31-يناير-2023
انتخابات

مثّلت نسبة الإقبال الأضعف في التاريخ السياسي للبلاد صفعة جديدة لمسار الرئيس (الشاذلي بن إبراهيم/Nurphoto)

 

أسدل الستار على الانتخابات التشريعية في تونس، آخر محطات خارطة طريق الرئيس قيس سعيّد، بإتمام تنظيم الدور الثاني الذي، وعلى غرار سابقه، لم يشهد تركيزًا على النتائج بقدر الاهتمام بنسبة الإقبال التي بلغت 11.4% فقط أي ذات النسبة المسجلة في الدور الأول، رغم دعوة سعيّد سابقًا لانتظار ما وصفه بـ"الشوط الثاني"، ورغم تقديرات هيئة الانتخابات تسجيل نسبة تتراوح بين 20 و30%.

مثّلت نسبة الإقبال الأضعف في التاريخ السياسي للبلاد صفعة جديدة لمسار الرئيس بما يطرح، بوضوح، مشروعية البرلمان الجديد كممثل للشعب، دونًا عن تعزيزه لأطروحة عدم شرعية المسار بالنسبة لقوى المعارضة

مثّلت، بذلك، نسبة الإقبال الأضعف في التاريخ السياسي للبلاد بالخصوص مقارنة بالانتخابات التشريعية زمن العشرية الماضية، بل هي الأضعف عالميًا بحسب مصادر متخصصة، صفعة جديدة لمسار رئيس الجمهورية للانتقال المؤسساتي الجديد المفروض بعد 25 جويلية/يوليو 2021، بما يطرح، بوضوح، مشروعية البرلمان الجديد كممثل للشعب، دونًا عن تعزيزه لأطروحة عدم شرعية المسار بالنسبة لقوى المعارضة.

  • مقاطعة تاريخية: سقوط شعبية مسار سعيّد

انتقد رئيس الجمهورية الاهتمام بنسبة الإقبال في الدور الأول، في الشهر المنقضي، داعيًا لانتظار نسبة الدور الثاني، وهو موقف أثار غرابة على اعتبار أنه في التجارب المقارنة عادة ما تنخفض هذه النسبة. لم تأت النتيجة، فعليًا، بغير المتوقّع بل أكدت ثبات نسبة الإقبال بنسبة بلغت 11.4 %.

رغم حملات التوعية المكثفة لهيئة الانتخابات ومن ذلك توجيهها 120 مليون إرسالية قصيرة، وثبوت جلب مسنّين من دور رعايا، لم يتحقّق المرجّو، وهو بلوغ نسبة 30%

في هذا الجانب، سعت هيئة الانتخابات، وعلى خلاف الدور الأول، لتمييز الناخبين بين المسجلين إراديًا والمسجلين آليًا، لأسباب قالت إنها بيداغوجية، بيد أن النتيجة المفصّلة لم تكن متغيّرة: نحو 14% من المسجلين إراديًا فقط ذهبوا لصناديق الاقتراع. رغم حملات التوعية المكثفة لهيئة الانتخابات ومن ذلك توجيهها 120 مليون إرسالية قصيرة، وثبوت جلب مسنّين من دور رعايا، لم يتحقّق المرجّو، وهو بلوغ نسبة 30%.

وقد شابت الانتخابات أسئلة جديّة حول شفافيتها في ظلّ تعتيم رؤساء مراكز الاقتراع على المعلومة وبالخصوص الامتناع عن تمكين أعوان الجمعيات الانتخابية من نسب الإقبال طيلة يوم الاقتراع، دونًا عن الاعتداءات غير المسبوقة على ممثلي وسائل الإعلام. هذه الأسئلة تعزّز مواضع غياب النزاهة وبالخصوص تغطية التلفزة العمومية ذات الطابع الانحيازي للسلطة، وهو ما أثار موقف نقابة الصحفيين التي تحدثت عن تحوّل التلفزة إلى جهاز دعاية للسلطة بتكريس منطق الرأي الواحد وتعمد إقصاء صوت المعارضة.

