05-نوفمبر-2017

يظهر أن كلًا من النهضة ونداء تونس في خندق واحد، لكن المسافة بين قواعدهما بعيدة (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

"هل بلد تقوم على تحالف بين رئيس عمره 93 سنة ورئيس حزب عمره 76 سنة، هو فعلا مستقرّ، ماذا قد يحصل لو يتوفّى أحدهما"، هذا تصريح عبد الفتاح مورو نائب رئيس البرلمان التونسي، ونائب رئيس حركة النهضة، في حوار قبل أيّام لصحيفة سويسرية، اعترف بموجبه بهشاشة التحالف السياسي بين حزب نداء تونس وحركة والنهضة، اللذين يقودان الائتلاف الحكومي في تونس منذ انتخابات 2014.

اعترف عبدالفتاح مورو بهشاشة التحالف السياسي القائم بين نداء تونس والنهضة اللذين يقودان الائتلاف الحاكم في تونس منذ 2014

ويرفع تصريح عبد الفتاح مورو مجدّدًا الغطاء عن حقيقة هذا التحالف بين الحركتين، والمُسمّى بالتوافق، في ظلّ تعطل مسار الانتقال الديمقراطي من حيث تركيز المؤسسات الدستورية وآخرها تأجيل الانتخابات البلدية، إضافة لتصاعد الأزمة الاقتصادية وسط احتقان اجتماعي يُخشى انفلاته.

اقرأ/ي أيضًا: تأجيل الانتخابات البلدية في تونس.. ارتداد آخر عن مسار التحول الديمقراطي

تحالف رجلين لا حزبين

ورغم أن ما قاله عبد الفتاح مورو، كان قد سبقه إليه قيادات من النهضة، منهم عبد اللطيف المكّي الذي لا يخفي تحفّظه على توجّه قيادة حركته، إضافة وأن مضمونه ما قاله مورو تردّده المعارضة لنقدها ما تسمّيه "التوافق المغشوش"، إلا أنه مع ذلك يمثّل تصريحًا فارقًا، بالنظر لصفة المصرّح به.

ويحمل عبد الفتاح مورو صفة نائب رئيس البرلمان، كما أنه نائب رئيس حركة النهضة، ليكون بذلك إقراره بهشاشة التوافق الحاصل، بمثابة اعتراف ضمني بفشل كلٍّ من الباجي قايد السبسي رئيس الجمهورية والرّئيس الشرفي لحركة نداء تونس، وراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، في الانتقال بتوافقهما على الإدارة المشتركة للبلاد، من مستوى القيادة إلى مستوى الحزبين، بل وأعمق لمستوى النظام القديم والثورة، كما يحاول البعض تصوير ذلك بعنوان المصالحة.

وما يثير أن التصريح المُشار إليه، صادر من واحد من أثير قيادات النهضة دعمًا وتحمسًا للتوافق بين الرجلين منذ ما قبل انعقاده، فلم يكن تصعيد مورو لنيابة رئاسة البرلمان إلا تأكيدًا لذلك. ولذلك كان تصريحه مفاجئًا، مما حدا بوزير الصناعة والقيادي بحركة النهضة عماد الحمّامي، أن يصف التصريح بأنه "غير مقبول"، بل قال أنه سيتمّ مناقشته داخل هياكل الحركة.

وكلّما جاء الحديث عن اتفاق السبسي والغنوشي، جاء الحديث عن "لقاء باريس" الشهير، الذي جمع الرّجلين في آب/أغسطس 2013، في خضم الأزمة السياسية حينها بعد اغتيال الشهيد محمد البراهمي، ومطالبة المعارضة التي كان يترأسها السبسي بحلّ المجلس التأسيسي. حيث يُنظر دائمًا لهذا اللقاء بأنه حجر الأساس لاتفاق ما بعد انتخابات 2014، لتكوين التحالف الحكومي الذي عرف في أقل من ثلاث سنوات رئيسي حكومة وتعديلين حكوميين جوهريين.

