الموجود في مربع الوزارات والمشرق على مقر رئاسة الحكومة والمطل على ساحة القصبة والمعايش لكل الأحداث الاجتماعية والثقافية والسياسية منذ قرون، مغلق منذ أشهر عديدة جاوزت السنتين من أجل الترميم والصيانة والحال أن لا إشارة أو علامة تدل على هذه الأشغال، وهو لعمري ضيم وحيف يتعرض له هذا المعلم وسط صمت الجميع، إذ أن رمضان 2024 بمدينة تونس يبدو منقوصًا دون دبيب الحياة في هذا الجامع.