شابت الانتخابات في تونس أسئلة جديّة حول شفافيتها في ظلّ تعتيم رؤساء مراكز الاقتراع على المعلومة وتسجيل اعتداءات غير مسبوقة على ممثلي وسائل الإعلام

في الأثناء، بعيْد نحو ساعتين من إعلان النتائج الأولية، نشرت الرئاسة التونسية فيديو لزيارة قيس سعيّد لمقرّ رئاسة الحكومة بالقصبة ليخاطب رئيسة الحكومة نجلاء بودن، تعليقًا على نسبة الإقبال، معتبرًا أن الأهم هو احترام المواعيد، وأن الرسالة من نسبة الإقبال هي رفض التونسيين لمؤسسة البرلمان بسبب أعمال البرلمان المنحلّ.

في ذات الفيديو، وجّه سعيّد، كعادته، حزمة من التهم المتكرّرة للمعارضة التي اتهمها هذه المرة بالخيانة العظمى للشعب التونسي. وجاء نشر هذا المقطع تزامنًا مع قراره إعفاء وزيريْ التربية والفلاحة دون أي شرح للأسباب، ليعيّن بدلًا عنهما، على التوالي، القيادي في مبادرة "لينتصر الشعب" الداعمة لسعيّد محمد علي البوغديري، والمتفقد العام للقوات المسلحة عبد المنعم بالعاتي.

 

 

تضع نسبة الإقبال الضعيفة جدًا، من جديد، مشروع قيس سعيّد أمام محكّ الامتحان الشعبي، وهو الذي يقدّم مشروعه منذ 25 جويلية/يوليو 2021 بأنه ترجمة للإرادة الشعبية العامة. لا تمثل ضعف نسبة الإقبال في التشريعيات أول انتكاسة "شعبية" لسعيّد، إذ شهدت الاستشارة الوطنية، المنظمة خلال الثلاثي الأول من العام الفارط، مشاركة في حدود 6% من الجسم الانتخابي.

تعد نسبة المشاركة المسجلة رسالة واضحة على رفض الأغلبية القاطعة من التونسيين الانخراط في التأسيس المؤسساتي الجديد، وهو رفض يعكس تعبيرًا عن غضب أيضًا من سوء إدارة سعيّد للبلاد منذ ما يزيد عن عام ونصف

النسبة الأخيرة المسجّلة تعدّ رسالة واضحة على رفض الأغلبية القاطعة من التونسيين الانخراط في التأسيس المؤسساتي الجديد، وهو رفض يعكس تعبيرًا عن غضب أيضًا من سوء إدارة سعيّد للبلاد منذ ما يزيد عن عام ونصف، مع تصاعد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لمستوى غير مسبوق، جعل عديد المواد المعيشية الأساسية مفقودة إضافة للغلاء المشطّ في الأسعار.

يفضّل البعض، في الأثناء، التمييز بين المقاطعة والعزوف باعتبار أن الأولى ناتجة عن وعي ضد خيار سياسي والثانية هي تعبير عن عدم اهتمام بالشأن الانتخابي برمّته شمل جميع المحطات الانتخابية في تونس، وهذا التمييز يأتي واقعًا، من أنصار الرئيس، للتقليص من تسليط الضوء على المقاطعة الشعبية للانتخابات.

وهو تمييز غير مفيد بيداغوجيًا باعتبار أن عدم التوجه لصندوق الاقتراع هو موقف في جملته، ثم أنه غير مفيد عمليًا باعتبار الفارق الشاسع بين نسبة الإقبال في آخر انتخابات تشريعية عام 2019 (41%)  ونتيجة الانتخابات الأخيرة (11%)، أي فارق بنحو 4 أضعاف دفعة واحدة.