وكان ولا زال السّؤال دائمًا حول مضمون هذا الاتفاق وضمانات تنفيذه. وثمة قناعة بأن الاتفاق موقوف على الرجلين، السبسي والغنوشي، ولم يقع تمريره في جوهره لحزبيهما، ولعل تعامل الحزبين طيلة السنوات الأخيرة يؤكد هذه القناعة، وسط حذر وريبة وانعدام ثقة، وذلك في ظل غياب مضمون معلن على نقاط الاتفاق، وذلك وفق ما تفترضه التحالفات الحكومية.

ففي بداية سنة 2015، استقال عبد الحميد الجلاصي نائب رئيس حركة النهضة من منصبه، على خلفية عدم وجود ضمانات للتحالف مع نداء تونس، ولاحقًا برز اسم عبد اللطيف المكي قائدًا لتيارٍ داخل النهضة يُعلن قبوله المبدئي بالتحالف، ولكن ينكر عليه أداءه، وهو ما يجعل المكي لا يتردد طيلة الأشهر الأخيرة في الدعوة لمراجعة هذا التحالف.

ولعلّ صدى صوت عبد اللطيف المكي يجد لنفسه مكانًا لدى قواعد الحركة، من الذين لا زالوا لم يهضموا بعد وضع اليد مع النظام القديم، رغم العناوين المصدّرة لذلك من قبيل المصالحة وطي صفحة الماضي. وكان الأمل في العدالة الانتقالية ككلمة السرّ. إلا أنّ استنكاف السلطة الجامعة للنداء والنهضة، على دعم مسار العدالة الانتقالية وتعطيله، بل ومسارعة رئيس الجمهورية لإصدار قانون للعفو عن الفاسدين، يؤكد بأن تأمين العدالة الانتقالية لم يكن -كما يتوقع العديد من أنصار النهضة- ضمانة التحالف مع السبسي.

لقاء باريس في 2013 كان بداية التحالف بين السبسي والغنوشي، وهو التحالف الموقوف على الرجلين، دون أن يمرر بما فيه الكفاية لحزبيهما

مع ذلك، لم يُؤد التحالف في النهاية لانشقاقات داخل النهضة، فمثلًا ظلت كتلتها النيابية موحدة، وذلك خلافًا لنداء تونس الذي انشقّ لأحزاب عديدة، وفقدت كتلته النيابية ما لا يقلّ عن ثلث أعضائها.

اقرأ/ي أيضًا: صراع مُبكر داخل "نداء تونس" على انتخابات 2019.. الشاهد في مواجهة السبسي

ولا يبدو أن أعضاء كتلة نداء تونس مقتنعين كفايةً بالتحالف مع النهضة، التي كانوا يتهمونها بالإرهاب وبأنها خطر على المجتمع والدولة، وذلك قبل سنوات قليلة. وثمة حالة انفصام عكستها مؤخرًا مبادرة تكوين جبهة برلمانية من أجل تجميع القوى التقدمية الوسطية كما يدّعي أصحابها، وهي كتلة تعتبرها حركة النهضة تستهدفها، وقال عنها الغنوشي قبل أيام، إنها "استمرار لمنطق الاقصاء والاستئصال الذي يستهدف الحركة". وكان قد أيّد نواب من نداء تونس هذه الجبهة البرلمانية، فيما أعلن الحزب رفضه الانضمام إليها، وهو ما يبيّن استمرار التباين في التعاطي مع حركة النهضة.

الانتخابات البلدية.. هل هي جرس إنذار؟

قبل أسابيع، وجه السبسي لطمة مباغتة لحركة النهضة عندما قال: "أردنا جلبها للمدنية، ولكننا أخطأنا"، كما بدت مبادرته من أجل المساواة في الميراث، بمثابة قفز على النهضة ومحاولة توريط حليفه في مسألة تعني الحركة كثيرًا، خاصة تجاه كتلتها الانتخابية. وبدا السّبسي يناكف حليفه في رسالة خفيّة، وإن حاول التدارك لاحقًا، بقوله إن النهضة في تطوّر.

وتظهر الصّورة دائمًا بأن السّبسي يساوم حليفه تارة، فيعطيه شهادة في حسن السّلوك، وتارة لا. وفي برنامج تلفزي قبل أسبوع، توجه لطفي العماري، وهو صحفي كان مقرب بدرجة كبيرة لنظام بن علي، بسؤال للقيادي بالنهضة عبداللطيف المكي: "بماذا يساومكم السبسي؟".