يبدأ سعيّد تركيز مؤسسات الدستور الذي كتبه بنفسه ببرلمان معطوب المشروعية كممثل للشعب التونسي سيتولّى بالنيابة عنه ممارسة الوظيفة التشريعية

يبدأ بذلك سعيّد تركيز مؤسسات الدستور الذي كتبه بنفسه ببرلمان معطوب المشروعية كممثل للشعب التونسي سيتولّى بالنيابة عنه ممارسة الوظيفة التشريعية. ولكن الأهم أن نسبة الإقبال تضع من جديد مشروعية مسار سعيّد برمّته موضع سؤال. وعدا نسبة الإقبال، فالرقم المهم الآخر، وبالغ الرمزية، أن زهاء ثلثي الناخبين في الدور الثاني (67%) هم ممن يتجاوز سنهم 46 عامًا بل أن الفئة الأولى للشباب (من 18 إلى 25 سنة) لا تمثل إلا 4.85% من نسبة الناخبين. تجاوزًا لمسألة مشروعية البرلمان، يُطرح السؤال، هنا، عن الضعف الفادح لمشاركة الشباب بما يؤشر على موقفهم الحاد من المسار السياسي للبلاد.

 

 

  • برلمان غير مكتمل.. برلمان صوري

في لمحة على نتائج الانتخابات، يتبيّن انتخاب 25 امرأة من جملة 154 نائبًا بما يجعل البرلمان الجديد هو الأقل تمثيلية للمرأة مقارنة بجميع البرلمانات بعد الثورة التي استفادت من نظام الاقتراع النسبي على القائمات مع التناصف الأفقي حسب الجنس. في مشهدية المنتخبين، وباعتبار اعتماد نظام الاقتراع على الأفراد، يصعب تحديد التوجه السياسي أو الأيديولوجي الغالب للنواب، ولكن تبيّن النتائج في بعض الدوائر صعود أشخاص يقدّمون أنفسهم من أبناء "مشروع الرئيس".

البرلمان الجديد سيكون الأقل تمثيلية للمرأة مقارنة بجميع البرلمانات بعد الثورة التي استفادت من نظام الاقتراع النسبي على القائمات مع التناصف الأفقي حسب الجنس

حزبيًا، وعلى اعتبار مقاطعة جلّ الأحزاب السياسية، لم تبيّن النتائج إلا صعود بعض نواب من حركة الشعب، الداعمة لمسار سعيّد، بل أن أحدهم أسقط، في دائرة جرجيس، جنوبي البلاد، الناشط أحمد شفطر الذي تقدمه بعض وسائل الإعلام بأنه "الناطق باسم الحملة التفسيرية لقيس سعيّد". والملاحظ أيضًا معاينة صعود بعض النواب ممن كانوا أعضاء في برلمانات سابقة بعد الثورة تحديدًا عن حزب "نداء تونس".

المفارقة التي تزيد في تعسير تأمين انطلاق البرلمان الجديد عدا شبهات ضعف مشروعيته، وهي الحجة التي ستظل تواجهه من قوى المعارضة، هو أن البرلمان ستنطلق أعماله بـ154 نائبًا فقط، وذلك بعد تعذر انتخاب عدد من نواب ممثلي دوائر الخارج بسبب عدم وجود ترشحات أو رفض هيئة الانتخابات للترشحات المقدمة. وذلك في انتظار إما تنظيم انتخابات جزئية بالقانون الحالي أو انتظار تعديل البرلمان للقانون الانتخابي.

من الملاحظ معاينة صعود بعض النواب ممن كانوا أعضاء في برلمانات سابقة بعد الثورة تحديدًا عن حزب "نداء تونس"

البرلمان الجديد مختلف عن سابقه جوهرًا من حيث موقع كل منهما في الهندسة المؤسساتية للبلاد، ذلك أن البرلمان في دستور 2022 المكوّن من غرفتين: مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم، هو منزوع الصلاحيات مقابل تغوّل السلطة التنفيذية ممثلّة في رئيس الجمهورية.

عدا الجانب التشريعي، تنعدم أي صلاحية فاعلة في الجانب الرقابي، ومن ذلك، على سبيل الذكر، تستلزم لائحة لوم للحكومة تصويت ثلثيْ أعضاء الغرفتين البرلمانيتين مجتمعين، دونًا عن إمكانية البرلمان مساءلة رئيس الجمهورية أو عزله.