وبغض النظر عن خلفية الصّحفي، فالسؤال يردّده الكثير من التونسيين بالنظر للتنازلات الكبيرة التي قدمتها حركة النهضة. فرغم أنها الكتلة البرلمانية الأولى بـ68 نائبًا، إلا أنّ رئيسي الحكومة والبرلمان ينتميان لحزب نداء تونس، أما في التشكيل الحكومي، فللنهضة وزيران فقط.

وتقول قيادات النّهضة في العلن إن الحركة قدّمت المصلحة العامّة على حساب المصلحة الحزبية، وأنها ليست بحاجة لمناصب بقدر ما تريد المساهمة في إنجاح المسار الديمقراطي، ويُضاف إلى ذلك حديث في السّر بأن النهضة لا تريد أن تورطّ نفسها في صدارة السلطة في مناخ سياسي واجتماعي متقلّب. وهو قول بالحساب المبدئي والبراغماتي قد يبدو مقبولًا للوهلة الأولى، إلا أن حجم التنازلات التي قدمتها الحركة، بدا ثقيلًا في كلّ الأحوال، ولعلّ آخر هذه التنازلات قرار حركة النهضة بعدم تقديم مرشّح للانتخابات البرلمانية الجزئية في دائرة ألمانيا، وإعلان دعم مرشّح النداء.

إلا إن الانتخابات البلدية ربّما هي محطة مفصلية في تقييم متانة تحالف السبسي والغنوشي، حيث عطل السبسي وحزبه تنظيم هذه الانتخابات، وذلك على خلاف النهضة التي كان تدفع نحو تنظيمها في موعدها. وأعلن الغنوشي مؤخرًا عن خشيته من حصول أحداث تبرّر تأجيل الانتخابات البلدية مجددًا إلى ما بعد 2019، أي ما بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ولم يكن حديثه من قبيل التخمين، حيث أثبت أداء حركة نداء تونس وحلفائها الصغار في البرلمان، على توجه نحو تعطيل تنظيم الانتخابات البلدية بتعلّات تبدو واهية.

فهل ستبلغ تنازلات حركة النهضة نحو تأجيل الانتخابات البلدية إلى ما بعد 2019؟ وكذلك هل ستقبل الحركة بنوايا نداء تونس لتعديل الدستور والعودة للنظام الرئاسي بدل النظام الحالي الذي يكفل للإسلاميين نفوذًا من بوابة البرلمان؟ الإجابة تعود ربّما إلى ما أشار إليه ضمنيًا عبد الفتاح مورو في تصريحه، وهو عدم هضم حركته بعد للتحالف مع السبسي، الذي يُعتبر حاملًا للواء النظام القديم، حيث يصعب أن يقبل جسم النهضة مواصلة تقديم تنازلات قد تبين في النهاية، أنها كالحبل الذي يلفّه الفرد حول رقبته. وإن ما كان السياق الإقليمي دائمًا في الحسبان، فالخشية تزداد.

يظهر أن نداء تونس والنهضة في خندق واحد، لكن المسافة بينهما تبدو متباعدة، على الأقل بين قواعدهما

إذن، فما زال حزبا النداء والنهضة يتصيّدان لبعضهما البعض، يظهران في خندق واحد لكن المسافة بينهما بمسافة تاريخ البلاد لم يقع طيّها بعد. وما زالت قواعدهما متنافرة، فلم تتحقّق المصالحة الوطنية في تونس مع عرقلة مسار العدالة الانتقالية، ولا يبدو أنه بالإمكان الحديث عن استقرار إلا بعد تحقيق هذه المصالحة، والتي من شروطها كشف الحقيقة والمحاسبة، وهما عنصران يصعب أن يكون قد اتفق عليهما السبسي والغنوشي.  ولذلك كانت إجابة مورو بمثابة كابوس حقيقي، فماذا لو مات أحدهما؟ ببساطة، لا توجد ضمانات على استمرار التوافق الحذر بينهما، والحديث عن استقرار في البلاد لمجرّد اتفاق بين رجلين ليس استقرارًا بل على الأرجح هدنة ما زالت عناوينها غامضة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الإجابة ليست تونس!

مقعد ألمانيا.. ملهاة جديدة في تونس