بغض النظر عن التوازنات داخل البرلمان القائم على الأفراد مع غياب التشكيلات الحزبية الوازنة، لن يكون إلا برلمانًا صوريًا، باعتبار تغوّل السلطة التنفيذية في نظام سياسي يصفه خبراء بأنه رئاسوي بامتياز

لذلك، وبغض النظر عن التوازنات داخل البرلمان القائم على الأفراد مع غياب التشكيلات الحزبية الوازنة، فلن يكون إلا برلمانًا صوريًا، باعتبار تغوّل السلطة التنفيذية في نظام سياسي يصفه خبراء بأنه رئاسوي بامتياز بعودة نواة العملية السياسية من باردو إلى قصر قرطاج. لكن رغم ذلك يظل السؤال الجوهري: إلى أي مدى يمثل البرلمان الجديد التونسيين؟

  • مشهد ما بعد الانتخابات: استدامة الأزمة 

الأصل أن يمثل تنظيم انتخابات مخرجًا لأزمة سياسية، بيد أنه، راهنًا، لم يكن تنظيم الانتخابات التشريعية إلا محفزًا لتصاعد الأزمة السياسية بالبلاد، وهو ما جعل أحزاب المعارضة وبالخصوص "جبهة الخلاص" تسارع للتأكيد، بعد إعلان نتائج الدور الأول، على عدم مشروعية البرلمان القادم إتمامًا لعدم شرعية المسار السياسي، باعتباره انقلابًا.

الأصل أن يمثل تنظيم انتخابات مخرجًا لأزمة سياسية، بيد أنه، راهنًا، لم يكن تنظيم الانتخابات التشريعية إلا محفزًا لتصاعد الأزمة السياسية في تونس

اعتبار رئيس الجمهورية أن ضعف نسبة الإقبال عاكسة لموقف من مؤسسة البرلمان بذاتها أكثر من  أن يكون موقفًا من المسار السياسي بالبلاد، يبيّن أن النسبة المسجلة، رغم ضعفها التاريخي والفادح، لن تؤدي، بالنسبة إليه، لمراجعات سياسية. إذ من المنتظر مواصلة تركيز مؤسسات "النظام الجديد" ليؤدي البرلمان اليمين في شهر مارس/آذار المقبل بعد إعلان النتائج النهائية.

في المقابل، وجدت المعارضة السياسية، بالخصوص الحزبية، مسوغّا جديدًا لتعزيز أرضية معارضتها لسعيّد، ذلك أن ضعف نسبة الإقبال يؤكد غياب رافعة شعبية للمسار الحالي، بما يدفع، تاليًا، بالنسبة لجبهة الخلاص مثلًا، للتشديد على مقترحها بتنظيم انتخابات رئاسية سابقة لأوانها.

وجدت المعارضة السياسية، بالخصوص الحزبية، مسوغّا جديدًا لتعزيز أرضية معارضتها لسعيّد، ذلك أن ضعف نسبة الإقبال يؤكد غياب رافعة شعبية للمسار الحالي

من المنتظر، في الأثناء، أن تمثل نسبة الإقبال حافزًا لتكثيف الرباعي المدني (اتحاد الشغل وهيئة المحامين ورابطة حقوق الإنسان ومنتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية) لمشاورات إعداد خارطة الطريق، بعد سابق تشكيل لجان فرعية لتحديد الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

بذلك، بقدر ما يمثل طيّ صفحة الانتخابات التشريعية اختتامًا لخارطة طريق سعيّد، فإنه، وبالخصوص مع نسبة الإقبال الضعيفة جدًا، يفتتح صفحة جديدة من كتاب الأزمة المركبة في البلاد: تصاعد الأزمة السياسية خاصة بتصاعد سؤال المشروعية الشعبية توازيًا مع أزمة معيشية غير مسبوقة ينذر استمرارها بانفجار اجتماعي غير معلوم العواقب.